لا شك أن من الملاحَظ الآن كثرة الأدب الساخر وكثرة الكتب الساخرة وهي تزداد عن اليوم السابق.. حتى لتغطي على ألوان الأدب الأخرى أحيانا.. وهذا طبيعي ومتوقع لطبيعة شعبنا المحب للضحك والنكتة والذي ينأى عن الجد والجهامة ويقابل مشاكله بالسخرية منها والتنكيت بصعوبتها؛ بل أحيانا كلما زاد الوضع مأساوية كلما زادت حدة السخرية منه وارتفعت رنة الضحك عليه! والأدب الساخر ليس وليد اليوم ولا حديث العهد؛ فقط ازداد إنتاجه في الآونة الأخيرة، وإن كان لوناً أدبياً قديماً كالمقامات العربية ذات النهايات المسجوعة.. وفي المجال الصحفي هناك "التنكيت والتبكيت" التي أسست بعد الثورة العرابية وكان بها قدر من السخرية من الأوضاع السيئة.. كذلك تجد أدباء ساخرين صاروا علامات فتجد "بيرم التونسي" في مجال الشعر وأشعاره العامية المرعبة في عبقريتها! "محمد عفيفي" صاحب الموهبة الثقيلة وعباراته السهلة الممتنعة.. "أحمد رجب" وبابه الشهير "نص كلمة"... والكثيرين غيرهم. ربما لذلك يعتبر الأدب العربي أثرى أنواع الأدب إبداعاً وتنوعاً في مجال السخرية.. كذلك أكثرها هضماً له.. حيث ترى هذا اللون موجودا في الأدب الغربي بالطبع لكنه ليس كنظيره العربي، فلن تجده بنفس القوة في الأدب الإنجليزي وذلك لطبيعة الشعب الأنجلو ساكسوني الوقور.. فلن تجد "اللورد هنري" يبدأ حواراً ب "مرة واحد"! فالابتسام عندنا هو قهقهة عندهم قد تجعل قلوبهم تتوقف جراء المجهود! لكن هناك عرض جانبي ظهر للأدب الساخر لدينا؛ فمع كل مصيبة وكارثة سواء بفعل حكومي أو بفعلنا صرنا نتفنن في السخرية والتنكيت وإطلاق القفشات.. وبعدها.. لا شيء! وليس هذا ذنب الكتاب الساخرين؛ لأنها وظيفتهم.. لكن الذنب هو أن الأمر لاقى هوى في نفوسنا الراغبة في الاكتفاء بالسخرية وعدم الإتيان بأي فعل جاد أو الاهتمام بجدية أمر ما؛ كي لا يجر ذلك عليها ضرورة عمل إيجابي. نكتفي فقط بالسخرية دون أي فعل حقيقي أو دافع وحافز لإصلاح الوضع السيئ، وكأن الهدف هو السخرية فحسب وليبقَ الوضع على ما هو عليه لمزيد من الضحك. بل وأيضاً الملاحَظ هو تسرب السخرية من الكتب والمواقف المرحة لكل مواقف الحياة وتحولها تدريجياً لاستهزاء.. استهزاء بكل ما هو جاد.. أو بمن يتحدث بجدية في أمر ما؛ تجد من يسخر منه ويصفه ب"سقراط" في أفضل الأحوال وأكثرها احتراماً! فقد تجد حد الاستهزاء ممن يصر على أخذ الأمور محمل الجد يصل لحد عنيف كوصفه بال"كئيب" أو "عبقرينو" أو في رواية أخرى "عبقرينو الكئيب"! كذلك تجد السخرية نفسها ممن يتحدث بلغة عربية سليمة وليست فصحى حتى.. تجد نظرات الدهشة الأولى ثم الضحك الذي يشبه الانفجارات النووية وبعدها وابل من السخرية اللاذعة تتنقد حرص هذا الكائن الغريب على حديثه بلغته العربية والإتيان بألفاظ "عليها تراب" كما يقال! فأنا من عشاق الأدب الساخر؛ لأنه متنفس رائع للكبت الذي نعانيه ولكن لابد من الوعي بالحد الفاصل بين السخرية من المشاكل للتغلب عليها وتهوينها وشحن النفوس بالهمة لمواجهتها وتحسين الوضع وبين أن تكتفي بالسخرية والضحك بل والاستهزاء من كل ما هو جاد وهام. فأحيانا تحدث أحداث جليلة وتفاجأ بأن ردود الأفعال صارت إطلاق النكات والقفشات بل وصار التنافس في مهارة صياغة العبارات الساخرة هو الغاية وليس الوسيلة للتغلب على فاجعة الحادث. فحادث اصطدام القطارين الأخير هو كارثة حقيقية بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ راح ضحيتها عشرات بلا ذنب سوى أنهم استقلوا القطار الخطأ في التوقيت الخطأ، وكان من الممكن أن أكون أنا أو أنت أو أحد أقاربك في هذا الوضع.. المذهل في ردود الأفعال التي كانت عبارات ساخرة لا حد لها عن "الجاموسة" المسببة للحادث وكيف أنه جارٍ التحريات عنها وعن سبب تواجدها على القضيب! دائرة مفرغة محورها الحديث عن "الجاموسة" والسخرية اللاذعة بينما دماء الركاب تتقاطر من حديد العربات المهشم. بينما التحقيقات تشكك في تواجد أي جاموسة من الأساس مما يدل على مدى الإهانة التي صارت الدولة تتعامل فيها مع مصائب هذا الشعب. نعم التضاحك يهوّن الفاجعة؛ لكن أحيانا هناك أمور لا تحتمل أي دعابة.. خصوصاً في بلدنا أن الدعابة الحقيقية هي تكرار الكوارث بشكل مستفز وبلا حساب أو عقاب، وبالتالي تستمر السخرية للأبد.. ففي بعض الأحيان لابد من الغضب.. كي لا نتحول نحن لدعابة لا نهاية لها. فأحيانا هناك قضايا لابد فيها من اتّباع المثل: "يا بخت من بكاني وبكى عليّ، ولا ضحكني وضحك الناس عليَّ"!