بمجرّد أن قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير، وبمجرّد أن بدأ الملايين في اعتصام ال18 يوما في ميدان التحرير، وقد بدأ الحديث لا ينقطع عن عجلة الإنتاج التي توقّفت وبدونها سنجوع، بدونها سنموت، سنتشرّد، ستنتشر البطالة وتفتك بنا، سوف نأكل بعضنا البعض لحما نيّئا. ساد الذعر كل البيوت المصرية، وأصبح الحديث عن البورصة المصرية ربما مثله مثل الحديث عن مباريات كرة القدم، ربات البيوت وسائقو التاكسي ومحال الفول والطعمية وكذلك بائعو الخضار في السوق يتحدّثون عن البورصة التي تنهار، ودائما ما تكون عجلة الإنتاج هي القاسم المشترك في كل هذه الحوارات. تطوّر الحديث لدى البعض لدرجة الحديث عن أن مصر سوف تفلس في غضون 3 أشهر، وكان د. أحمد شفيق -رئيس وزراء مصر لمدة شهر واحد- أوّل مَن تحدّث عن هذا الأمر، وأن المصريين لن يجدوا لقمة واحدة في المحال والمطاعم أو في أي مكان، وسوف يتضوّرون جوعا. بدأ الحديث عن إفلاس مصر منذ شهر مارس تقريبا، وها نحن في شهر يناير التالي ولم يحدث ذلك الإفلاس المنتظر، ولم تسقط مصر، ولم يتم فرض الحصار المالي علينا.. إلى آخره من طلقات مكتوبة ومقروءة كانت تطلق علينا من كل صوب وحدب في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية. الغريب في كل ما سبق أنه كان هناك إصرار من النخبة المنتقاة التي كان يتمّ تداولهم على مختلف الفضائيات أنها لا تكفّ عن ترديد الأكاذيب أو ربما التضخيم والمبالغة في الحقائق؛ فالحديث عن إفلاس مصر هو في حقيقة الأمر نكتة، وإن لم يضحك عليها أحد؛ لأن معلوماتنا على الاقتصاد مثل معلوماتي عن جيولوجيا البراكين، ولكن الأمر يحتاج إلى بعض الاضطلاع ليكتشف مثلا أن لبنان ذلك البلد الصغير محدود الموارد المادية والبشرية عانى حربا أهلية منذ 1975 وحتى 1990 أكل فيها أهلها الأخضر واليابس، ومع ذلك لم تفلس لبنان ولم يتم التطرق للحديث عن هذا الأمر. أما مصر؛ فهي بلد عملاقة الموارد والحديث عن إفلاسها بسبب ثورة مرّ عليها عام واحد فقط هو أمر كوميدي ساخر في ظل وجود موارد عملاقة؛ مثل قناة السويس، وصادرات الغاز، وتحويلات العمالة من الخارج -وهي تحويلات ضخمة لا يمكن إغفالها- بخلاف استثمارات العرب والأجانب... وغيرها. اللطيف في هذه الفترة أن الشعب المصري تحوّل إلى 80 مليون محلل، فجأة أصبحت أينما تذهب إلى أي مكان يحدّثك عن خسائر البورصة صباح هذا اليوم، وكيف أنها خسرت ملايين، متسائلا: "يا جماعة مش كنا إحنا أَوْلى بالملايين اللي ضيّعوها علينا العيال السيس بتوع التحرير دول!!". وبرغم محاولاتي المستميتة لكي أفهمهم: يا عم الحج خسائر البورصة دي مش خسائر مالية زي ما إنت فاهم ماهياش فلوس يعني بتضيع، دي قيمة سوقية، تنزل النهارده وبترجع بكره، لكن تقول مين والرد دائما جاهز: وإنت يعني هتفهم أكتر من الحكومة، ومع الأسف أخبار البورصة لا يؤتى على ذِكْرها إلا عندما تخسر وتنهار، ولكن عندما ترتفع لا يعبّرها أحد. "عجلة الإنتاج" كما سبق وذَكَرنا كان المصطلح الأشهر بعد الثروة، عجلة الإنتاج توقّفت، عجلة الإنتاج هوت، عجلة الإنتاج سوف تدهس الفقراء لو لم تستمر في الدوران، والسبب دائما شباب التحرير، ورغم كل ما سبق وما كان يثير غضبك وحنقك أن أغلب من كانوا يتهمون شباب التحرير بإيقاف عجلة الإنتاج هم أكثر من يشارك في الإضرابات والاعتصامات التي لم يكن يشارك فيها شباب التحرير، وأعلنوا رفضها منذ اللحظة الأولى، لكن تقول لمين!! حملات النواح والصويت في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية عن الاقتصاد الذي ينهار ومصر التي تخرب وتحترق لم تتوقّف، ولم يكن أحد يخبرنا كيف تنهار مصر بالورقة والقلم والأرقام، بل كان كلاما مرسلا يخدم نظرية "ارعبهم وقعدهم في بيوتهم". عام كامل مرّ على الثورة ولم تسقط مصر، ما زالت باقية مستمرة ولم تُفلس، صحيح أن اقتصادها ربما تدهور، ولكن لا يُنكر أحد أنه كان هناك حملة منظّمة لابتزاز الثوار للعودة إلى البيوت باللعب على وتر الاقتصاد بإعطاء معلومات كاذبة ومبالغات مغلوطة تلعب على وتر عاطفة الفقراء وتستغل محدودية معلوماتهم في هذا الشأن، فلتستحوا فالتاريخ يفضحكم، وإن لم يفعل سنفعل نحن.