في الجامعات المصرية تنتشر ظاهرة غريبة تعكس مدى الانغلاق الفكري وربما الديني أيضاً.. وسرّ الغرابة أنها تحدث بين فئة من المفترض أن أبناءها هم قادة المستقبل وجيل الغد، إنهم طلاب الجامعة؛ أما الظاهرة فتتمثل في وجود تجمّعات منغلقة أو "مقفولة" على أصحابها من الطلاب الأقباط أو من الطلاب المسلمين، أو الطلاب الذين تغلب عليهم عادات وتقاليد مشتركة. وهذه التجمعات أشبه بالجزُر المنعزلة، لا يقبل أعضاؤها بانضمام أحد إليهم سوى المؤمنين بأفكارهم. وتُعد جامعة القاهرة إحدى معاقل هذه الظاهرة -وهذا لا يعني أن الظاهرة غير موجودة بالجامعات الأخرى- التي تجوّلتُ بها لكشف أبعاد الأمر؛ فعندما ذهبتُ إلى الشارع المجاور لكلية التجارة وجدتُ نفسي وسط أكثر من 40 طالباً وطالبة من الأقباط، يفترشون الأرصفة؛ منهم من يراجع دروسه، ومنهم من يتناولون أكواب الشاي أو سندوتشات ال"تيك أواي" من كافيتريا الكلية. انتخابات ومحاضرات في تجمّع الأقباط اقتربتُ من أحد أفراد هذا التجمع، ويدعى مايكل رضا -الطالب بالفرقة الثانية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- الذي قال: "بمجرد التحاقي بالجامعة دلّني زملائي على هذا التجمّع، الموجود في نفس المكان منذ أكثر من 10 سنوات؛ حيث يتواجد أعداد كبيرة من الطلاب الأقباط من كافة كليات الجامعة، ويساعدون بعضهم البعض في كافة المجالات؛ سواء فيما يتعلق بإعداد المذكرات والمحاضرات، أو تنظيم حملات الانتخابات الطلابية في حالة خوض أحد أعضائها الترشيح؛ علاوة على وجود فرصة للمناقشة في الأمور العامة". الانضمام في السنة الأولى أما ماريان ممدوح -الطالبة بالفرقة الأولى بكلية التجارة- فأوضحت أن الانضمام لهذه التجمعات، عادة ما يكون في السنوات الأولى من الدراسة؛ لأن الطالب وقتها يبحث بكل السبل عن زملاء وأصدقاء، ويجدهم في مثل هذه التجمعات؛ في حين يقلّ الإقبال عليها في السنوات التالية؛ لأن الطالب أو الطالبة يكونان قد استطاعا تكوين صداقات أخرى في كلياتهم. بينما يرى أشرف حنا أن أغلب أعضاء هذه التجمّعات قد يكونون أصدقاء كنيسة واحدة، وبالتالي تمتدّ هذه الصداقة داخل الجامعة، وأوضح أن هذا الأمر يمتد أيضاً داخل المدينة الجامعية؛ حيث يجتمع الطلاب الأقباط مع بعضهم باستمرار؛ سواء داخل الغرف أو في حديقة المدينة. تجمّع دار العلوم على الجانب الآخر، وعندما توجّهتُ إلى كلية دار العلوم، وجدت أن الشوارع التي تحيط بها قد تحوّلت إلى تجمّع لعدد من الطلاب الذين يصفون أنفسهم بأنهم ملتزمون دينياً، ومن بين أعضاء هذا التجمّع تحدثتُ مع أحمد محسن -الطالب بالفرقة الأولى بكلية الإعلام- الذي يدافع عن وجهة نظره في انضمامه لمثل هذه التجمّعات قائلاً: "أنا متدين بطبعي، وعندما التحقت بالجامعة، بحثت عن الأصدقاء الملتزمين دينياً حتى أرافقهم، وأعترف أنني فشلت في تكوين صداقات مع زملائي وزميلاتي بالكلية، وقد وجدت ضالتي في الزملاء الذين يتجمعون بجوار مبنى كلية دار العلوم". وأضاف أن التجمّع عادة ما يتراوح عدد أعضائه بين 50 و 70 طالباً من الكليات المختلفة؛ ولكن الأغلبية من كلية دار العلوم، وهناك حرص على أداء الصلاة في الجماعة، وغالباً ما تكون في مسجد كلية التجارة، وأيضاً يتمّ تبادل المساعدات بين طلاب التجمع، التي تصل إلى حد المساعدات المالية للطلاب الفقراء لمعاونتهم على شراء الكتب؛ علاوة على حضور الدروس الدينية التي يُلقيها أحد أعضاء التجمّع بصفة مستمرة. ممنوع الاختلاط بالفتيات أوضح طالب آخر من نفس التجمّع، ويُدعى مصطفى الزغبي -طالب بالفرقة الثانية بكلية الحقوق- أن عملية ضمّ أفراد جديدة للتجمع يبدأ في الأيام الأولى من الدارسة؛ حيث يقوم أعضاء التجمع بالتعرف على الطلاب، ومن يُلتمس فيه نزعة التديّن يتمّ إقناعه بالانضمام للتجمع، للحفاظ على دينه من الفِتَن الموجودة بالجامعة؛ مشيراً إلى أن الاختلاط بالفتيات ممنوع سوى في أضيق الأمور، ويكون مع الفتيات الملتزمات فقط. طالبات الخمار والإسدال وبجوار هذا التجمع من الطلاب، يوجد تجمع آخر من الطالبات، وأغلبهن يرتدين الخمار أو الإسدال، وعندما ذهبت إليهن، وجدت أن عددهن لا يزيد على 15 فتاة، وقد رفضن الحديث في بداية الأمر باعتبار أنهن لا يتحدثن مع الشباب؛ ولكن في النهاية تحدثَت إحدى الفتيات بصعوبة، وهي طالبة بالفرقة الثالثة بكلية دار العلوم، وتُدعى وسام، وأشارت إلى أن التجمع لا يضمّ سوى الطالبات الملتزمات دينياً، اللاتي يحرصن على أداء الصلاة والصوم وغير ذلك، وممنوع عليهن التحدث مع الطلاب أو الاختلاط بالفتيات غير المُحجبات، وعادة ما يتجمّعن في المساجد وتكون أيضاً أماكن للتعارف بينهن. وأوضحت أنها انضمّت إلى التجمع العام الماضي فقط بعد ارتدائها الحجاب، وقطعت كافة علاقاتها بزميلاتها وزملائها بالكلية، واكتفت فقط بصداقاتها مع فتيات التجمع. تقوقُع الطلاب المغتربين بخلاف هذه التجمعات، لاحظتُ أن هناك تجمعات أخرى؛ ولكنها متفرقة في كل كلية، وهي تجمّعات أعضاؤها من طلاب الأقاليم أو المغتربين، الذين لا يمتلكون القدرة على الاندماج سريعاً في الحياة الجامعية، ومنهم فتحي سمير -الطالب بالفرقة الأولى بكلية الآداب- الذي أشار إلى أنه عندما حضر من محافظة سوهاج للالتحاق بالجامعة، كانت المرة الأولى له التي يرى فيها اختلاطاً بين الفتيات والشباب، وهو ما يُعتبر أمراً غريباً بالنسبة له؛ ولذلك فهو لم يستطع الحديث مع أية فتاة؛ لشعوره بالخجل الشديد، وكذلك الشباب من أبناء القاهرة؛ لاعتقاده أن حديثه معهم سيجعله مصدراً للسخرية؛ خاصة أنه يتمسك بلهجته الصعيدية في الحديث مع الناس. وأضاف أن هذه الأمور دفعته إلى مُصادقة زملاء دُفعته من الأقاليم؛ وخاصة من محافظات الصعيد، وقد رسّخ من ذلك تواجدهم في المدينة الجامعية التي يقيم بها الطلاب المغتربين. مثل هذه التجمّعات تُنذر فعلاً بكارثة ليست دينية فقط؛ ولكن ثقافية وأخلاقية تعكس مدى العزلة التي يعيشها طلاب الجامعات التي تُعتبر منابر للحرية، وهو ما يتطلب أن يقوم الأساتذة بدور إضافي؛ فبخلاف دورهم الأكاديمي لا بد أن يقوموا بزيادة وعي طلابهم حول ضرورة الانفتاح الثقافي والديني، وقبول الآخر، ونبذ ثقافة التقوقع.