احتفلت تونس -عقبالنا يا رب- بأفضل انتخابات تشهدها من حيث المشاركة والنزاهة والأمن، والتي أسفرت عن فوز قوي لحزب النهضة الإسلامي.. وفورًا "لعلعت" زغاريد الإسلاميين وجلجلت تكبيراتهم، بينما أرادت التيارات العلمانية في تونس أن تلعب دور "عواجيز الزفة" برفضها نتيجة الانتخابات.. لا أعرف للأمانة على أي وجه هذا الرفض لانتخابات شهد العالم كله بنزاهتها.. الله أعلم!
وفور إعلان النتائج شهدت على موقع فيس بوك احتفالات لكثير من أصدقائي الإسلاميين، وكذلك على الصفحات المنتمية للتيار الديني، بمناسبة فوز الإسلاميين بانتخابات تونس.. لا بأس، هذا تعاطف منطقي ولا غضاضة فيه، ودعونا لا ننسى أن "القومية الإسلامية" هي جزء من تكوين الثقافة القومية المصرية؛ باعتبار أن مصر هي الراعي التاريخي للإسلام والمسلمين، ولكنني أرى أن انتخابات تونس في حد ذاتها هي مناسبة تستحق الاحتفال والفرحة من كل التيارات السياسية والفكرية في أنحاء الوطن العربي أيًا كانت نتيجة تلك الانتخابات..
ما المشكلة إذن؟ المشكلة في أن كثيرا من تلك الاحتفالات المذكورة على فيس بوك تضمّنت تلميحات -وتصريحات- عدائية بحق المنتمين للتيارات الليبرالية واليسارية والعلمانية بمصر، بقياس فوز الإسلاميين في تونس على توقعات الإسلاميين في مصر، وكذلك بقياس الموقف السيئ للعلمانيين في تونس على التيارات سالفة الذكر في مصر، باعتبار أن كلهم "شيلة واحدة".. واعتبار أن رفض علمانيي تونس نتيجة الانتخابات يعني بالضرورة أن ليبراليي ويساريي وعلمانيي مصر سيفعلون بالمثل.. وأخذ المحتفلون "يعايروننا" بموقف أقراننا التونسيين، كأننا نحن من رفض نتيجة الانتخابات!
فضلاً عن ذلك فقد اعتبروا أن فوز الإسلاميين في تونس يعني بالضرورة أنها بشرى بفوز الإسلاميين في مصر، وغاب عنهم أن الأمر يختلف.. لماذا؟
أولاً: لأن موقف كل من نظامي مبارك وزين العابدين كان مختلفًا عن الآخر، فبينما كان نظام زين العابدين رافضًا للإسلام ذاته -وليس للإسلاميين فحسب- ولا يقبل أن تحمل الدولة من الإسلام سوى اسمه، كان نظام مبارك رافضًا للإسلاميين ذاتهم، بينما كان يحاول استغلال الإسلام لصالحه؛ من خلال تبعية الأزهر للمؤسسة الحاكمة، وكذلك من خلال من يمكن تسميتهم ب"شيوخ أمن الدولة" المعروفين بالاسم.
لهذا فإن المعارضة في تونس أخذت في جزء كبير منها شكلاً إسلاميًا؛ لأن الإنسان -كما يقول المفكر اللبناني أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة"- تُستَفَز حميته لهويته من استهدافها بشكل مباشر.. وعندئذ تغلب على باقي هوياته الأخرى..
أما في مصر فقد أخذت المعارضة شكلاً متعدد الصبغات، فمن معارضة إسلامية (الإخوان المسلمون) تتناول شِقّ الهوية الإسلامية، ومعارضة يسارية (مثل حزبي الكرامة والتحالف الشعبي الاشتراكي) تهتم بمشكلات المواطن الفقير، لمعارضة مدنية (مثل حركة كفاية والأحزاب الليبرالية) تركّز على حقوق المواطن ومدنية الدولة.. ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نقول بأن أحد تلك الاتجاهات أقل أو أكثر أهمية من الآخر، فكلها تتناول قضايا جدية على قدر عالٍ من الخطورة!
الاختلاف الثاني هو أن حزب النهضة التونسي لا يطابق التيار الإسلامي المصري، حيث ينقسم التيار الإسلامي في مصر إلى اتجاهات عدة أبرزها الإخوان والسلفيون، الإخوان أصحاب تاريخ وممارسة وخبرة سياسية وتنظيمية عالية، ولديهم كوادر شديدة القوة على المستويات السياسية والإدارية، بينما التيار السلفي يعاني قلة الكفاءات السياسية والإدارية، وضعف الخبرة السياسية وسوء الخطاب الإعلامي، يمكننا أن نقول بأن حزب النهضة التونسي يشبه إلى حد كبير حزب الوسط المصري أكثر مما يشبه جماعة الإخوان المسلمين، رغم أن قائده الأستاذ راشد الغنوشي هو أحد أعضاء مكتب الإرشاد العالمي لجماعة الإخوان المسلمين!
بقي اختلاف أخير، وهو أن الرفض الهستيري من التيار العلماني التونسي لنتيجة الانتخابات، لا يصح أن يُعتبر مقدمة لرفض هستيري مماثل من التيارات الليبرالية والعلمانية واليسارية لنتيجة الانتخابات البرلمانية المصرية، صحيح أن ثمة مقارنات تُعقَد على موقف "بعض" المنتمين للتيارات المذكورة من استفتاء 19 مارس 2011، ولكنه لم يكن الموقف الموحد لكل تلك التيارات، فضلاً عن أن استناد الرافضين لنتيجة الاستفتاء كان على أمرين: الأول هو التضليل الذي مارسه البعض باسم الدين؛ لدفع ضعاف الثقافة والعقل للتصويت لخيار بعينه (وهذا لا يعني أن كل من صوّتوا له كانوا كذلك)، والآخر هو أن الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري هدم أية نتائج للاستفتاء من أساسها وجعلها كأن لم تكن!
لا مجال للمقارنة إذن لو أردتم رأيي.. فحتى لو حقق الإسلاميون في مصر نفس ما حققه أقرانهم في تونس -وهذا أمر وارد- فإن هذا سيكون بناء على العوامل الخاصة بنا كمصريين، فعلى حساباتنا إذن أن تكون بناء على معطياتنا نحن لا معطيات غيرنا..
أما الانتخابات البرلمانية المصرية القادمة فلو تمتعت بنفس نزاهة انتخابات تونس الشقيقة، ونفس مستوى الالتزام من جميع الأطراف بأخلاقيات التنافس الانتخابي، فإن على كل الأطراف احترام نتائجها والتزامها؛ باعتبارها معبّرة عن الإرادة الحرة للناخبين، وعدم توجيه أية اتهامات لأية أطراف بالتلاعب بإرادة الناخب من خلال التضليل أو الرشوة، إلا مع تقديم البيّنة القاطعة والدليل القوي الواضح.. وترك الأمر ليد القضاء المصري المختص بنظر تلك الطعون.
بشكل أوضح فإن علينا بدلاً من أن نعتبر أن انتخابات تونس بمثابة صورة مستقبلية لانتخاباتنا، أن نحاول النظر لها باعتبارها تجربة تستحق الاحترام والتقليد، فيما عدا الموقف المرفوض لمن رفضوا أن يلتزموا الديمقراطية، برفضهم نتيجة الانتخابات فقط؛ لأنها لم تأتِ على هواهم..