اسمح لي بداية أن نتفق سوياً على أنه لا يوجد شيء بيني وبينك -عزيزي القارئ- يدعوني لكراهيتك وحرق دمك؛ اللهم إلا عادة قديمة قِدَم الحضارات البدائية العتيقة التي آمنت بأنه عند الإصابة بالمرض أو مسّ الأرواح والأشباح والجن والعفاريت... إلخ، ما عليك إلا أن تقتحم منزل شخص آخر أو تقترب منه بما فيه الكفاية، كي تنقل له العدوى؛ فيصاب هو بمرضك وتُشفى أنت، أو ينتقل له عفريتك أو الروح الشريرة المسيطرة عليك، وتخفّف أنت من حمولك هذه. ولهذا فلا تأخذ الأمر على محمل شخصي؛ فكل ما أريده هو التخفف قليلاً من بعض العفاريت والأرواح الشريرة.. لا أكثر ولا أقل! العفريت الأول: الحزب الوطني وسياسة الحساب يوم الحساب يا حلوين! لو كنت متابعاً لقناة BBC أو لموقعها على شبكة الإنترنت، أو حتى لو لم تكن، وكان لديك اهتمام بتتبع الأخبار والأفكار الجديدة عبر الإنترنت؛ فأنت قد سمعت بكل تأكيد عن برنامج "ساعة حساب".. البرنامج يعتمد على فكرة برنامج "Question time"، وهو البرنامج الذي يُذاع على قناة BBC الأمّ منذ عدة سنوات. وفكرة البرنامج ببساطة أن يتمّ استضافة بعض المسئولين في لقاء مفتوح تحضره جماهير واعية -لم يتم إعدادها أو تلقينها مسبقاً- مع تلقّي أسئلة أخرى عن طريق الجماهير المتابعة عبر شبكة الإنترنت.. وتوجيه هذه الأسئلة إلى المسئولين دون تدخّل أو حذف؛ حتى من مقدم البرنامج.. وعلى الضيف أن يجيب عن جميع الأسئلة المطروحة عليه.. البرنامج ناجح في بريطانيا بشكل كبير، وحقق الكثير من الضربات الإعلامية المتميزة. ويبدو أن الشيطان عبث بعقول بعض مسئولي BBC العربية؛ فقرروا أن يُعرّب البرنامج ويصدر في نسخته العربية الأولى. ويبدو أيضاً أن الشيطان الذي عبث بعقل مسئولي BBC كان "جنّ مصور"؛ لذا قرر أن تنطلق الحلقة الأولى لهذا البرنامج الجديد عن خبر مصري؛ على اعتبار أن مصر هي الشقيقة الكبرى، والدولة العربية الأهم والأكثر ثقلاً و... و.... و... إلخ. أما يبدو الأخيرة؛ فإنه يبدو أن هذا "الجنّ المصور" كان "ابن عفاريت بصحيح"، ولذلك فقد "وزّ" المسئول بأن تُقام الحلقة عن الانتخابات البرلمانية الدائرة في مصر. وهكذا عزيزي القارئ؛ فقد تقرّر إقامة "ساعة حساب" لمسئولين مصريين في تواجد جمهور واعٍ منتقىً بعناية، وليس من نوعية الجمهور الذي يحضر في البرامج الحوارية العديدة، والذي يتمّ تأجيره ب35 جنيهاً للشاب.. و100 جنيه للفتاة "فول ميك أب" Full makeup لكي يصفّقوا لضيف، عندما يطلب منهم المخرج ذلك. ونظراً لمعرفة القائمين على البرنامج بخصوصية مصر ومسئولي مصر والفكر الجديد بمصر؛ فلقد قرروا أن يخففوا من وطأة البرنامج، باستضافة عدة ضيوف من تيارات مختلفة لنفي تهمة عدم الحيادية التي يعرفون أنها ستوجّه لهم مقدماً؛ لذا فقد تمّت دعوة كل من د. جهاد عودة (عن الحزب الوطني)، د. منى مكرم عبيد (عن حزب الوفد)، د. أسامة الغزالي حرب (عن حزب الجبهة الديمقراطية)، وأخيراً د.حلمي الجزار (عن جماعة الإخوان المسلمين). وافق الضيوف، وتمّ دعوة الشباب المشارك، وتمّ الإعلان عن البرنامج عبر قناة BBC العربية والأجنبية، وهذا لإتاحة الفرصة للعرب في الدول الغربية بالمشاركة.. وتمّ زفّ خبر إرسال المشاركين لأسئلتهم عبر موقع BBC عربي.
شكراً لك اهتمامك ببرنامج بي بي سي عربي الجديد. ساعة حساب، برنامج يقلب الموازين ويصبح المسئول فيه مساءلاً من قِبَل الجمهور.. ساعة حساب، تمنحكم الفرصة لاستجواب صانعي القرار والسياسيين عن كل ما يشغل بالكم من أسئلة بلا حدود، ويمنح الكلمة لكل من لا صوت له.. ستتناول حلقتنا الأولى من ساعة حساب الانتخابات المصرية المقبلة، وهي الانتخابات التي تُعَدّ حاسمة في تاريخ مصر.. إن كنتم تودون المشاركة، فالرجاء إدخال السؤال الذي تودون طرحه.. مهما كانت أسئلتكم لضيوف البرنامج؛ بإمكانكم طرحها هنا..
وتمّ تحديد الثلاثاء الماضي كيوم لانطلاق البرنامج.. والساعة السابعة والنصف كساعة للحساب.. بل حضر ثلاثة من الضيوف الأربعة للبرنامج، وهم: أسامة الغزالي حرب، وحلمي الجزار، ومنى مكرم عبيد..
وهنا أدرك شهرزاد "الأمن" فسكتت عن الكلام "غير المباح" فقد فوجئ الجميع بمدير الاستديو، يرفض التصوير ويطلب استئذان أجهزة الأمن أولاً؛ مبرراً بأن الأمن قد طلب ذلك، وأنه يجب على BBC أن تحصل على إذن من الأمن. ولقد اعتقد المسئولون في BBC أنه ما زال هناك أمل في تقديم الحلقة لو قاموا بالتحرك سريعاً؛ لذا فلقد اتجهوا إلى وزارة الإعلام، وعلموا هناك أن المنع أمني صرف؛ فاتصلوا بعبد اللطيف المناوي -مدير مركز أخبار مصر- ولكنهم فشلوا في حل المشكلة؛ فتوجهوا إلى المركز الصحفي للمراسلين الأجانب بالتليفزيون، فتمّ إخبارهم أن الاعتراض بسبب استضافتهم الجزار وحرب، وأن عليهم لو أرادوا تنفيذ الحلقة ألا يسجلوا مع الاثنين، وأن يتمّ استبعادهما من الحلقة. وهكذا اعترض فريق BBC على اعتراض ومنع الأمن، وقاموا بالعودة إلى بريطانيا، والإعلان عن فشل الحلقة بسبب تزمّت الأمن. العفريت الثاني: عندما يصبح قتل الشعب عن طريق "فقْع المرارة" دعنا الآن مما سبق وتعالَ نتكلم في الفن.. في الفصل الأخير من مسرحية "تخاريف" لمحمد صبحي، في أمنية "السُلطة" يقوم خادم الديكتاتور -بالمسرحية- بتقديم القهوة له؛ فينظر له الديكتاتور شزراً، ويطلب منه أن يشرب منها أولاً، وهكذا بكل بساطة يردّ عليه الخادم قائلاً: "شكراً يا أفندم، ما باشربهاش بالسم"، وهنا ينفجر به الديكتاتور ساخراً، وهو يقول: "متآمر وأهبل؟!". أغلبنا شاهد المسرحية، وانفجر ضاحكاً مع الموقف.. ولكن الحقيقة أن الجملة في الصميم "متآمر وأهبل". قد تعجب، عند قراءتك أو مشاهدتك لعمل فني، بشرير العمل الذكي العبقري الذي يكيد لكل أبطال العمل بدهاء، دون أن ينكشف أمره، ويستخدم حيلاً مبتكرة، ويوقع هؤلاء بأولئك دون أن يكشفه أحد، ويقدم مبررات وتحليلات لأفعاله؛ فيستطيع أن يؤثر بها على الجماهير؛ فيقعون في غرامه، وهو في الحقيقة يقودهم إلى الجحيم متسلّحاً بذكائه وكاريزمته. وحتى على المستوى الواقعي، قد تسمع عن خدعة قام بها نصاب، بل ربما تقع أنت فريسة لهذا النصاب، ولكنك تضرب كفاً بكفّ؛ فأنت لا تعرف كيف تعبّر عن إعجابك بذكائه؛ حتى لو كنت ترفض موقفه. أما أن يكون الشرير من نوعية "متآمر وأهبل"، وأن يكون النصب والكيد "على عينك يا تاجر"، بلا أي ابتكار؛ فهذا هو ما يحرق الدم بالضبط. أن يتم منع برنامج سيشاهده عدة مئات أو آلاف؛ فتقوم بي بي سي بعمل تقرير إخباري مميّز بدلاً منه، يعرض المقاعد الفارغة وتعنّت الأمن وآراء كلٍ من الغزالي حرب والجزار فقط، ويطير الخبر، ويصبح الموضوع قضية تناقش في الداخل والخارج، عن الحكومة المصرية "المرعوبة" من مجرد برنامج ومن اثنين من المعارضين!! ويصبح البديل لبرنامج رأي محدود، فضيحة إعلامية منتشرة؛ فهذا هو الغباء السياسي بعينه.. أن يجتمع عدة مسئولين من الحزب الحاكم في جلسة مطوّلة ببرنامج يُذاع على القناة الأولى، والمفترض بهم أنهم الفائزون الحائزون على أصوات أغلبية الشعب؛ فتجدهم سخّروا الحوار بأكمله ليتشفّوا في "المحظورة"؛ حتى تكاد تنتظر منهم أن يُخرج أحدهم لسانه عبر الشاشة قائلاً "هأأأوأوأو كسبناكم وجبناكم الأرض يا وحشين". أن يتكلم العالم بأكمله، بحكوماته، بوكالات أنبائه، بجمعايته الحقوقية، بمعارضيه، بمسئوليه الموالين للحكومة المصرية، وأن تتكلم مصر بأكملها بقضاتها، بمعارضيها، بمنظماتها الحقوقية، بمراقبي انتخاباتها، بكتابها، وصحافتها، ومدوّنيها، وفيسبوكيها، ومواطنيها، بأحزاب معارضتها، وأحزاب ديكورها، ومحظورتها؛ أن يقول كل هؤلاء بأن الانتخابات لم تكن نزيهة، وأنها كانت الأكثر تسويداً -وربما سواداً- في تاريخ انتخابات مصر، وأن التزوير كان منهجياً.. ليخرج علينا بعد ذلك السيد صفوت الشريف، ويُخبرنا بأن "التاريخ سيسجل انتخابات مجلس الشعب الحالية بنزاهتها وشفافيتها، وبمواجهة الحزب الوطني للتنظيم غير الشرعي الذي لم يحقق أية قدرة على الفوز في المرحلة الأولى للانتخابات، التي كانت حرة ومحايدة وشفافة؛ وذلك بشهادة أرقام التصويت التي تمّ تسجيلها". فكيف يمكن الردّ على مثل هذا التصريح الذي سيتذكره التاريخ بالفعل (التصريح لا الانتخابات)؟!! وكيف لا يجد بعض المسئولين غضاضة في الحديث بكل هذه الثقة، بكلام يعلم هو قبل أي شخص آخر بأن الجميع يتعجب منه ويعترض عليه؟؟ كان الأوْلى أن يتمّ التمتع بالذكاء في اتباع سياسة الصمت، والتعامل بطريقة "إحنا بنعمل اللي إحنا عايزينه وإنتوا قولوا اللي إنتم عايزينه".. وتصدير "الطرشة" للشعب.. وقتها كانت ستتحول جميع التصريحات المعارضة إلى مجرد زوبعة في فنجان كالعادة. لذا فرجائي الأخير عزيزي القارئ -وأعتقد أنه رجاؤك أيضاً- أرجوكم أرجوكم، زوّروا الانتخابات، زيّفوا أصواتنا، قفّلوا الصناديق واللجان، افعلوا ما تريدون؛ ولكن رحمة بمرارتنا وضغطنا المرتفع، لا تتعاملوا معنا من منطلق أننا أغبياء سنصدّق ما يُقال لنا ونقول آمين. من فضلكم من فضلكم كونوا متآمراً ذكياً، يُجبرنا أن نصفق له احتراماً للعبة الحلوة؛ حتى لو كانت هذه اللعبة ستهبط كالصاقعة فوق رؤوسنا. ولْتكن شهقتنا الأخيرة قبل سقوطها شهقة انبهار لا غيظ؛ فنحن شعب طيب يستحق هذه المجاملة الأخيرة.