هذا العام كان لديّ نية متعمدة للتفاؤل، وإصرار على أن يكون العام الجديد عاما سعيدا مبهجا.. استيقظت بحالة نفسية رائعة.. الصباح ما زال غافيا بعد سهرة الليلة الماضية، وما زال يحاول فرك عينيه بصعوبة.. الهواء به رائحة الندى العذب.. والهدوء يعمّ الكون مما يعضّد من نظريتي بصدد استقبال العام الجديد.. خطأ صغير هو ما بدّل المشهد الجميل.. وهو أن تبدأ يومك باستطلاع فيس بوك الذي قارب على التحوّل في الآونة الأخيرة لغراب البين؛ حيث يخبرك بالمصائب أولا بأول. ما زالت حالة التسامي السابقة تمنعني من فهم كامل لما هو مكتوب.. الكثيرون يتحدّثون عن تفجيرات ما حدثت في ليلة رأس السنة.. أتساءل ما الذي يدفع العشرات للتعليق على خبر شبه يومي في العراق أو أفغانستان.. العقل الباطن أقحم الفكرة وثبّتها برأسي دون وعي.. الأمر به تفجيرات.. إذن هو في العراق.. تفجيرات وسيارة ملغّمة.. إذن لا بد أنه حدث بعيدا عنا.. تبدأ بضع كلمات جديدة في إفاقتي تدريجيا.. "سيدي بشر".. "كنيسة القديسَيْن".. ما زال العقل الباطن يتساءل: "ألديهم سيدي بشر أيضا في أفغانستان؟!".. دقائق حتى وضحت الرؤية واستسلم العقل الباطن وتوقّف عن حالة الإنكار.. الشريط الإخباري يُخبرنا أن عدد القتلى 18 والجرحى في ازدياد.. صورة لسيارة خضراء تحوّلت لعجين من الصفيح تؤكد أنها السيارة المتهمة.. توقيت التفجير شديد الدناءة؛ في مطلع العام الجديد؛ ليكون بداية طافحة بالدم على أبناء الوطن.. صور لمظاهرات الغضب للإخوة المسيحيين في شوارع الإسكندرية.. البابا شنودة يعلن الحداد.. مشهد جثث القتلى في الشارع تحاول بعض الأيدي سترها بالجرائد.. هل هذا بالفعل يحدث في مصر؟! لم أعهدنا هكذا.. لم يسبق أن بلغ التعصّب درجة من العنف أكبر من مشاحنات ومظاهرات بين الطرفين لأسباب تافهة.. لكن لم يصل الأمر لهذه الدرجة من الدموية من قبل.. سيارة مفخخة؟! التصرّف والتدبير غريب عن العقلية المصرية.. والتدرّج سريع ومخيف.. العام الماضي كانت حادثة إطلاق النار على الخارجين من الكنيسة بصورة عشوائية، وعدد القتلى لم يتجاوز سبعة أفراد ورغم هذا أصبنا بالهلع.. هذا العام تفجيرات منظّمة وبخطة مرسومة.. عدد القتلى مخيف.. والمشهد مرعب.. وتخيل ما سيأتي بعد ذلك أكثر رعبا. لم أعهدنا هكذا.. حتى في أحلك السنوات في التسعينيات حيث موجة الإرهاب وتكفير المجتمع والدولة.. كان الهجوم على السياح.. على رموز الدولة حيث كانت تلك الجماعات تعتبرهم كفرة حلال دماؤهم.. لكن لم يحدث استهداف للإخوة المسيحيين بمثل هذا العنف من قبل.. لم أعهدنا هكذا.. الكل صار في موقف الدفاع عن النفس.. شيخ الأزهر يندّد بالاعتداء ويؤكد أن الاسلام لا يدعو للعنف ويجرّم مرتكبيه.. صار الجميع في وضع المتهم الذي يبرئ نفسه من جريمة لم يرتكبها، وصار الكل يوضح أن الاسلام دين التسامح ونبذ العنف والارهاب.. أي أن الجميع صار في موقف "اسمي خان وأنا لست إرهابيا".. فعندما أرى ما يُكتب من مقالات وما يُقال على ألسنة المسئولين أن ما حدث لا علاقة له بالإسلام، وأن من فعل تلك الفعلة هو مجرم لا دين له أشعر بشعور غريب.. فأنت تعود لنقطة الصفر لتوضّح ما هو بديهي، وتؤكد ما هو فطري.. وكأنك ليس مكتوبا لك الخروج من الخانة التي يريد مرتكب الفعلة أن تبقى فيها للأبد. لم أعهدنا هكذا.. وكأن الإسكندرية في القطب الشمالي.. وما حدث بها لا يؤثر على باقي سكان مصر.. فالقاهرة لا تبعد الكثير عنها والهمّ واحد، وإنما النتيجة أننا بتنا في جزر منعزلة، وما دامت النار في منزل جاري فلن أشغل بالي كثيرا بالأمر. المشهد ذاته به شيء لفت انتباهي؛ السيارة المفخخة محور الأحداث.. حولها كل شيء، وكل شخص تقريبا يدور حولها؛ الصبية يتأملونها ويعبثون بها ليمحوا آثار البصمات؛ بائع متجوّل يمر ببضاعته في موقع الحادث.. جميع وسائل الإعلام تنتشر في كل شبر، وكأن مصطلح "كردون أمني" وتطويق مسرح الجريمة لم يدخل القاموس لدينا بعد، لنترك الأدلة تتبعثر في كل هذه الأيدي الفضولية.. نفس مبدأ الهواة الذي نتعامل به لا يتغير ولا نتعظ ولا نتعلم أي دروس. لم أعهد بلادي هكذا.. صار العنف والتعصّب سمة تتغلغل في النفوس المشحونة.. لم يعد أي طرف يطيق الآخر، وصرنا نفسح المجال والباب للعدوّ أن يعبث ويلهو بنا كما يريد ويرغب.. لم أعهدنا نبدأ عامنا بدماء وأشلاء ووجع في القلوب.. لم أعهد ولا أحب تلك النظرات التي باتت في العيون بانتظار ما سيأتي.