ليس مطلوبا أن نكون ملائكة، فعصر المعجزات ولّى، وأن نعفو ونسامح في المطلق فهذا ما لا يستطيعه البشر، ولكن من المطلوب أن نتحلى ببعض أخلاق القرية في التعامل مع من هو في أزمة، ومع كبير العائلة حينما يقع أو يلحق به الأذى، وبعد انفراج الأزمة يمكن الحساب، وعلى قدر الودّ يكون العتاب، ويكون أيضا الحساب. أين ذهبت الأخلاق التي كانت تحكم التعاملات البسيطة بين الناس في كل مكان، والتي كانت الفيصل بين البائع والمشتري، وهي نفسها التي كانت تربط بين الأب والابن في البيت، والطالب وأستاذه في المدرسة أو في الجامعة، والتي كانت تجبر سائق التاكسي على الالتزام بآداب المهنة؛ حينما كانت لها آداب وأصول؟! هل حقا انقرضت الشهامة التي كانت تميز مجتمعنا على مر العصور؟ وهل بالفعل هاجرت القيم الأصيلة بتأشيرة خروج بلا عودة؟ هل صارت الخِسّة هي الدستور الذي يحكم العلاقات الاجتماعية التي تحولت -هي أيضا وبقدرة قادر- إلى مرتع للغوغائية والفوضى المرفوضة حتى لو كانت فوضى خلاقة؟ هل أصبح شعار المرحلة "عيش ندل تموت مستور"؟!!! هل نضبت من عقولنا مبادئ وأخلاق القرية التي لازمتنا سنين طويلة؛ بحيث أضحت من خصائص الشخصية المصرية، والتي أصبحت ملازمة لنا نعرف بها ونتحدد من خلالها؟؟ وبغضّ النظر عن صحة موقف كلا الفريقين المتناحرين وأقولها -وقلبي يعتصره الألم ودموعي تقترب أن تملأ المآقي مما يحدث- لا سبيل لخروج مصرنا العزيزة من عنق الزجاجة إلا بالتمسك بأخلاق القرية، والتي كان الرئيس السادات -رحمه الله- يكثر من الحديث عنها، ولكن كان القليل من يفهم ما يقال، كان يدعو المصريين إلى نبذ المرذول من السلوك والعودة إلى الجذور، وتمثل واحتذاء سلوك أهل الريف الطيبين، وكانت زياراته المتعددة لقريته "ميت أبو الكوم" تؤكّد إخلاصه لما يدعو إليه من أهمية العودة إلى أخلاق القرية، وكان يقصد بالطبع الشهامة والكرم والتكاتف، ونجدة المستجير وإغاثة الملهوف.. وغيرها من فضائل الفلاحين، أعتقد لو كان السادات بيننا اليوم لفجعه الغياب التام لأخلاق القرية التي كان يتغنى بها وكأنها "يوتوبيا أفلاطون"، بعد أن تحوّلت إما إلى قرية ذكية على يد أحمد نظيف وشركاه، أو قرية سياحية على يد مستثمري عهد مبارك الغابر. أتذكرون البطل المصري محمد رشوان؟ الذي لقّب بأبي الهول في الجودو فى دورة لوس أنجلوس الأوليمبية، والتي حصد لمصر فيها ميداليتها الفضية الوحيدة في تاريخها الأوليمبي في الجودو، لقد كرّمه العالم كله لا لموهبته الفذة؛ ولكن لأخلاقه العالية؛ حيث استيقظ الناس من نومهم على خبر فوز محمد رشوان بميدالية فضية، ولم يكن ذلك هو الأهم، بل كان الأكثر أهمية هو ما تناولته وسائل الإعلام العالمية من مدح وتقدير للبطل على رفضه اختلاس ميدالية من بطل العالم ثلاث مرات، الذي كان يطمح في ختام حياته بالفوز بذهبية أوليمبية، وساقه القدر إلى الإصابة خلال المباريات التمهيدية ليلعب أمام رشوان وهو مصاب، وتوقع اليابانيون وكل من شاهد المباراة أن يضربه رشوان في ركبته المصابة، حتى لو ظهر ذلك عن دون عمد ويفوز بالذهبية، ولكنه لم يفعل وفضّل أن يخسر الذهبية بشرف عن أن يفوز بالمركز الأول بالخسة؛ فوضعه العالم في المكان الذي يستحقه، وأصدّرت منظمة اليونسكو في يوم المباراة بيانا أشادت فيه بالبطل صاحب الأخلاق محمد رشوان، ومنحته جائزة اللعب النظيف عام 1985، وفاز بجائزة أحسن خُلق رياضي في العالم من اللجنة الأوليمبية الدولية للعدل. وأصرّ الشعب الياباني على تكريمه في طوكيو، فسافر رشوان وتوقع التكريم في القاعات والغرف المغلقة، إلا أنه فوجئ بعشرات الآلاف وقد خرجوا لاستقباله ما بين مسئولين سياسيين ورياضيين وأبطال، وهو ما أظهر مدى تقدير الشعب الياباني له لمجرد أنه لعب بأخلاق رياضية، وحافظ على صورة ياميشيتا كبطل رياضي وقومي عندهم. لذا ستظل الأخلاق هي أساس الحياة وأساس النجاح لكل أمة، تحدث عنها العلماء والحكماء والشعراء والأدباء، وسبقهم في ذلك الأنبياء، وما أحوجنا الآن لقول جين أدامز: "العمل هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن الأخلاق"، وصدق أحمد شوقي عندما قال: "وإذا أُصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلاً ".. وأخيرا فليس بعد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".