على باب معرض الكتاب، وفي أحد أيام الجمعة بعد بداية إجازة منتصف العام، الطوابير الغفيرة من البشر يصطفون في صفين أمام البوابتين الضيقتين إحداهما للرجال والأخرى للسيدات، لو كُنت من مرتادي معرض الكتاب الدائمين فأنت تعرف جيدًا ما أتكلم عنه من زحام قاتل يتجمد به حتى الهواء، ولو لم تكن من مرتادي المعرض فيكفي أن تعرف أن الزحام أسوأ من أي طابور عيش في عز الأزمة السابقة، كنت أقف في طابور السيدات، أتقدّم خطوة أو أتقهقر أخرى فأصطدم بمن أمامي أو من خلفي، وفي وسط ذلك وقفت سيدة ترتدي النقاب ومعها طفلة صغيرة، هذا عادي، أما غير العادي، فهو عندما فوجئنا بزوج السيدة يقف بجانبها عند طابور السيدات ويريد أن يدخل من هذه البوابة، وعندما ارتفعت أصوات الاعتراضات من جميع الواقفات على هذا الموقف الغريب، تحجّج الرجل بأن طابور السيدات أسرع وزوجته ستدخل إلى المعرض قبله لتقف وحدها في الداخل حتى يدخل هو، وإنه لا يأمن عليها، ولا يريد أن يضايقها أحد، بالطبع اعترض كافة الواقفين وأخبروه أنه يمكنه أن يبقى هو وزوجته في المنزل إن كان يعتقد أن وقوفها في معرض الكتاب على الملأ بين الناس لعدة دقائق وحدها به خطورة عليها، وأن تدينه هذا يجب أن يجعله يخاف على باقي الواقفات مثلما يخاف على زوجته، فلا يأتي هو ليدخل من باب السيدات ليصبح هو مصدر مضايقة، ومرّ الموقف كأي موقف آخر ولكنه ظل في ذاكرتي حتى اليوم، لا أعرف إن كان الرجل يتكلم بجد، ويخاف بالفعل على زوجته من البقاء وحيدة لعدة دقائق، فقرر أن ينحشر هو في صف السيدات؟!! أم إنها مجرد حجة فارغة ليدخل من الطابور الأقل طولاً. في أي حالة من الحالتين، فلقد قدّم هذا الرجل بحجته هذه أسوأ صورة ممكنة عن المتديّن، فلم يكن في موقفه أي نوع مما حاول أن يوحي به من غيرة على النساء أو خوف عليهن من البقاء وحدهن في مواجهة وحوش البشر، بل كان موقفه أناني، غير ملتزم بالقواعد لا الدينية ولا الاجتماعية ولا حتى التنظيمية لمعرض الكتاب، وجعل موقفه هذا كل من يقف على البوابة، يندفع في الحديث حول أن الأخلاق أولى من المظهر، وأنه كان أوْلى به أن يكون ملتزما في أفعاله ولا يضايق النساء بهذه الحجج الفارغة، أفضل من النقاب واللحية، ببساطة لقد أساء الرجل بهذه الفعلة لأي جوهر ديني أو أخلاقي يريد أن يعبر عنه..
الحقيقة أن هذه المقالة ليس الهدف منها الهجوم على الملتزمين، أو المنتقبات أو أي من هذا، فهذا آخر ما يمكنني التفكير به، فهذه قمة الحرية الشخصية، وأؤكد على هذا منذ البداية كي لا يجرفنا الحماس بعيدًا عن المقالة ذاتها.
ولكن الهدف الحقيقي هو التفكير في نقطة هامة جدًا تضيع من أغلبنا، كيف نعبر عما نؤمن به وندعو إليه بالطريقة السليمة؟!
في الفوروردات الدائمة التي تصلني عبر الإيميل والتي لا أهواها كثيرًا، فهي غالبًا تحكي قصصًا مبالغا بها أو ملفّقة بغرض الإبهار، والتأثير على العواطف، ولكن وصلني منذ فترة إيميل به قصة لا أدري مدى صحتها ولكنها أعجبتني، القصة عن رجل مسلم ركب حافلة في الخارج، لمسافة ليست كبيرة، واقتربت محطته فحاول الوصول سريعًا لقطع تذكرة، استطاع الرجل أن يقطع التذكرة وأتت محطته ولكنه نظر في الباقي الذي أخذه من سائق الحافلة فوجد به زيادة، اضطر الرجل للعودة وتضييع محطته من أجل إعادة مبلغ ضئيل للغاية أو ما نطلق عليه (فكة)، لقد أثار هذا دهشة السائق الأجنبي وسأله: لِمَ لَمْ يأخذ المبلغ ويلحق بمحطته وهو مبلغ لا يساوي شيئا؟، ولكن الرجل أخبره أن دينه يحثه على الأمانة، وأنه لا يمكن أن يقبل أن تدخل ذمته بضعة قروش حتى لو كانت قليلة لا تخصه، وتنتهي القصة بجملة أعجبتني حقًا وهي: "كن قرآنًا يمشي على الأرض".
لقد أثارت الجملة في عقلي الكثير وقتها، فبكل أسف قليلون هم الأشخاص الذين يتبعون هذه المقولة، قليلون هم من يدعون إلى الدين بغير الكثير من الكلام والتشنج والترهيب بل وأحيانا الإهانة والسباب، ويتبعون مبدأ أن يكونوا هم شخصيًا مثلاً يُحتذى به، ينظر المرء إليه فينشرح صدره ويرى من القيم أكثر بكثير مما كان يمكن أن يتكلم صاحبها ويقولها..
إن كل فتاة جديدة دخلت الجامعة يومًا تعرف جيدًا الفتاة التي تقترب منها ناصحة، وتبدأ مباشرة بلا أي تعارف أو سابق ودّ إلى دعوتها إلى الطريق القويم، وكيف أنها يجب أن تلتزم، وكيف أن زيها ليس الزي الإسلامي المطلوب... إلخ، بصرف النظر عن كُونه زي الفتاة الجديدة سواء كانت محجبة أو بدون حجاب، زيها محترم أو يحمل بعض التسيب، طالما هذه الفتاة لا ترتدي شكل الزي الموحّد المطلوب التي توافق عليه الناصحة، كانت غير ملتزمة في رأيها، في كثير من الأحيان يكون كلام الناصحة كلام جميل وفي موضعه، ومحمود ويحض على أمور كثيرة دينية وأخلاقية، ولكن كيف يتم إيصال هذا الكلام؟؟ بكل أسف فهذه النصيحة من شخصية لا تعرفها الفتاة الجديدة ليست صديقتها أو حتى زميلتها ليكون وقع النصيحة على نفسها جيدًا، في ذات الوقت بكل أسف تكون النصيحة بلهجة تعالٍ واضحة من نوعية: أنتن غير الملتزمات الذاهبات إلى جهنم رأسًا؟!! وأخيرًا تتم النصيحة على الملأ بين جمع من الطالبات مما يؤدي إلى إحراج الفتاة بشكل كبير، فلقد قالوا قديًما "إن النصيحة على الملأ فضيحة"، ولكل ذلك فإنه مهما كان مضمون كلام الناصحة جيدًا فإنه يتم رفضه وبعنف؛ لأن الأسلوب والتوقيت لم يكونا جيدين ولم يراعَ فيهما الجوانب الدينية الحقّة لتقديم النصيحة.
الأمر إذن ينقلب بشكل عكسي، فبدلاً من أن يسعى الشخص الذي يريد الإصلاح والنصح إلى هدفه السامي ويحققه، يفعل العكس لكونه لم يتبع هو شخصيًا أخلاقيات هذا الهدف السامي الذي يسعى إليه.
لدى صديقة لي جارة منتقبة، وملتزمة بشدة، هذه جارة آية في الأخلاق، لم تكن صديقتي تميل كثيرًا قبل أن تعرفها لفكرة المنتقبات وكانت تعتبر أن أي منتقبة متزمتة، وتظهر عكس ما تدعي إلى آخر ما تتهم به المنتقبات، ولكن عندما سكنت في ذلك المنزل، وبدأت ترى تصرفات هذه السيدة تغيرت فكرتها تمامًا، والعجيب أنها لم تتبادل مع تلك السيدة إلا عدة كلمات قلائل طوال كل تلك السنوات التي تجاورتا فيها سويًا، ولكن سلوكها وعدم انضمامها لأي مشاكل تحدث في العمارة، لم يسمعها أي شخص في أي يوم تتكلم على إحدى القاطنات بأي شر، تصرفها مع حماتها العجوز في العمارة المقابلة وكيف تعاملها بأخلاق وتساعدها وتودّها، سلوك أبنائها الصغار وأخلاقهم العالية، كل ذلك جعل من هذه السيدة نصيحة تمشي على قدمين، ومثالا جيدا بلا أي كلام أو ثرثرة، الظريف أن إحدى الجارات الأخريات قررت أن ترتدي النقاب وتجبر ابنتها الصغرى على ارتدائه، وأخذت بعد عشرة دقائق من ارتدائها إياه تلقي بالنصيحة لكل من تقابلهم، وتملأ السُلم باللافتات التي تحذّر من جنهم وبئس المصير، وتلقي بالويل والثبور وعظائم الأمور على كل من يفعل كذا أو لا يفعل كذا.. في ذات الوقت تجدها تنقل الكلام من هذه على تلك، وتترك صفيحة القمامة الخاصة بها لتضايق كل طفل أو عجوز يهبط السُلم، وعندما يشتكي أحد تتشاجر معه على الفور، أي مثال إذن تقدمه هذه السيدة؟؟
للأسف إن ثقافة: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] لم تعد متواجدة، الكل اكتفى بالجزء الأول من الآية الكريمة: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ} ولم يفكر في اتّباع النصف الآخر، وعندما يقول أي شخص ذلك يخرج عليه من يقول له إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد قال: "بلّغوا عنّي ولو آية"، وأن "الدين النصيحة"، نعم كل هذا حق وصحيح، ولكن أين الحكمة والموعظة الحسنة؟؟! أين أن يكون الشخص ذاته مثال لما يحاول أن يوصّله؟!!
هناك حكمة رائعة تقول: "طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس"، علينا أن نصلح عيوبنا أولا قبل أن نتبرع بتقديم النصيحة، وقتها سنكون نحن أنفسنا بسلوكنا وخلقنا نصيحة مجسدة، ووقتها حتى لو قدّمنا النصيحة بالكلام سنعرف كيف نقدمها، وسنكون أهلاً لها.