هو واحد من مدرسة الساخرين العظماء في الأدب العربي منذ الجاحظ، مرورا بابن المقفع والهمذاني وعبد الله النديم وحافظ ابراهيم وعبد الحميد الديب، وصولا إلي فكري أباظة ومحمد عفيفي وأنيس منصور ومحمود السعدني. هذه المدرسة هي تلك التي تنظر إلي المأساة، فتفتش عن الجانب الكوميدي فيها، ليزداد ثقل وقع المأساة، باظهار التناقض أو المفارقة بين أطرافها الجادة والهازلة. ونحن نعلم أن «التهكم» أو «الساركازم» صار ملمحا أساسيا في الأدب العالمي الحديث، فكأن كل أديب ساخر سابق هو مبدع سباق.. في هذا الإطار كتب جلال عامر، الشعر الطريف والقصص الطريفة، ثم كتب كتابه المدوي «مصر علي كف عفريت». وقد تميز جلال عامر بين ابناء هذه المدرسة الساخرة، بسمات جعلته بينهم فردا منفردا، مثل الاستفادة بتقنيات الشعر كالجناس والطباق والتورية، ومثل الجملة القصيرة المكثفة التي تشبه الشعر، ومثل الاستعانة بالقافية الرفيعة الشعبية علي السواء في مزيج واحد، ومثل الموقف السياسي التقدمي الذي يتجاوز مجرد النقد المجتمعي لعادات وتقاليد اجتماعية معيبة دون إطار اجتماعي سياسي، كما فعل آخرون. بهذا المعني، فإن لجلال عامر فضيلة أخري أساسية، وهي إثبات أن اليساريين يمكن أن يكونوا «خفيفي الظل» ضحاكين ساخرين، فقد درجت حياتنا الثقافية والسياسية علي النظر إلي اليساريين باعتبارهم أناسا جهميين معقدين متقعرين منقوعين في الايديولوجيا الجافة وسطور الكتب الخشنة الجامدة الكئيبة التي لا تعرف سوي الصراع الطبقي وفائض القيمة والعصيان المدني والكوموينات. يشبه جلال عامر ثورة 25 يناير في وجوه عديدة، لكن أهمها الوجه الساخر الكاشف للمفارقة والكوميديا السوداء. فمن خصائص ثورة 25 يناير الجوهرية «خفة الظل» التي تبدت في هتافات الثوار، وفي شعاراتهم ولافتاتهم، وتعليقاتهم علي النت. فكأن جلال عامر أعارها بعضا من روحه اللاذعة الضاحكة، أو كأن الثوار كانوا يستلهمون قلمه وجمله الساخرة القارصة ، التي تستخف بالمأساة لكي تستطيع أن تركبها وتعبر إلي الضفة الأخري. هو السكندري الذي كان يرن في أذنيه دائما الشعار الغنائي لمثيله السكندري سيد درويش «أنا المصري كريم العنصرين». لكن هذا المصري كريم العنصرين قاتل أخاه المصري كريم العنصرين وحينما وجد كريم العنصرين يقاتل كريم العنصرين سقط صريع الوجع. فكأن حياته كانت «علي كف عفريت» - مثل مصر- لكن العفريت هذه المرة «فتنة أهل الوطن الواحد». رحل، إذن، لأنه لم يجد في المشهد الذي رآه- مشهد اشتباك المصري مع المصري- ما يمكن أن يحوّله إلي سخرية، خفيفة أو مريرة، فقرر أن يكون موته نفسه هو سخريته المرة، علي وضع ليس ساخراً، وإنما مر مرارة الحنظل.