الإسكندرية- الجمعة 3 فبراير 2012 توجّهتُ لصلاة الجمعة في مسجد القائد إبراهيم، حيث مكان التجمع للثوار السكندريين للمسيرات والتظاهرات الحاشدة المتوجهة عادة باتجاه المنطقة الشمالية العسكرية؛ باعتبارها ممثلة الحكم العسكري بالمدينة، وتشترك في تنظيم هذه التظاهرات حركات 6 إبريل والاشتراكيين الثوريين، واللجان الشعبية للدفاع عن الثورة (تلك الأخيرة تختصّ بالتأمين).. وتشارك فيها مجموعة من الأحزاب المدنية والمنظمات الثورية الأخرى ومجموعات الألتراس.
في هذه الجمعة قرّر المنظمون أن تتوجه المسيرة لمنطقة "رأس التين".. هذا يعني أن المسار بعكس اتجاه المنطقة الشمالية والتي تقع على مسافة غير بعيدة منها مديرية أمن الإسكندرية، كان هذا قرارًا حكيمًا؛ لأن المشاعر كانت مشحونة بالغضب بعد مذبحة بورسعيد، خاصة مع استشهاد أحد قيادات الألتراس السكندريين هناك.
وكذلك لأن ثمة مجموعة من الأشخاص المندسين بين الثوار اعتادوا إثارة المشكلات، بحكم أن بعضهم من أصحاب النزعات العنيفة، ويخرج في التظاهرات باحثًا عن مشاجرة فحسب، وبعضهم معروف بتاريخه الملوّث في العمل ك"مخبر" يتجسس على زملائه لصالح جهاز مباحث أمن الدولة المنحلّ، والبعض الآخر ما زال يتلقى أجرًا من بعض فلول الحزب الوطني السابق، وعلى رأسهم شخص مشهور بحكم قرابته من الدرجة الأولى لرئيس مصري راحل، فضلاً عن كونه رئيسًا لواحد من أشهر الأندية المصرية.. ويمكننا استنتاج الخدمات التي يقدّمونها له مقابل هذا الأجر!
هذه المجموعة المثيرة للمتاعب والمعروفة بخيانتها للثورة اصطلح الثوار السكندريون على تسميتها "ائتلاف زحلقني"! فقد اعتاد هذا الائتلاف إفساد الفعاليات الثورية، كما تورطت في عدة محاولات لخلق صدام بين الثوار والجيش (كصدام يوم 22 يوليو 2011 أمام المنطقة الشمالية)، أو مع المواطنين (بدا هذا واضحًا خلال اعتصام 8 يوليو) كما اعتاد خلال تلك المواجهات اختطاف بعض الثوار وتسليمهم للأمن باعتبارهم بلطجية! والمصيبة أنهم خادعون لمن لا يعرف حقيقة أمرهم، حتى إني كنت منخدعًا بهم لفترة طويلة حتى نبهني بعض الأصدقاء من الناشطين في حركتي 6 إبريل والاشتراكيين الثوريين!
فوجئتُ بعد الصلاة بالمسيرة تخالف خط السير المُعلَن -رأس التين- وتتجه للمنطقة الشمالية كما كان الوضع من قبل.. توجهت ل"كابتن سعيد" منسق اللجان الشعبية، فوجدته في حالة ثورة شديدة.. فما حدث هو أن بعض الشباب من "زحلقني" استغلوا تأخّر وصول القوى السياسية التي اعتادت قيادة التظاهرة وحركوها هم بالهتاف والتجمهر باتجاه المنطقة الشمالية.. كان النقاش حول ما إذا كان علينا أن نقاطع التظاهرة كلها لإفساد أي مخطط من "زحلقني" لخلق صدام أم أن نستمر معها لنتدخل لمنعهم من ذلك؟
استقر رأينا -رفاقي وأنا- على السير مع التظاهرة للتدخل حال حدوث أية مشكلات.. ووجدت أن هذا كان قرار عدد كبير من الثوار المعروفين.. والحمد لله مرّت المسيرة على خير.. ولكن في المساء بدت بوادر القلق تظهر.
فبعد وقفتنا أمام المنطقة الشمالية ترددت أصوات تنادي بالتوجه لمنطقة سموحة، حيث تقع مديرية الأمن.. ومنطقة سموحة بها اعتصام محدود لبعض القوى الثورية الوطنية حقًا، وهو يبعد شارعًا واحدًا عن المديرية.. ولكن المشاركين به ملتزمون دومًا بعدم غلق الطريق أو الاقتراب من المديرية.. المشكلة أننا حين وصلنا لسموحة وجدنا دعاوى تتردد للتوجه لمديرية الأمن.. قابلت كابتن سعيد وأبلغته فأخبرني بأن صوته قد بُحّ في محاولة منع شباب "زحلقني" من دفع المتظاهرين لتلك الكارثة.. وبدا لنا الفخ واضحًا.
توجّهنا أنا وصديق لي لاستطلاع الأمر عند المديرية للوقوف على ما يجري.. سرنا بهدوء واقتربنا، فرأينا زمرة من الشباب صغير السن غير مألوف الملامح تقف وتحاول استفزاز الأمن المركزي الواقف لحراسة المبنى.. ورأيت بنفسي أحدهم يلقي الحجارة على كلا الاتجاهين؛ الأمن والمتظاهرين.. لكن للأمانة لم تكن هيئتهم هيئة بلطجية أو مأجورين، بل هيئة شباب مراهق غاضب على قدر واضح من الطيش.. بعكس باقي الثوار الذين التزموا عدم التوجه للمديرية يومها. (وأرجو ألا يقيس أحد ذلك على من كانوا يتظاهرون عند وزارة الداخلية بالقاهرة.. فالفارق واضح).
عدنا -صديقي وأنا- لمكان الاعتصام وفي نفس الوقت تلقيتُ مكالمة من صديق من شباب جماعة الإخوان المسلمين أبلغني أن مصدرًا موثوقًا منه بالجماعة أبلغه أن أحد رجال الأمن المنتمين للنظام السابق قد قام بجمع البلطجية والمسجلين الخطرين من إحدى المناطق المعروفة بكثافة وجودهم، وقرر التوجه بهم لإنزالهم عند مديرية الأمن.
طبعًا خبر مرعب ويعني أمرًا من اثنين: إما أن هؤلاء المسجلين سيهاجموننا جميعًا أو أنهم سيهاجمون المديرية؛ ليعطوا الأمن ذريعة لمهاجمتنا بشراسة بل وفضّ الاعتصام ذاته (وهو يبعد بشكل معقول عن المديرية؛ لأن الشارع الفاصل طويل جدًا).
ثم تلقيتُ معلومة أخرى أن أحد أشهر شباب "زحلقني"، وهو معروف بشدة كمخبر وجاسوس على الثوار، بتنظيم تظاهرة حاشدة تتجه لسموحة.. طبعًا يمكننا توقّع الكارثة!
أسرعتُ بإبلاغ كابتن سعيد -منسق اللجان الشعبية- بالخبر، وأبلغتُ كل من أعرفه من الموجودين بالاعتصام من أعضاء الحركات المختلفة، وكذلك من بعض الأحزاب الموجودة بالتظاهرة، وأخبرتُ بعض شباب حزبي "مصر الحرية" (وقد وجدتُ أن تلك الأخبار قد سبقتني بالفعل لشباب بعض الحركات والمجموعات مما طمئنني)، ووجدت إجماعًا غير متفق عليه مسبقًا من الجميع بتجنب الاحتكاك بالمديرية، وبالانسحاب من محيطها تمامًا إذا وقع صدام.. كان موقفنا الجماعي كالآتي: إذا كان ائتلاف "زحلقني" يرغب في ضرب الأمن بنا وضربنا به، فلنعكس السحر على الساحر، ولنتركه وحده في مواجهة مع الأمن، ولنلتزم نحن كثوار سلميين عدم الانجراف للاستفزاز والتحفيز السلبي.
بالفعل بدأ الفصل الأخير من الفخ.. ووجدنا بعض الشباب يغلقون الميدان الذي يقع به الاعتصام، وهو إغلاق غير مُبَرّر؛ لأن العدد المعتصم فعليًا لم يكن كبيرًا لهذا الحد.. ولأن هذه الخطوة كانت في حقيقتها تصعيدًا ضد المواطنين وليس ضد النظام بعكس ما قد يحدث أحيانًا في التحرير.
هنا بدأ انسحاب الجميع كل لسبيله، والتزم المعتصمون اعتصامهم، ووجد شباب "زحلقني" أنفسهم في وجه المدفع الذي أرادوا إطلاقه في وجوهنا! وبالفعل في المساء وقّعت مواجهات قوية، ولكنها لم تستغرق وقتًا يُذكَر، ولم تنتج عنها أية خسائر في الأرواح ولا الممتلكات، وحتى الإصابات كانت لا تُذكَر بين الثوار والمواطنين.. ولكن مع الأسف أصيب المناضل الثوري والفنان السكندري حكيم عبد النعيم (الاشتراكيين الثوريين) بطلقات خرطوش في ساقه خلال محاولة يائسة منه لإقناع الموجودين بالانسحاب من محيط المديرية، ولو قارن القارئ بين مواجهات مديرية أمن الإسكندرية وتلك في بعض المحافظات الأخرى، لوجد أن مواجهات الإسكندرية قد انتهت خلال أقصر وقت ممكن.
وهكذا أحبطنا فخ "ائتلاف زحلقني"!
أجمل شيء أن قرار الانسحاب وتوريط "زحلقني" في الأمر لم يكن بناءً على مشاورات واجتماعات أو بعد شد وجذب، بل فوجئت بأني كلما أبلغتُ أحد الثوار بما أعرف وجدته تلقائيًا متوقعًا لنفس الفخ ورافضًا السقوط فيه.. أي أنه حتى دون أن أبلغ أحد بشيء كان الفخ سيفشل.. فالجميع كان قد اكتسب خبرة بألاعيب هؤلاء!
منذ أيام، وبعد أن فاض كيل ثوار الإسكندرية ب"زحلقني" قام البعض بعمل مدونة وضع بها صور وتاريخ "قيادات" هذا الائتلاف، وجميع أدلة إدانتهم.. وهكذا نستطيع أن نقول إن ثوار الإسكندرية قد قضوا على الاختراق!
لماذا أعرض تلك التجربة التي قد يراها البعض خاصة؟ لأنها في الحقيقة نموذج قوي لما ينبغي تطبيقه بين الثوار في الفعاليات الثورية؛ لضمان عدم إفسادها وعدم استغلال أعداء الثورة ذلك لتشويه صورة الثوار.. الغضب الثوري مطلوب.. ولكن علينا أن نكون على قدر عالٍ من اليقظة والتنظيم ومراقبة تصرفات بعضنا.. صحيح أن هذا يسهل في مدينة صغيرة كالإسكندرية عنه في تجمع ثوري كبير في القاهرة، ولكنه ليس مستحيلًا.. فقط علينا التزام الحذر.. فمع الأسف في كل مكان ثمة "ائتلاف زحلقني" يخطّط ويدبر لإفساد ما نبذل وقتنا وجهدنا وحياتنا لأجله!