استيقظت مبكراً في هذا اليوم دون مساعدة من منبهي الذي يتميز بغلاسة مفرطة، فاليوم ربما يكون يوما جللا، الحكومة نفسها متوجّسة شراً، وكل تصرفاتها تدل على ارتعاد فرائصها من هذا اليوم، وبالأمس فقط قطع الإنترنت عن مصر كلها، كنت أظن المشكلة في البداية مشكلة فردية ولكن اتضح أن الإنترنت انقطع عن مصر كلها، البيوت الآن عادت إلى العصور الحجرية، لا تستقي معلوماتها سوى من المنافذ الفضائية فحسب وهي محدودة ومحكمة رغم كل شيء. انتفضت من على سريري استعدادا للتوجه لعملي بجريدة الأهرام، نظرت بشيء من التأمل إلى النتيجة التي تشير إلى 28 يناير 2011، لم يحدث أن لفتت النتيجة انتباهي يوماً، ولكن شيء في صدري جعلني أتوقف لديها ولو قليلا. في مترو الأنفاق كل شيء يبدو طبيعياً وهادئاً بصورة تدعو إلى القلق، فلم تكن مصر يوماً بهذا الهدوء، هدوء لم تعتده حتى في أيام الجمعة الهادئة بالأساس، كل من في عربة القطار يتحدثون عن الإنترنت الذي قطع في مصر دون أي تنويه من الحكومة، أو حتى بيان من شركات الاتصالات تؤكد فيه أن الأمر خطأ تقني، وسرعان ما سيتم إصلاحه، ولم لا فالشعب المصري حسن النية ولديه استعداد كي يصدق الحكومة في أي شيء، رغم أنها أصدرت بياناً تحذّر فيه أي شخص وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين من التظاهر، وبالتالي لا مجال لافتراض حسن النية بأن انقطاع الإنترنت في هذا اليوم تحديداً كان خطأ تقنياً عارضاً. ترجّلت من القطار في محطة جمال عبد الناصر، ومسحت شارعي رمسيس و 26 يوليو ودار القضاء العالي بنظرة سريعة فلم أجد شيئاً، قلت في عقل بالي ربما الجميع منهمكون في الاستعداد للصلاة، ربما كفروا بالمظاهرات وبالتغيير، ربما أرهبهم بيان الداخلية، فقد كان بياناً يحمل الشراسة في أطراف عباراته، وقد سألني صديقي ليلتها أثناء آخر جلساتنا قبل انقلاب الأحوال بأحد مقاهي وسط البلد: الناس دي (يقصد المتظاهرين) عايزين إيه؟ فأجبته دون أدنى شك في إجابتي: عايزين يسمعوا كلمة واحدة بس.. "فهمتكم". في جريدة الأهرام وفي مبناها الحديث تحديداً دخلت صالة التحرير الخاصة ببوابة الأهرام الإلكترونية، وجدت الجميع وقد التفوا حول ترابيزة الاجتماعات يتسامرون ويتحدثون، فهالني المشهد، لطالما كانت صالة التحرير خلية نحل مميتة لا يتوقف فيها العمل أو الضجيج، أ.عبد الله عبد السلام -رئيس تحرير البوابة- كان يبادلهم السمر والحديث، وهو رجل يعاني إدمانا مزمنا للعمل ويكره الراحة بكل صورها وأشكالها، فبادرتهم بالسؤال: الموضوع مش خطأ تقني بقى وهيتصلح، ده واضح إن فيه تعمد لقطع الإنترنت، طيب إيه على القهوة بقى.. وبالفعل توجّهنا جميعاً إلى مقهى مجاور لجريدة الأهرام، وتبادلنا الحديث حول أحوال البلد. بعد قليل قررنا أن نتوجه إلى ميدان التحرير كي نوثّق كل ما يحدث وننشره بعد عودة الإنترنت، في الميدان كانت هناك أعداد متفرقة، مجرد أعداد متفرقة تهبط كوبري أكتوبر ومجموعات أخرى في ميدان عبد المنعم رياض ومثلها في ميدان التحرير، في حين أن الحشود الأمنية مرعبة، جيوش مجيّشة منتشرة في كل شبر من أرض الميدان، سيارات الأمن المركزي الزرقاء سدّت الأفق، أصوات المارشات العسكرية تصدح في الميدان وتبعث الرعب في النفوس، والغريب أن الأمن لا يتعرض لأحد حتى هذه اللحظة. بعد صلاة الجمعة تغيّر المشهد تماما، الكثافات البشرية تتدفق على الميدان بصورة لا تنتهي، ومن كل صوب وحدب، من وسط البلد من شوارع محمد محمود والتحرير وميدان الفلكي وشارع قصر العيني وغيرها، ولكن الكثافات الأكبر كانت تأتي من حيث أتيت، من شارع الجلاء الذي يصل بين ميدان رمسيس وبين ميدان التحرير، قوات الأمن بدأت تتحرك في كل اتجاه، شمالا وجنوبا، تضرب هنا وتفرق هناك، عصي الجنود الغليظة كانت هي المستخدمة في بادئ الأمر، ولكن عندما بدأت الأعداد تتزايد بصورة ملحوظة طلبت القوة الدعم، ووصلت عربات المياه لتفريق المتظاهرين. حتى هذه اللحظة لم يكن لديّ مشكلة في متابعة وتصوير وتوثيق ما يحدث، وإن كان الأمر لم يكن يخلو من عمليات الكر والفر هنا وهناك، ولكن كان يمكن تحمّل الأوضاع. نظر إليّ زميلي بعيون مترقبة، وقال بصوت متهدج: "شكلها هتقلب غمّ"، حاولت أن أطمئنه بأن الأمور لا يمكن أن تتطور إلى الأسوأ.. الأمن بالفعل اشتبك مع المتظاهرين وليس هناك أسوأ من هذا السيناريو، ولكن في حقيقة الأمر كان هناك الأسوأ، من مكاني بجوار مبنى الجامعة الأمريكية استطعت أن أرى أعمدة الدخان البيضاء تتصاعد، والتي أخذت تقترب شيئاً فشيئا وأمامها يركض المئات وكأن هناك من يطاردون ولكن من كان يطاردهم بالفعل هو هذا الغاز الحارق للعين والوجه، وأصابتهم حالة اهتياج وأخذوا يصرخون استغاثة بالخلّ حماية للعيون، بعد قليل ظهرت حشود الأمن المركزي داخل سياراتهم ومترجلين يطاردون المتظاهرين في جنبات الميدان. أكثر من ساعتين متواصلتين والأعداد تتزايد في الميدان، والضرب مستمر، ومن يقع فريسة في يد أي من القوات الموجودة داخل الميدان فالويل كل الويل له، يضرب ضرب الكفار، قبل أن يختفي داخل إحدى مدرعات الشرطة.. الساعة الآن الثالثة والنصف، وقد أنهكتني القنابل المسيلة للدموع، وأنهكني أيضا الركض في كل جانب، فاليوم لن يشفع لأحد مهنته سواء كنت صحفي أو غير ذلك، لا مجال لحقوق إنسان الليلة، لقد بدأت الأمور تتضح، الأمن يحارب معركته الأخيرة، لم يعد الأمر تفريق حشود كما يبدو، لقد تحوّل الأمر إلى معركة صراع من أجل البقاء لا بد وأن ينهي فيها طرف على الآخر، خاصة وأن النشيد الرسمي لميدان التحرير قد أصبح "الشعب يريد إسقاط النظام"، تلك العبارة التي كانت المرة الأولى التي أسمعها فيها لايف وهزّتني بعنف، فبقدر ما كانت تحمّسني بقدر ما كانت تخيفني، شأني في ذلك شأن جميع المصريين الذين ورثوا في جيناتهم الميل للاستقرار حتى ولو فوق النار. شرعت في التوجه إلى شارع الجلاء تمهيداً للعودة إلى الجريدة مرة أخرى، وفي هذا الشارع كانت تدور المعركة الحقيقية، الوضع كان أشبه بحرب الشوارع، قوات الأمن تطلق القنابل المسيلة للدموع بالعشرات، أصوات النيران مسموعة في الأفق، لا أعرف أهي نيران حقيقية أم طلقات دفع صوتية، عناصر الأمن بزيّهم المدني كانوا أكثر شراسة في تفريق المتظاهرين، يضربون بالأجَنات الحديدية وبأي شيء يمكنهم الحصول عليه، المهم هو أن تعود تلك المجموعات من حيث جاءت، ويكتفوا بتظاهراتهم عند دار القضاء العالي، إطارات السيارات بدأت تشتعل عند الشارع الضيق الواصل بين شارعي الجلاء ورمسيس؛ كي يتوقف تقدم قوات الأمن باتجاههم، ولكن لم يكن ليثنيهم شيء. مع هذا الوضع المشتعل كان من المحال أن أعود إلى الجريدة من هذا الاتجاه، وإلا سأكون إما معتقلا أو مصابا أو ميتاً، وبالتالي قررت أنا وزميلي أن نعود إلى كورنيش النيل ثم نعود للجريدة من وراء مبنى ماسبيرو ثم شارع امتداد 26 يوليو ثم شارع الصحافة ثم شارع الجلاء مرة أخرى، كان عقربا الساعة قد تقابلا عند الرابعة عصراً، وقتها لم أصدق عيني، قوات الجيش في شوارع القاهرة، هي المرة الأولى في سنواتي الأربع والعشرين التي أرى فيها مجنزرات ومدرعات عسكرية، وأين؟ على كورنيش النيل، وأمام مبنى ماسبيرو كان هناك أعداد أكبر وضباط جيش يقفون بأسلحة وأقنعة تقيهم من الغازات المسيلة للدموع. هالني المشهد وسارعت بالعودة للجريدة؛ لأن ما رأيته لتوي لا يحمل سوى معنى واحد، وهو أن الأحكام العرفية قد فرضت وكذلك حظر التجوال، وبالتالي وجودي بالشارع الآن أمر في منتهى الخطورة، فسارعت بالعودة للجريدة فوجدتهم يعلمون بما شاهدته لتوي، ولكنهم صححوا لي المعلومة بأنها قوات الحرس الجمهوري وليست قوات الجيش، اتصلت بأسرتي كي أطمئنهم عليّ، فوجدت المناحة منصوبة في البيت وكأنهم أعلنوا الحداد على روحي فقد سلّم أبي بأنني بالتأكيد قضيت في تلك الأحداث أو أصبت على أحسن تقدير، وأصرّ على أن أعود إلى البيت حالا، وليحترق الشغل على اللي عايزين يشتغلوا! وبالفعل عدت مرة أخرى إلى البيت ليس إذعاناً لرغبة أبي، ولكن لأن جميع من في البوابة قرروا العودة إلى المنازل ترقباً لما سيحدث، وبينما أنا في طريقي للمترو مرة أخرى وجدت سيدات ورجال يركضون فرحا حاملين فوق رؤوسهم آنية معدنية وكراسي وأجهزة كهربائية، فقررت العودة للميدان؛ لأفهم ما يحدث، وهناك وجدت نيرانا غاضبة تلتهم مبنى الحزب الوطني، لم أصدّق عيني، ذلك الرمز والكيان الذي حكم مصر لعقود، يحترق تأكله النيران، كان مشهداً مهيباً فقدت فيه النطق للحظات، حتى سيارات الشرطة تهرب من ميدان عبد المنعم رياض إلى ميدان التحرير ثم شارع محمد محمود ثم وزارة الداخلية. مصر بدت في عيني في هذه اللحظات تمزّق غشاءها المطاطي الذي يحيط بها داخل رحم التاريخ، مصرّة على أن تولد من جديد، بدت مصر في عيني وكأنها تزأر في مخاض سينتهي بولادة متعثرة أو بوفاة للوالد والمولود، تملّكني الرعب على أسرتي في هذه اللحظات، بينما بدأت بوادر الفوضى تنتشر في شوارع مصر كلها. عدت للمنزل، وفتح لي أبي الباب في لهفة، وقال بصوت مخنوق: مصر اتحرقت؟ فأجبته بابتسامة هادئة: مصر اتولدت.