يُحكى أن معاوية بن أبي سفيان أوعز يوما إلى مسكين الدارمي الشاعر أن يذكر يزيد ويلفت الأنظار إليه، ويلمّح به خليفة من بعد أبيه، فخرج مسكين الدارمي على الناس قائلا: إذا المنبر الغربي خلاه ربّه ... فإن أميرَ المؤمنين يزيدُ!! وكانت هذه أول إرهاصة بنية معاوية بن أبي سفيان تولية ابنه يزيد من بعده، وكانت بداية الملكية وتوريث الحكم، وبغضّ النظر عن مدى صلاحية يزيد للحكم، في وجود من هو أولى منه كالحسين مثلا، فإن آخر ما يعنيني هو النبش في التاريخ عن معاني لا تفيد، وأحكام لا تقدم ولا تؤخر، فماذا يفيد الحسين أن نثبت اليوم أحقيته بالخلافة؟ وماذا يضر يزيد أن أقول له اليوم باكرهك باكرهك باكرهك!!! ما يعنيني هنا هو استنباط حالة الابتذال الإعلامي، وخلق رأي عام عن طريق الاسترزاق السياسي الذي يقوم به بعض الإعلاميين، الغافلين عن شرف الكلمة الساقطين من حساب احترام الذات.. حضرتني هذه القصة حين كنت أتابع فيديو نُشر لسيادة المشير طنطاوي -رئيس المجلس الأعلى القائد العام للقوات المسلحة- وهو يتجوّل في وسط القاهرة بزي مدني عادي خاليا من أي حراسة، وأحب أن أؤكد أن الكلام لا يتناول بأي حال من قريب أو بعيد شخص المشير أو انتخابات الرئاسة.. فالأمر كما قلت في قصة معاوية غير ذي أهمية على الإطلاق.. لكن ما يعنيني هنا وما أركّز عليه هو التناول الإعلامي الذي اقترب في رأيي من حد السخافة لأحد الإعلاميين في التليفزيون المصري، الفيديو كما تراه مصوّرا عن طريق كاميرا هاتف محمول، ولكن هذا لا يمنع التليفزيون المصري أن يمجّد نفسه أثناء عرض الفيديو، ويتحدث عن عظمته بوصفه "تليفزيون الدولة"، ولست أرى أي فضل لتليفزيون الدولة على تليفزيون نقابة الحلاقين؛ اللهم إلا بمقدار ما يتميز به من انفرادات وحصريات وتغطيات وما يسبق إليه، فأي من هذه يحقق تليفزيون الدولة؟ وأعني بالحصريات ما يحققه التليفزيون بشطارته ومهارته لا بما يمنحه إياه حقه المكتسب بقوانين الدعم والترميم، التي تعطيه وحده الحق في العرض الحصري لما تبثه الدولة، فهذا -وإن كان يجعلنا نتذكره لوهلة- لا يعطيه أي أفضلية؛ لأنه مجرد روتين، مثل أن يكون بيتك هو الوحيد المطل على حوش المدرسة فتنفرد وحدك بمباريات دوري المدرسة، ويضطر أصحابك إلى الدفع لك حتى يشاهدوا من بلكونتك!! تستمر حالة الابتذال الإعلامي حين تستمع معي إلى التعليق الحار الذي يقوم به التليفزيون المصري وصفا للحدث، حيث يقول الإعلامي المفوه بالحرف الواحد: "أنا عايز أضيف شيء لدلالة نزول سيادة المشير بالزي المدني أن المشير طنطاوي يصلح لقيادة مصر في الزي المدني أي إنه يبقى رئيس مصر القادم".. ألم يعرف الإعلامي الفكيك أن المشير طنطاوي يصلح لرئاسة مصر إلا عندما ارتدى البدلة؟ هل يقيس الإعلامي جودة الرجل وصلاحيته لمنصب ما من خلال ما يرتدي؟ بالتأكيد هذا الأسلوب في التعليق لا يعني إلا أمرا من اثنين: إما جهل مطبق بالحقائق والمضامين، ولذا لجأ الإعلامي إلى التعويل على المظاهر وأخذ بالشكليات، وهذا يدل على سطحية شديدة في التفكير وعدم خبرة سياسية أو قدرة على قراءة الواقع بشكل عميق، وطبعا هذا وصف يتناقض مع وصف "الإعلامي"، إلا إذا أصر سيادته أنه إعلامي ووقتها سنغير تعريفنا للإعلامي إلى معنى مقارب لحاصل على شهادة محو أمية.. وإما بسوء نية يُفسر على أنه ابتزاز إعلامي ومحاولة للاسترزاق السياسي عن طريق اللعب بالمشاعر، ومحاولة تهيئة الأجواء حتى ولو لم يُطلب منه ذلك، قال يعني الراجل بيخدم.. هذا الاسترزاق يضرب في شرف الإعلام ويشوه صورته، ويحوله إلى شكل من أشكال الاستجداء أو الاستعداء من أجل المغنم المادي أو التربح الوظيفي، وبالطبع الذي يروّج لنيل مطمع يقوم بالتشويه بالمقابل إذا طُلب منه ذلك، مما يتسبب في ضياع الحقيقة تحت أقدام المغرضين.. وهذا ما نراه بقوة في وسائل إعلام مغرضة تتبنى مواقف وتتبنى حملات منظمة من التشويه والتلميع حسب الهوى، مما يدخل في باب الاسترزاق السياسي. هذا الفساد الأخلاقي أو خراب الذمة أو غياب الضمير يستوجب وقفة حازمة، من المجتمع ومن القيادات الشريفة، حتى لا تطمع شلة تشبّعت بالفساد، وكان مبدؤها ومنشؤها ومقوماتها عن طريق وساطة أو تملق أو استزراع خبيث.. يجب أن نقضي على هذه النباتات المتسلقة حتى لا تخنق مصرنا الجديدة التي يجب أن تقوم على الشرف والنزاهة لا على السبوبة.