ثورة على الثورة (2) "الثورة هي شعب.. والشعب هو الثورة".. مقولة قديمة قرأتها في شبابي، وشعرت وكأن هناك شيئا ما ينقصها.. فمن الطبيعي أن تكون الثورة هي شعب غاضب، فاض به الكيل، وزادت متاعبه عن حدها، وزاد طغيان حكّامه عن الحد، فتآزر في غضبة واحدة، تفجّرت بانفعال مشترك، فصارت كالبركان الهادر، تحصد حممه كل شيء في طريقها.. ولكن ماذا عن الشق الثاني للمقولة؟! "الشعب هو الثورة"!! في شبابي بدا لي أن الشق الثاني لا معنى له، أو أنه مجّرد تكرار بلاغي للشق الأول؛ جاء لتجميله وتأكيد المعنى فحسب.. ثم مرّت السنوات.. وقرأت أكثر.. وتعبت أكثر.. عملت في الطب، والأدب، والفن، والسياسة.. وعشت تجربة في عالم الجاسوسية.. كافحت طويلاً.. نجحت في خطوات، وفشلت في أخرى.. تجاوزت تجارب، واكتسبت خبرات، وتعلمّت دروساً، و.... وفهمت الشق الثاني من المقولة.. فالثورة هي الشعب؛ لأنه لا توجد ثورة بلا شعب.. لا توجد ثورة إذا ما انفردت بها فئة من الناس.. مصطلح ثورة يعني غضبة شعب... شعب كامل.. بكل فئاته.. وانتماءاته.. وفئاته العمرية.. في وجود كل هؤلاء فقط يطلق عليها اسم "ثورة".. والشعب هو الثورة؛ لأنه من المستحيل أن تستمر الثورة لو انفصل عنها الشعب.. لو غضب منها أو عليها.. لو رفض تجاوزاتها.. أو ثار على الثورة.. وهذا أمر سجّله التاريخ مرّات ومرّات.. الثورة الفرنسية اندلعت من الشعب.. وبالشعب.. وكانت ثورة غاضبة، ثائرة، منفعلة، مطالبة بالكثير.. والكثير.. والكثير.. وكانت من أكثر ثورات التاريخ دموية.. ثم انقلب الثائرون على من أشعلوا الثورة.. وثاروا عليهم.. وأعدموهم.. هذا لأن من يشعلون الثورة ينسون في المعتاد أنهم كانوا شرارة البدء فحسب.. شرارة غضب، انطلقت منهم، لتمتد إلى الشعب كله.. ولهذا كانت ثورة.. ولأنهم ينسون هذا، فهم يتصوّرون أنهم وحدهم الثورة.. ينسون الشعب الذي صنعها معهم.. وفي أحيان كثيرة يتعالون عليه.. ويتجاوزون في حقه.. ويتعبونه.. ويرهقونه.. ويفصّلونه عنهم رويداً رويداً.. ولأنهم يكسرون سِوار الثورة، وربما من فرط حماستهم، وعشقهم لفكرة الثورة، ولهفتهم لبلوغ غاياتها، يغضب الشعب منهم.. يغضب لأنهم لم يعترفوا به.. لم يعطوه حقه.. ولم يشاركوه كما شاركهم.. ومع الوقت يفصلهم الشعب كما فصلوه.. ويثور عليهم.. ويعزلهم كما عزلوه... راجعوا التاريخ، وطالعوا هذا في الكثير من صفحاته.. والثوّار لا يقصدون أبداً الوصول إلى تلك النتيجة.. وحتماً لا يسعون إليها.. إنهم فقط يتحمسون وينفعلون، إلى الحد الذي ينسيهم أنهم جزء من كيان كبير، كما أنهم يشعرون بأنهم أصحاب الفضل في قيام الثورة، ومن الضروري أن يكون لهم موقع متميّز فيها.. وكرد فعل طبيعي ينشدون السلطة.. ربما عن حسن نية، ورغبة في تسيير الأمور إلى حيث يريدون.. وكيفما يرون.. أو ربما لشهوة في سلطة وجاه، وأضواء.. وأياً كانت الأسباب، فالشعب يشعر بهذا.. ويقلق.. يقلق؛ لأنه يرى فيهم نسخة مكّررة من نظام احتاج إلى ثورة؛ حتى يمكنه التخلّص منه، ومن تجاوزاته.. ومع إصرار الثوّار على مواصلة الثورة، ورفض كل التغييرات، يقلق الشعب أكثر.. وأكثر.. وأكثر.. ومع الوقت يتحوّل قلقه إلى خوف.. ثم إلى غضب.. ثم رفض.. وبعدها ثورة على الثورة.. وهذا أخطر ما يمكن أن يواجه الثورات.. ثورة الشعب على الثورة... أو على من يواصلون الثورة.. وهذا أخطر ما يخطئ فيه الثوّار، عبر صفحات التاريخ.. يواصلون الثورة، وينسون الشعب.. ينسون وقود الثورة.. وقودها الرئيسي.. والأساسي.. يتصوّرون أنهم وحدهم الثورة، فيعزلهم الشعب عن الثورة، ويطالب، كما طالب دوماً، بحريته، واحترام إرادته، وحقه في التعبير، واختيار من يمثله.. وفي الثورة البلشفية، التي أعقبت الثورة الروسية بشهور قليلة، ثار الشعب أيضا على الثورة، وأتى بنظام بلشفي، حكمه بالحديد والنار، قرابة السبعين عاماً.. ولو صبر الثوّار أيامها ما عاش الشعب الروسي قمعاً ومهانة وقهراً، تجاوز نصف قرن.. لو صبروا، وقررّوا أنهم من الشعب، ولا بد لهم من احترام إرادته، لما حدث ما حدث.. لقد أسقطت ثورة يونيو الروسية النظام، وانتخبت برلماناً حراً، وبدأت مرحلة ديمقراطية حقيقية.. ثم جاءت ثورة أكتوبر، لتقضي على كل هذا.. فقط لأن الثوّار نسوا المقولة الرئيسية.. فالثورة هي الشعب.. والشعب وحده.. هو الثورة.. الشعب.. ولا شيء سوى الشعب.