"لماذا تنظر القّذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟!" عيسى الناصري بتلك العبارة من الإنجيل يبدأ دكتور يورجين تودينهوفر عرض نقاطه العشر التي يلخّص فيها رؤيته تلك الحرب الدامية التي تشنّها فئة كبيرة من الغرب على العرب والمسلمين وما يتعلّق بهم. عشر نقاط، أو فرضيات كما وصفها، علّق فيها بالتفصيل على الوضع العام المتردي في العلاقة بين الإسلام والعروبة من جهة، والغرب من جهة أخرى، من خلال قراءته ورؤيته أحداث المائتي سنة الأخيرة في الشرق الأوسط، من وجهة نظر الإنسان المسلم -على حد قوله- لا الغربي فقط.
يقول د.تودينهوفر: "إن السبب الرئيسي للإرهاب في العصر الحالي هو الطريقة غير الإنسانية التي يتعامل بها الغرب مع العالم الإسلامي منذ مائتي عام تقريبًا. لا يجوز الاستمرار في احتقار الشعوب، ولن نتغلب على الإرهاب إلا إذا تعاملنا مع الدول الإسلامية بعدل وإنصاف، مثلما نريد ونحب أن يعاملنا الآخر تمامًا".
بهذا يبدأ البروفيسور تمهيده لعرض فرضياته العشر التي يركّز فيها على دور السياسات الغربية في صناعة الإرهاب المنتسب -زورًا- للإسلام. بل ويصف بعض تلك السياسات والتطبيقات وأصحابها ب"الإرهابية"؛ حيث إنه يرى -وهو محق- أن كل من يستخدم العنف وسوء معاملة الأبرياء تغليبًا للمصالح السياسية وفرضًا بالقوة لرؤيته الخاصة للعالم، هو إرهابي، سواء كان فردًا عاديًا أو رئيس دولة، ويضيف معلومة مثيرة أن إدوارد بيك -نائب رئيس فريق عمل البيت الأبيض لشئون الإرهاب في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريجان- اعترف أن فريقه وضع ستة تعريفات للإرهاب، ثم رفضها جميعًا؛ لأنهم عندما قرؤوها تبيّن لهم تورط الولاياتالمتحدة في أعمال إرهابية! بهذه الافتتاحية بدأ د.تودينهوفر عرض فرضياته التي نقدّمها فيما يلي..
الفرضية الأولى: "الغرب هو أكثر عنفًا من العالم الإسلامي، ملايين المدنيين كانوا ضحايا الحقبة الاستعمارية على العالم العربي!"
يبدأ د.يورجين فرضيته الأولى بتلك العبارة، ثم يتحدث عن جرائم الغرب في بلاد العرب خلال المائتي عام الأواخر، عارضا نماذج للممارسات الوحشية للدول الاستعمارية الأوروبية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كالنموذج الإيطالي في لييبا، والبريطاني في العراق، والفرنسي في الجزائر، مؤكدًا حقيقة أنه خلال تلك الفترة الطويلة كان الدور الغالب على الوجود الغربي في الشرق هو دور المستعمِر المستعبِد الممارِس لأعتى أنواع الاضطهاد والتمييز العرقي والإبادات الجماعية. تلك الأفعال التي يقدمها البروفيسور في ضوء عبارة لواحد من أشهر مفكري أوروبا الليبراليين "أليكس دو توكفيل"، حين قال إن المقارنة بين الأوروبيين بالنسبة لباقي الأجناس البشرية كالإنسان للحيوان، وأن عليهم إما استعباد تلك الأجناس أو سحقها تمامًا. مما تنم عنه تلك العبارة من نمط تفكير غربي في الآخر -كما يقول د.تودينهوفر- انطلقت وتنطلق الممارسات العنصرية الغربية ضد العرب والمسلمين، تلك الممارسات التي ساهمت في تكوين مخزون من الذكريات السوداء والمشاعر العدائية من المسلمين والعرب تجاه الغرب الذي بادرهم بأفعاله القبيحة دون أن تبدر منهم تجاهه أية عداوات تستحق هذا العدوان. والآن بدلاً من أن يحاول الغرب تصحيح أخطاء الماضي وتنظيف سجله الملوّث، يعود فيمارس العدوان على دول مثل العراق، ثم بعد ذلك يشكو من مشاعر العداء المسلمة والعربية تجاهه!
الفرضية الثانية: يقول البروفيسور في بداية فرضيته الثانية: "سياسات تجار الحروب الغربيين جعلت من غير المستغرب تزايد شعبية المتطرفين المنسوبين إلى الإسلام".
وتعبير "تجار الحروب" هنا يعني به الدكتور يورجين وسائل الإعلام الغربية التي تمارس التضليل المخجل والعبث بالحقائق لأجل الصب في غرض واحد: تشويه صورة العربي المسلم وإظهاره مظهر الإرهابي الهمجي، وهذا بإبرازها الأعمال الإرهابية المنسوبة لعرب أو مسلمين، وغضّها النظر عن مثل تلك الأعمال حين تصدُر عن غير هؤلاء، فهي تركّز على عمليات القاعدة وتضعها تحت المنظار المكبر، بينما تمر على عمليات حركة "نمور التاميل" السريلانكية الهندوسية مَر الكرام، وتخلط بين حركات المقاومة المشروعة للمحتلين -التي أقرّتها القوانين الدولية- وبين تلك الحركات الإرهابية التي تقول إحصائية موثوق بها إن مِن بين 48 منظمة إرهابية في العالم توجد 36 منظمة لا علاقة لها بالإسلام.
ثم إنه يدين تصنيف ووصم المنظمات والفرق المسلحة بالإرهاب وفق سياسات الدول الغربية فحسب لا وفق معيار ثابت يسري على الجميع، مؤكدًا التحالف القوي بين الحكومات الغربية -بالذات تلك الأمريكية- ووسائل الإعلام الدولية، في عملية "صناعة الأشرار"، أي تحويل هذا الشخص أو ذلك إلى "حليف وصديق للحضارة" أو "عدو مارق شرير"، وفق موقفه من "الرأسمالية" و"الإمبريالية" والتدخل الأجنبي في وطنه.
ويعطي البروفيسور مثالاً مخجلاً على التدليس الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام؛ حينما يذكر واقعة عرض صور لأطفال فلسطينيين يهللون بسعادة بعد حادث 11 سبتمبر 2001، وذكر أنهم كانوا يحتفلون بسقوط برجي التجارة، في حين أن ما كُشِفَ بعد ذلك هو أن مراسلي تلك القناة كانوا قد ألقوا بعض الحلوى للأطفال؛ ليهللوا وصوّروهم وقدّموا الصورة بالشكل سالف الذكر!
الفرضية الثالثة: ينتقد د.تودينهوفر في هذا الجزء ذلك الازدواج الفاحش في معايير تصنيف الناس كإرهابيين ومجرمين، ويقول إن الإرهابي مجرم سواء كان مسلمًا أو مسيحيًا أو يهوديًا، وأيًا ما كانت عقيدته وهويته، فالعبرة بالفعل لا بفاعله. ويقول إن على المرء حين يتحدّث عن 5000 غربي قتلتهم القاعدة، فعليه كذلك أن يتحدّث عن مئات الآلاف من العراقيين سقطوا ضحايا حرب أمريكا على العراق! ومؤكدًا على مقولة رئيس فريق الادّعاء في محاكمات نورمبرج لمجرمي الحرب النازيين: "يجب ألا ننسى مطلقًا أن المعيار الذي نحاكِم به المتهمين اليوم سوف يكون هو المعيار الذي سيحكم به التاريخ علينا غدًا".
ويستغرب د.يورجين استنكار الغربيين تعرّض جيوشهم الغازية للعراق وغيره من البلدان لأعمال المقاومة المسلحة، قائلا: "ماذا كنا سنفعل لو وجدنا الدبابات المعادية في شوارعنا؟" داعمًا قوله بحقيقة أخرى تقول إنه توجد في العراق 50 عملية عسكرية لقوات الاحتلال/ التحالف ضد مدنيين، في حين أن العمليات الإرهابية ضد المدنيين العراقيين لا يزيد عددها يوميًا عن 3 عمليات، ولكن وسائل الإعلام تصف الأولى بالحرب من أجل الحرية والثانية بالإرهاب!
ويقارن البروفيسور بين كل من وسائل تحقيق الأهداف عند كل من الغرب وخصومه، فيعطي مثالاً بالمقاومة السلمية للمهاتما غاندي للاحتلال البريطاني للهند، وما ترتب عليها من انتصار باهر له، وكذلك يقدّم نموذج زيارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمكة المكرمة خلال حُكم كفار قريش لها، وهو أعزل من السلاح كل ما يطلبه هو زيارة البيت الحرام، وما ترتب عليها من عظم هيبته في قلوبهم وسعيهم لعقد صلح الحديبية معه. ويؤكد د.تودينهوفر من خلال تلك النماذج أن التاريخ أثبت أن الغرب هو من دأب على تعليم العالم أن الطريق الأفضل لتحقيق الأهداف هو القيام بأكثر الأعمال وحشية. أي أنه هو من صنع فنّ الإرهاب، لا العرب ولا المسلمين.
الفرضية الرابعة: هنا يتحدّث د.يورجين عن تلك التهمة الجاهزة للإسلام أنه دين همجي بربري يمجّد القتل والتدمير قائلا: "لم يستعمل الإسلام في تاريخه قط كلمة "مقدس" لأي حرب من الحروب، بل لم يتم ذكر الجهاد في القرآن الكريم قط بمعنى "الحرب المقدسة"؛ فالحروب لا تكون مقدسة على الإطلاق، بل السلام العادل هو وحده المقدس". ويعترف د.تودينهوفر أن بعض الغزاة المسلمين قاموا بمذابح لا مبرر لها في بعض غزواتهم في القرون الوسطى (وهو تقريبًا يعني العثمانيين)، ولكنه يؤكد أن ما جرى كان حالات فردية لا موقفًا إسلاميًا تقره شريعة المسلمين. ولا يقاس عليها سلوك المسلمين الفاتحين.
بهذا يجيب البروفيسور تلك الاتّهامات المتناثرة نحو المسلمين بأنهم شعوب همجية لا يرضيها سوى ذبح الآخر، ويستدل بمقارنة تاريخية بين ما قدمه المسلمون لأوروبا وما قدمته هي لهم، فبينما جاء المسلمون أوروبا بحضارة الأندلس الراقية التي اندمج فيها المسلم مع المسيحي واليهودي، ردّت أوروبا الجميل بمحاكم التفتيش للمسلمين الأندلسيين بعد سقوط آخر معاقل العرب في أوروبا في أيدي الإسبان، وبتورط الدول الاستعمارية الأوروبية في قتل المسلمين خلال الحملات الصليبية على الشرق، وإنكار تلك الدول حقيقة أن حضارة أوروبا ترتكز على أساس وضعه المسلمون خلال ثمانية قرون من حكمهم الأندلس. ويضيف الدكتور: "لم يكونوا مسلمين أولئك الذين ذبحوا قرابة 50 مليونًا من البشر باسم استعمار إفريقيا وآسيا" ثم يتساءل: "متى شرّف الساسة المسيحيون الدين المسيحي، دين المحبة الرائع؟" في إشارة لرجال السياسة والحكم والسلاح الغربيين الذين تورّط كثير منهم في الحروب العدوانية ضد العرب والمسلمين باسم خدمة الإنسانية و"تحقيق عدالة الرب"!
الفرضية الخامسة: هنا يتناول د.يورجين تودينهوفر نصوصًا من القرآن الكريم، وأخرى من الكتاب المقدس، تتفق في معانيها -وإن اختلفت أشكالها- في الدعوة للحب والسلام والتسامح والعدل، وكل تلك المبادئ الراقية، في إشارة واضحة؛ لأن كل الأديان السماوية اتفقت في الدعوة للخير.. ولا يوجد دين منها يحمل لواء الدمار وسفك الدماء والإفساد في الأرض. ويتساءل: "ألا يكون ذلك نوعًا من الشرك بالله عندما يسيء اليهود والمسيحيون والمسلمون استخدام الكتاب المقدس والقرآن الكريم كأسلحة من أجل أن يلقن بعضهم الآخر تصوراتهم حول هذا الإله الواحد؟".
ويبين كذلك أن بعض المتطرفين المسلمين والمسيحيين واليهود يقعون في نفس الخطأ حين يركّزون على آيات القتال والحروب في التوراة والإنجيل والقرآن، متجاهلين السياق التاريخي لتلك الآيات، والظروف الحصرية للأوامر الإلهية المتعلقة بالحرب وضوابط ممارستها من حيث الظروف والدوافع والأسلوب. فيعممونها ويطلقونها ويغلّبونها على تلك الآيات الداعية للمسالمة والتآخي والتواد والتراحم.
ويؤكد د.تودينهوفر أن ممارسة القتل والعنف والإرهاب لا تحتاج لأن تستند على دين معين لتجد لها مكانًا، فأسلوب الإرهابي المسلم في العراق هو نفس أسلوب زميله الإرهابي الكاثوليكي في أيرلندا، مما يعني أن الإرهاب في العراق ليس "إسلاميًا"، وذلك في أيرلندا ليس "مسيحيًا"، خاصة وأن بعض الجهات تورطت في أعمال قتل وتعذيب وقمع تنتمي لفئة "الإرهاب" بينما لم تكن ممارساتها تلك عائدة لعقيدة دينية، كالنازيين والنظام القمعي الصيني والنظام الشمولي السوفيتي.. مما ينفي عن الإرهاب ذلك الارتباط الزائف بالدين!
تلك كانت الفرضيات الخمس الأولى لدكتور يورجين تودينهوفر.. أما الفرضيات الخمس الأخرى فسنستعرضها في الجزء القادم والأخير إن شاء الله،،،، (يتبع)