"ده حتى الواحد فااااااشل في التجسس.. أنا نفسي أبقى جاسوس بس مش عااااارف". هذه ليست كلماتي، بل بالنصّ تعليق أحد زوار "بص وطل" في مشاكسة لي كانت تحت عنوان "أنا مصري.. إذن أنا خنوع". الواقع أنني أهتم كثيراً بتعليقات القراء -وإن بدت سلبية- لأنها تُشعر الكاتب بما يكتبه، وتنسج علاقة خفية غاية في الأهمية.
وبمجرد أن وقع بصري على هذه الكلمات خيّم عليّ حزن عميق للغاية؛ فالتعليق لا يحمل في طياته لمحة السخرية؛ خاصة مع جدية المقال المطروح. وأنا أرى أن مسألة القومية والوطنية لا مزاح بها، مثلها مثل الدين والمرض والموت. لا يليق أبداً أن يسخر أحد منهم. والحقيقة أن أول ما أضاء في خيالي الأمير أحمد شوقي. لا أدري لماذا حينها تذكرت بيته الذي أبدعه في سينيته الشهيرة عندما كان منفياً في أسبانيا. وهو الأمير الذي تربّى على حياة الترف والملوك، يُنفى وتُحدّد إقامته وتُصرف له الأموال بحساب. وأظنها أمورًا الموت منها أهون لقلب شاعر مترع بالأحاسيس. ولكنه يقول وسط كل هذا: "وطني لو شُغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي" لن أقف كثيراً أمام سحر البيان الذي يبرع به الأمير، ولكنني وقفت أمام حبه المُخلص لهذا الوطن. عشقه للبلد الذي طُرد خارجه. نعم لقد عشق "شوقي" وغيره في عصره الكيان والوجدان الذي وُلدوا على أرضه. ولم يأبهوا لأي من الأحوال المُحيطة بهم. كنت تلمح إخلاصهم للبلد في أي حدث سياسي أو اجتماعي.. اندلاع حروب أو ثورات. كما أن أحوالهم الاجتماعية لم تكن بالمثالية، بل كان الجهل والفقر وكراهية الحكومات ضمن الأشياء التي كانت تُحيط بزمانهم، لكن شغلهم الشاغل كان "مصر".. مصر المعنى والبلد والرمز والانتماء والكيان والمولد والنشأة والذكريات.. والوطن. ألهذا الحد هانت علينا مصرنا؟ هل انحسر كل حبنا لبلدنا في مباريات المنتخب، وحمل أعلام الأحمر والأبيض والأسود يتوسطها نسر، والاتجاه بها إلى شارع جامعة الدول العربية عقب كل فوز، على خلفية من أغاني "يا حبيبتي يا مصر يا مصر".. و"ماشربتش من نيلها"، والكل يهتف في صوت واحد "مصر.. مصر". هل تجمّعت كل قوميتنا في هتافات رنانة نردّدها دون حتى وعي لمغزاها الحقيقي أو مناسبة غنائها. أرى أن الحال الذي وصلنا إليه في أيامنا هذه لم يسبق له مثيل من قبل؛ وليس أدل على ذلك من أولئك الذي يهربون إلى الموت من أجل الُبعد عن مصر. هؤلاء الذين يفتحون صدورهم للبحر ليهاجروا خارج البلد هجرات غير شرعية من أجل الخلاص من هذه البلاد. وعندما تسأل أحدهم يقول لك: "خلاص طهقنا.. مافيش فايدة.. لو فضلنا في بلدنا حنموت بالحسرة.. نجرب حظنّا برّه يمكن نعيش".
حتى تلك الهجرات الشرعية لبلاد مثل كندا وأمريكا. أناس يبحثون عن تحقيق الذات في بلاد غير بلدهم. كنت قد سمعت من أبي جملة في صغري ما زالت تدوّي في أذنيّ حتى هذه اللحظة: "ليس للنجاح معنى لو لم يكن وسط أهلك وعشيرتك". نعم هناك كثير من الأشخاص والجمعيات يحبون بلدهم بصدق حقيقي، لكن يبدو أن أمثال هؤلاء وأولئك -الذين أصبحوا عدداً لا يمكن إنكاره أو إغفاله- لا يلتفون إلى هذه المعاني، ويلقون مصريتهم خلف ظهورهم. وخير مثال على ذلك أيضاً كثيرون ممن يسعون للتخلّص من جنسيتهم المصرية، رغم أنه في أزمان ليست بالبعيدة كان المصري يرفض التنازل عن مصريته مقابل أي جنسية أخرى مهما بلغت مزاياها. سيقول لي أحدهم يبدو أنك تتحدث من برج عاجي، ولا تُدرك حقيقة ما آلت إليه البلاد من سوء الأحوال. وتفشّي الأمراض والفقر وانعدام الإصلاح وتأخر التعليم -وكأنه قد تقدّم يوماً- وانتشار القمع والحوادث، وعدم وجود خدمات جيدة تُرضي طموح الشعب. نعم لا أستطيع إنكار وجود كل تلك المشكلات وبكثرة، وأضف إليها عدم رضا أحد منا عن أداء حكومته. لكن كل هذا كان موجوداً في يوم ما، بل وهناك نكسة، وذل هزيمة في بعض الأوقات. لكن هذا لم يمنع مَن سبقونا مِن حبهم لتراب بلدهم، وعشقهم الحقيقي لوطنهم وكيانهم الذي ترعرعوا على أرضه.. فلماذا هانت علينا نحن مصريتنا في سهولة واستخفاف واستهزاء؟!