إلى الدكتورة نهلة نور الدين المحترمة، تحية طيبة.. عندي مشكلة وحالة وسواس قوي جداً في موضوع الطهارة والوضوء والصلاة؛ بحيث لا أستطيع أن أبدأ بالوضوء إلا بوجود شخص معي يتابعني، وقد أدى هذا إلى تراجعي بالدين ونفوري من الصلاة والوضوء. أرجو أن تجيبيني، ولا تنسيني من صالح دعائك؛ فأنا في كرب عظيم.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
F.H
صديقتي الفاضلة.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. بداية سأوضح لك بشكل عام ما هو الوسواس القهري، على أن تحاولي تطبيق ذلك على حالتك: الوسواس القهري: هو عرض لاضطراب نفسي، ويصنف تحت مسمى اضطرابات القلق، واضطرابات القلق بوجه عام تعني الخوف المُبالغ فيه؛ بمعنى أنه من الطبيعي مثلاً أن نخاف ويصيبنا القلق عند مواجهة أمر مجهول، أو شيء جديد لم نجربه من قبل؛ لكن أن نخاف من كل شيء حتى لو كان معتاداً؛ بحيث يصبح الخوف معجزاً، أو نخاف بلا مثيرات خارجية؛ فهنا لا بد أن نتوقف، ونعلن أن هناك أمراً يحتاج البحث في أسبابه ودوافعه.
والقلق يا عزيزتي بحسب النظريات التحليلية، هو خوف من مثير داخلي؛ أي صراعات مكبوتة في العقل الباطن.. وفي حالة حدوث الوسواس القهري تحدث حيلة عقلية؛ بحيث يختفي السبب الرئيسي لمخاوفنا وصراعاتنا الداخلية، وتبدأ الوساوس كرموز مُبهمة لهذه الصراعات التي ننكرها، وقد تظهر الوساوس في شكل أفكار تسلطّية؛ بحيث تكون عملية ذهنية بحتة؛ لكن قد تزداد حِدّة القلق، ويصبح المريض فريسة لقلق لا يتحمله من تسلّط الأفكار؛ فيبدأ في تنفيذ طقوس أو أفعال قهرية لتحدّ من القلق الناتج عن الأفكار التسلطية؛ كتكرار غسيل الأيدي (فعل قهري)؛ نتيجة لفكرة تسلطية، تشير للخوف من الميكروبات والجراثيم.
وهذا هو رأي علم النفس التحليلي، وهذا ما ألاحظه في كثير من حالات الوسواس القهري؛ أن الأصل هو القلق والصراعات الكامنة التي لم يواجهها صاحبها، ولم يتخلص منها؛ وخاصة إذا كانت هذه الصراعات في مرحلة الطفولة ومنبعها الخوف من أحد رموز السلطة في الصغر والشعور برغبات عدوانية تجاهه، تمّ كبتها نتيجة للخوف من هذا النموذج، ويتراكم العدوان على مرّ السنين، ويرفض صاحبه التصريح بالعدوان والغضب من الآخرين بشكل عام كأسلوب حياة؛ مهما حدث "لأنه عايز يفضل شكله كويس على طول"، ويتحول العدوان لصورة رمزية هي مجموعة أفكار وطقوس تخفّف من وطأة غريزة العدوان المكبوتة، وهكذا قد يُشفي مريض الوسواس القهري؛ حينما يتعلم كيف يرصد مشاعر الغضب ويعترف بها، ثم يروّضوها؛ أي يتعلم مهارة إدارة الغضب.
لكن هناك رأي بيولوجي بحت، يشير إلى أن خللاً ما في المرسلات الكيميائية هو المسئول عن ذلك، ونحن لا ننكر وجود هذا الخلل، والذي من أجله نصف الدواء في حالات الوسواس القهري؛ لكن أن يكون هذا هو السبب بمفرده، دون أن يكون هناك عمليات وحِيَل نفسية من أجل الهروب من الصراعات الداخلية؛ فهذا غير مقبول ولا ينبئ بنجاح أي خطة علاجية للتخلّص من الوساوس؛ لذلك فالعلاج الأمثل لا بد أن يشمل ثلاثة أنواع علاجية متداخلة؛ أي تعمل جميعها معاً، وهي العلاج النفسي الدينامي؛ أي الذي يبحث في دينامية الاضطراب؛ بمعنى فهْم كيف تكوّنت هذه الأعراض؛ وذلك من خلال البحث في تاريخ المريض وحياته الأسرية، ووجود عوامل خطورة كتسلّط أحد أفراد الأسرة أو التعرّض لسلوكيات عدوانية من الأب، أو الأم، أو أحد الأشقاء، أو وجود قواعد صارمة في الأسرة التي لاتحترم إلا الانضباط، وتنفيذ القواعد على حساب آدمية الأفراد.
كل هذا يعني رؤية المريض لذاته وواقعه الذي ربما يهرب منه ويرفضه ويحوّله لأعراض وسواسية تحيد به عن الصراع الحقيقي، الذي يُعتبر مصدر ألم بالنسبة له.. ونتيجة لحدوث الألم النفسي مع العلاج؛ فلا بد أن يتزامن ذلك مع العلاج الدوائي، الذي يعمل على تهدئة المريض وتخفيف حدة القلق، التي تزداد مع العلاج في مراحله الأولى.
يأتى بعد ذلك دور العلاج المعرفي السلوكي، والذي قد يبدأ به بعض المعالجين، وقد يجدي ذلك؛ لكن احتمالات الانتكاسة واردة؛ لأن العلاج المعرفي السلوكي؛ وإن كان يعمل بشكل أسرع في اختفاء بعض الأعراض؛ إلا أنه لا يسمح لك برؤية الذات وتحمّل الألم، من أجل النمو النفسىي.
هكذا وضّحت لك الصورة كاملة بما يرضي الله، وأرى أنه من الأفضل التوجّه لعيادة الطبيب النفسي للبدء في العلاج، أو أن يكون لك القدرة على تفحّص ذاتك وتاريخ حياتك، وهل هناك أي صراعات أدّت إلى إصابتك بالقلق وكراهية السلطة في طفولتك.
وإذا استطعت أن تفعلي ذلك بمفردك؛ فلا بأس أن أرشدك لبعض الخطوات التي نستخدمها في العلاج السلوكي؛ لعلها تفيدك بإذن الله: 1- قومي برصد الأفكار الوسواسية التي تحدث لك في مواقف أخرى غير الوضوء مثلاً: نسيتِ باباً مفتوحاً، فكرة تأتيكِ فجأة دون سابق إنذار، وأنت مثلاً مع أصدقائك، وتستمرّ الفكرة؛ بحيث تُشتّتك عن الموقف الذي تمرّين به في هذه اللحظة.
2- قومي برصد وتدوين حدوث فعل قهري نَتَج عن الفكرة؛ كأن تتركي أصدقاءك، وتعودي تتأكدي من الباب أو النافذة.
3- قومي برصد وتدوين المواقف التي تثير لديك هذه الأفكار والأفعال.
4- ابدئي في التوقّع؛ بمعنى: عرفت الآن ما يثير لديك الوساوس؛ فتوقعي أنك حينما ستتعرضين لهذه المواقف سيبدأ التفكير والفعل.
5- عاهدي نفسك على مقاومة الفكرة مهما سبّبت لك من القلق، واعلمي أن القلق يعني أنك على ما يرام؛ فمريض الوسواس متى استسلم للأفكار والأفعال لكي يتخلص من القلق؛ فإنما يعني ذلك أن إرادته قد اختلّت، وأنه يمضي في طريق مضاعفات نفسية أكثر شدة؛ أي أن المقاومة والقلق ظاهرة صحّيّة.
6- ارصدي ودوّني عدد المرات التي نجحت فيها في دفع الأفكار وتأجيل الأفعال.
7- إذا كان الموضوع محدداً فقط في نقطة الوضوء والصلاة؛ فيمكنك أن تستمرّي في أن تجعلي شخصاً يتابعك كما تفعلين؛ لكن لفترة محدودة، وأن تُعلميه بما تعانينه ليمنعك عند التكرار، ولا بأس أن تتفقي معه أنك ستقومين بتنفيذ الفعل الوسواسي بشكل منظّم؛ أي هذه المرة ستكررين الطقوس من تلقاء نفسك ثلاثة مرات، ثم المرة القادمة مرتين، واكتبي في ورقة: لقد انتهيت من المرة الأولى، ثم الثانية، وهكذا إلى أن تفعليها مرة واحدة، ودون رقابة.. إنها وسيلة لتفعيل الإرادة؛ بحيث تجعلين الفعل القهري تحت سيطرة إرادتك؛ وكأنك تقولين "أنا سأوسوس لكن بإرادتي"، وقد يستغرق الأمر شهراً أو اثنين.
8- اعلمي أن مقاومة الطقوس ستُشعرك بالقلق؛ فلا تنزعجي؛ بل على العكس عيشي القلق وتحمّليه، واعلمي أن الخلايا العصبية بالمخّ سيحدث لها نوع من التكيّف بعد تكرار القلق؛ بحيث لا تشعرين بهذه الخبرة فيما بعد، مع مقاومة الوساوس حتى تختفي نهائياً.
ابدئي وتوكلي على الله الشافي من كل داء؛ فإذا استطعت تجاوز الأمر بمفردك؛ فذلك خير كثير، ونحن معكِ متى احتجت لنا بإذن الله.