تخيل معي.. بعد عشرة أعوام.. عشرين.. خمسين.. أو حتى مائة.. تخيّل معي يوما يصحو فيه العالم على هبّة شيعية واحدة ترعاها إيران.. كل شيعة العالم ينفرون نفرة رجل واحد.. يهتفون لولاية الفقيه.. يُطلقون صرخات تأتي من أعماق التاريخ أن "يا علي!" و"يا حسين!" وأن "الرضا من آل محمد".. يردّدونها خلف دعاة إيران في مختلف العواصم، أولئك الذين نشرهم نظام آيات الله؛ ليخلقوا وجودا إيرانيا بين شيعة الدول المختلفة. تخيل معي يوم تتلاشى من ضمائر شيعة العالم وطأة الحدود السياسية وقوة الانتماء للعلم، ويكون قد نضج الولاء لآية الله العظمى المتربع في "قُم"، بعد سنوات من الجهد الساعي لخلق مَدّ شيعي إيراني طالما حذر منه المفكرون ورجال الدين والسياسة. تخيله معي ولا تعتبرني جامح الخيال، فالتاريخ يعيد نفسه، وما أتكلم عنه إنما هو سيناريو عرفه تاريخ العرب والمسلمين والعالم أكثر من مرة! وهو مرشّح للتكرار كأحد الأهداف المحتملة بشدة للمحاولات الإيرانية الواضحة لخلق رابط أكثر من قوي بين الشيعة في مختلف أنحاء العالم -بالذات المشرق العربي- وبين النظام الشيعي في إيران. الدعاة والتقاة لو تأملنا في التاريخ لوجدنا أن كل الحركات الشيعية، سواء وصلت لمبتغاها بتكوين دولة أو فشلت في ذلك، بدأت عملها من خلال عنصر "الدعاية"؛ فالانقلاب العباسي على الأمويين بدأ كدعوة شيعية لأبناء علي شعارها "الرضا من آل محمد"، قبل أن تسفر عن وجهها بإزاحة أبناء العباس أبناء عمومتهم عن الساحة واستيلائهم على الخلافة. والدولة الفاطمية كان تمهيد وجودها نشر الدعاة الشيعة في اليمن والعراق والحجاز ومصر والمغرب، قبل أن يكون هذا الأخير موطن نشأتها الأولى؛ تمهيدا لانتقالها لمصر. كذلك كان التحضير لإنشاء الدولة الصفوية في فارس، وهي أول دولة شيعية تقوم هناك، والتي سلّمت الراية لأسر مختلفة وصولا للنظام الحالي. تلك الدولة الصفوية بدأت بدعاية بين القبائل الموالية لأسرة "صفي الدين" المتحوّلة للمذهب الشيعي. والثورة الإسلامية الإيرانية نفسها ألم يكن سلاح الخميني فيها شرائط الكاسيت الموجّهة للإيرانيين، والدعاة الموالين له الذين انتشروا في البلاد وأخذوا في بثّ أفكار إمامهم للناس؟ ذلك السلاح الذي وصفه الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه "مدافع آية الله" بأنه يشبه سلاح المدفعية الذي يطلق قذائفه من بعيد؛ ليمهّد الطريق للمشاة الذين يحتلون الأرض المقصوفة. ربما اختلفت "بعض" آليات الدعاية باختلاف الزمن، ولكن المنهج بقي كما هو، فالدعاة كما هم منتشرون في البلدان العربية ذات الوجود الشيعي مثل لبنان والعراق وسوريا واليمن والسعودية، وكذلك تلك ذات الهوى المتشيع مثل مصر، ولكن هؤلاء الدعاة تغيّرت أسماؤهم، فهم حينا دبلوماسيون يربطون بعض تلك البلدان بعلاقات مع طهران، أو رجال دين يطالبون بحقوق الشيعة في بلدان أخرى باعتبارهم أقلية يجب أن يكون حقها في التعبد مكفولا، أو قد يأخذ الأمر شكل الإعلام المرئي والمقروء، كما يحدث من بعض الفضائيات مثل "العالم" أو الصحف مثل "الوفاق"، وقد تأخذ شكل سياسيين من أهل البلد موالين لإيران، كما يجري في العراق ولبنان، وبالطبع فإن خلف كل سياسي ورجل دين ووسيلة إعلام حشد كبير من المتأثرين و"المريدين". تلك الدعايات تتحرك ببطء، ولكن بثقة، وهي تأخذ أشكال التخفي عملا بمبدأ "التقية" الشيعي، الذي يبيح -بل ويأمر- بالتظاهر بعكس حقائق الأمور حال وجود خطر على حياة أو مصلحة أو هدف الشيعي. صحيح أن الإمام الخميني قد أعلن إنهاء التقية بعد نجاح ثورته، ولكن هذا كان على المستوى الإيراني الداخلي فحسب، على الأقل من الناحية العملية. وحدة القيادة الدينية ومسمار جحا من ناحية أخرى ثمة تساؤل يأخذ لنفسه مكانا: "أليس من حق الشيعة -كأية طائفة أخرى- أن تكون لها قيادتها الدينية الموحّدة؟ لماذا نقبل حق الطائفة الكاثوليكية مثلا أن تنتمي دينيا للفاتيكان، وننكره على الشيعة؟". الإجابة ببساطة هي أن الولاء الديني لقيادة دينية موحّدة يجب ألا يتعارض مع الولاء للجماعة الوطنية، بل المفروض أن يكون عاملا مقويا للانتماء للوطن، بحيث لا يكون الانتماء الديني عاملا مشككا في ولاء أهل هذه العقيدة أو تلك؛ فالمستفيد الأول من هذا هو كل من الأنظمة القمعية في الداخل، والأنظمة الخارجية الراغبة في تحويل ولاء جزء من هذا الشعب أو ذاك لصالحها؛ لاستثماره لمصالح سياسية بحتة لا علاقة لها بالدين، كما حدث مع اليهود العرب -بالذات المصريون- فيما بعد حربي 1956 و 1967. بينما يوجد نموذج إيجابي للموقف المسيحي المصري من الدعاوى البريطانية لوجود الاحتلال بحجة حماية الأقليات. ولعبة "الأقليات" ليست بالجديدة، فقد مورِسَت مع الدولة العثمانية في أيامها الأخيرة، من فرنسا بحجة حماية الكاثوليك، وروسيا بحجة حماية الروم أرثوذوكس، ولا يوجد ما يمنع تكرارها من إيران مع العرب بحجة حماية الشيعة، خاصة أن فكرة "ولاية الفقيه" لا تعرف الحدود السياسية، فهي لا تخاطب الإيرانيين بل تخاطب الشيعة، بالذات الاثناعشرية، في كل العالم.. والدعاء كل صلاة جمعة بالموت للرافض لفكرة ولاية الفقيه دعاء شامل غير محدد بوحدة سياسية معينة. العوامل المساعدة تعالوا نرجع بالزمن.. تحديدا إلى يوليو 2006، عندما قامت إسرائيل بالاعتداء بعنف على لبنان، فورا خرجت التصريحات العدوانية بحق حزب الله، الممثل الأول للمقاومة اللبنانية آنذاك، وفي نفس الوقت خرجت فتاوى بعض الشيوخ المنتسبين للسلفية بتحريم الدعاء لحزب الله بالنصر؛ باعتبار أنه "شيعي" (!!)، إضافة لخروج حزب الله ولبنان كله منتصرا في الحرب، تزامن مع الدعم الإيراني لحزب الله وأمينه العام الشيخ حسن نصر الله، وانتهى بتزايد شعبية هذا الأخير، وأصبحت الصورة كالآتي: مصر والسعودية -أكبر دولتين سنيتين في المنطقة- تعاديان المقاومة الشرعية، وإيران -الدولة الشيعية الكبرى- وحزب الله -أكبر قوة شيعية عربية- تدافعان عن القضية، بالتالي فقد احتلت القوتان الشيعيتان -إيران وحزب الله- مقعد قيادة "الجهاد" ضد العدو، وبالتالي فقد أثّر ذلك على مشاعر رجل الشارع العربي البسيط، فقلّل من تحفزه ضد التيار الشيعي، وجعله يرى فيه "الخير المطلق" بعد أن كان يتفاعل مع وجوده بحذر... وكسبت إيران أرضا جديدة في لعبة الشطرنج السياسي. ماذا إذن؟ ما العمل إذن؟ كيف يمكن التوفيق بين ضرورتين سياسيتين هما "الوقوف مع من يقف في صف القضية العربية بغضّ النظر عن انتمائه الديني" و"الاحتراس من المخطط الإيراني لإعادة بناء إمبراطورية فارسية قائمة على السيطرة على المنطقة"؟ وكذلك التوفيق بين ضرورتين دينيتين هما "إيقاف المدّ الشيعي المُسَيَّس" و"وجود حوار سلمي مع الشيعة باعتبارهم أهل قبلة أولا وأهل دين -مثلهم مثل المسيحي واليهودي- ثانيا"؟ إجابة هذا السؤال عند القيادتين السياسية والدينية، ولكن أولا وقبل أي شيء ينبغي التعامل مع الشيعة باعتبارهم شيعة لا باعتبارهم موالين لإيران، وهذا بدمج الشيعة العرب في الجماعة الوطنية بشكل يصعب معه تحويل ولائهم.
وكذلك التعامل مع إيران باعتبارها دولة لا باعتبارها ممثلا للشيعة، وهذا بوضع حدود لتعامل القيادة الدينية الشيعية في "قُم" و"طهران" مع الشيعة الموالين دينيا لها، بحيث لا يتجاوز دورها الديني حدوده ويصبح سياسيا، وهذا ليس بالسهل بالمرة، لكنه كذلك ليس مستحيلا.