على أي حال كل عيد وأنتم طيبون.. وبما أننا نحتفل بالأعياد الإسلامية أيما احتفال؛ كان الواجب من المقال أن يتحدث إما عن فضيلة الأعياد أو عن سبب وجودها. فأما فضيلة الأعياد فستذكرها كل البرامج الفضائية بلا جدال، والحديث عن الحج سيستفيض؛ خاصة لارتباطه بعيد الأضحى تحديداً، وسيكون يوم عرفة ونقل شعائره محركاً عاطفياً لكل من أراد أداء الفضيلة ولم يستطع ذلك، ويمنّي نفسه العام القادم بأنه ربما تنصلح الأحوال. وبما أنه عيد وبه تجديد؛ فليس وقت حديث ذي شجون، ولا حديث عن أن معنى العيد نفسه قد اختفى، أو التطرق لما قد يفسد فرحته ونحن أحوج ما نكون للفرحة؛ فربما التفكير في أهمية العيد أساساً شيء ضروري جداً. الأعياد جميعها -وخاصة المستحدثة أو المنقولة عن الغرب- تهدف لتمجيد فكرةٍ؛ عيد الأم، الطفولة، النصر.. إلخ.. يوم خُصّص لنذكّر أنفسنا بقيمة معيّنة، نقيم لها أية فعالية تؤكد أن هناك بعض الناس تعتقد في أهمية تلك الفكرة، ويعترض الباقي عليها؛ لأنها تسلبنا هويتنا وتُسلمنا للتشبّه بالغرب؛ ولكن لا يعترضون على الإجازة! لكن الأعياد الإسلامية لها قدسية خاصة، لأنها أولاً ليست من إلهام شخص عادي، وثانياً لأن وجودها في أول الأمر كان العلامة الفارقة للإسلام دون الأديان الأخرى التي لها أعيادها الخاصة؛ لذا كان ضرورياً من أجل اكتمال صورة الإسلام أن يكون له أعياد هو الآخر تقيم دعائم شخصيته المستقلة؛ فكان العيدان الفطر والأضحى. ثم اتّخذ أهدافاً أخرى؛ فلم يعُد يميّز المسلمين فحسب؛ لكن أصبح يدعوهم ويذكّرهم بأن يصلوا أرحامهم ويشيعوا البهجة فيما بينهم، لتكتمل مظاهر السعادة؛ مؤكداً بشكل غير مباشر أن الفرد لا يمكن أن تكتمل سعادته دون المجموع، تلك السعادة التي تُدعى جزءاً من أضحيتك أو صلاة العيد.. ففكرة التضامن الاجتماعي بجانبيها المادي والإنساني، القائمة وراء العيد، أكبر من أن تقتصر وتتحقق في مناسبتين سنوياً، كما أنها ليست الفترة الوحيدة التي يجب فيها صلة الأرحام والنظرة للفقراء أو حتى التعبّد بشكل شخصي.. وبيان فضلها وأهميتها هو ترغيب للمسلمين وليس إضافة لقداسة معيّنة على تلك الأيام فقط لنتجاهل أن الدين الإسلامي كله قائم على تلك المعاني، أو أن له آلاف الوسائل التي تقرّب بين العبد وربه، وتقيم مجتمعاً صالحاً. إذن فهذا الاختزال غير طبيعي وإن كان البشر يمتلكون صفة النسيان كجزء أصيل منهم؛ فكان تذكيرهم واجباً في هذين العيدين، وكان تعمّدهم بتجاهل تلك المبادئ باقي أيام السنة أمراً بات مفضوحاً. هنا يبدو الحديث تحميلاً للأمر أكبر مما يحتمل؛ فهو عيد، يشعر فيه الناس بالسعادة، ويذبحون الذبائح ويوزّعون الأضحية وينعم الجميع بنوم هانئ، وتعمّ الشوارع فضيلة عدم الازدحام، وتنطلق كل القنوات لتحكي قصة سيدنا إبراهيم وإسماعيل، والطاعة، والكبش، والفداء، وحسب. لكن من الفقراء من لم يعد يشعر بفرحة العيد لأنه يعلم أن اللحمة التي سيتذوقها يوماً ستزول في اليوم التالي.. وبما أن تحديد التعريف العلمي للفقراء أصبح من الصعب تحديده؛ فصرنا كالفقراء؛ خاصة النصف المتعلم منّا يتمادى في التمتع بالفقر؛ فالمواطن السابق ذكره الذي كان يشاهد القناة التليفزيونية، وهي تنقل شعائر الحج متمنّياً أن ينولها يوماً ما، هو تقي مؤمن ورِع ظالم؛ هذا لأنه يعرف ويتظاهر بعدم المعرفة أن حجه لا يتمّ لأنه لا يملك مالاً، ولن يملك وهو يعمل يومياً وأجره لا يفي بمتطلبات حياته الأساسية؛ فكيف سيفكّر في الحج. وإن حاول أن يُبرّئ ذمته ويطيّب خاطره بأنه فريضة على من استطاع إليه سبيلاً فلا جناح عليه إذن؛ لكنه في المقابل تناسى كل الفرائض الأخرى، وتنكّر لها ويبحث عن هذه فقط.. الفرائض بمعرفة قيمة العقل وإتقان العمل وعدم السكوت عن الظلم؛ فيصير مستضعفاً و..... إلخ. تبدو تلك الفرائض بالنسبة له مملة وسخيفة ولا يجب تذكّرها لا في العيد ولا غيره؛ لأنه سيصوم يوم عرفة ويكبّر ويصلي العيد؛ فتلك هي فرائضه فقط، ثم يدعو صادقاً بإجابة دعواه ويذبح الأضحية، ويتّصل تليفونياً بكل من يعرف؛ فيقول له "كل سنة وأنت طيب وإن شاء الله السنة الجاية في عرفات"، دون أن يفكّر في استحقاقه لل"آمين".