أكتب هذا المقال وأنا معلّق بين السماء والأرض في الدور السابع عشر من فندق "كروان بلازا" في وسط مدينة شيكاجو، أتطلّع مِن الشرفة فأرى ناطحات السحاب العملاقة، وشبكة الطرق السريعة الكثيفة المتقاطعة، أرى شيكاجو التي عشت فيها، وتعلّمت، واكتشفت عالماً إنسانياً جديداً ومثيراً كتبت عنه في رواية تحمل اسمها. منذ خمسة وعشرين عاماً بالضبط حصلت على درجة الماجستير في طب الأسنان من جامعة "إلينوي" في شيكاجو. هذا العام فوجئت بإدارة جامعة "إلينوي" تهنّئني بالحصول على جائزة الإنجاز لهذا العام؛ جائزة الإنجاز هي أكبر جائزة تمنحها الجامعة لخريجيها، وهي تُمنح لخريج الجامعة الذي يُحقّق إنجازاً استثنائياً فريداً على المستوى الوطني أو العالمي، من ضمن ستمائة ألف خريج أتمّوا دراستهم في جامعة "إلينوي" لم يفُز بالجائزة إلا عدد قليل من الخريجين، أنا الفائز رقم 43 في تاريخ الجامعة، وأوّل مصري وعربي ينال هذا الشرف، الحمد لله. كم أحسست بالفخر وأنا أسمع اسم مصر العظيمة يتردّد في أروقة واحدة من أكبر الجامعات الأمريكية، أعدّت لي إدارة الجامعة برنامجاً احتفالياً رائعاً؛ حيث اصطحبوني في جولة في أنحاء شيكاجو، رأيت الشوارع وجلست في الأماكن التي ترددت عليها من ربع قرن.. بل إنني رأيت سكن الطلاب الذي أقمت فيه، فوجدته كما هو، وتطلّعت إلى شرفة الحجرة التي كنت أسكن فيها. يا الله.. هل كنت أتصوّر وأنا أستذكر دروسي في هذه الشرفة أنني سأعود بعد ربع قرن لأحصل على جائزة الإنجاز من الجامعة... في اليوم التالي ذهبت لأزور كلية طب الأسنان، وجدت عميد الكلية د. "بروس جراهام" في انتظاري ومعه مساعداه د. "فالنتينو" ود. "بايك"، صحباني في جولة في كلية طب الأسنان التي درست فيها؛ فانهمرت على ذهني الذكريات. هنا العيادة التي كنت أعمل فيها، وهنا المعمل الذي أجريت فيه أبحاث الماجستير، أطلعني العميد بالتفصيل على التطوّر المدهش الذي أَدخله على الكلية لتكون دائماً مواكبة للتطوّر العلمي. الأجمل من كل ذلك أن إدارة الجامعة قامت بالبحث عن أساتذتي الذين درّسوا لي منذ خمسة وعشرين عاماً وَدَعَتهم للحضور؛ فحضر: دكتور "ديل إيزنمان"، ودكتور "عبد المنعم زكي"، ودكتور "دينيس ويبر".. تأثّرت بشدّة لما رأيتهم. لن أنسى ما حييت فضل هؤلاء الشيوخ الأجلّاء؛ علّموني وقاموا برعايتي وأنا طالب مغترب بلا حول ولا قوة، وساندوني حتى تخرّجت، وها هم الآن بالرغم مِن تقاعدهم وتقدّمهم في السن، فإنهم يتكبّدون المشقة، ويحرصون على الحضور للمشاركة في الاحتفال بحصولي على الجائزة.. عقدت لي إدارة الجامعة ندوة تحدّثت فيها عن الأدب العربي، وامتلأت فيها قاعة المكتبة عن آخرها، واشتركت مع الحاضرين في نقاش ثقافي وسياسي ثري وممتع، بالأمس أقيم الاحتفال الكبير لتسليم الجائزة. أمام عشرات المدعوّين الأمريكيين أشاد رئيس جامعة "إلينوي" بما أعتبره إنجازاً استثنائياً حقّقته في الأدب، وأكّد أن الجامعة فخورة بي باعتباري أحد أبنائها، ثم نادى على اسمي لأتسلّم الجائزة، فضجّت القاعة بالتصفيق، قلتُ كلمة قصيرة أكّدت فيها أنني مدين لجامعة "إلينوي" بما حقّقته من نجاح؛ لأنني تعلّمت فيها أن العمل المنتظم الشاق هو الطريق الوحيد للإنجاز.. قلت لهم إنني حصلت على جوائز أدبية دولية كثيرة، لكن هذه الجائزة لها فرحة خاصة؛ لأنها من جامعة "إلينوي" التي تعلّمت فيها، كأنني أنال التقدير من أفراد أسرتي.. بعد الاحتفال جاء الجميع لتهنئتي، فسألت المسئولين في الجامعة كيف يتم اختيار الفائز بجائزة الإنجاز؟! فأخبروني بأنه توجد إدارة خاصة لمتابعة الخريجين في كل كلية. وعندما تكتشف أن أحد الخريجين قد حقّق إنجازاً مرموقاً؛ فإنها تطرح اسمه كمرشّح، فيتم التصويت عليه أوّلاً داخل الكلية، ثم بعد ذلك يتم التصويت على مستوى الجامعة، وبالتالي تكون المنافسة بين أسماء مرشّحين عديدين من كليات مختلفة، ومَن يفوز بأغلبية الأصوات يحصل على الجائزة. سألتهم: لماذا تهتم جامعة "إلينوي" بمتابعة نشاط خريجيها، وكثيرون منهم يعيشون في بلدان بعيدة، وقد انقطعت علاقتهم بالجامعة منذ فترة طويلة؟! كانت الإجابة: إن علاقة الجامعة بخرّيجيها لا يجب أن تنقطع أبداً؛ فكل مَن تخرّج في "إلينوي" أصبح عضواً في أسرة الجامعة، وكل إنجاز يُحقّقه يحسب للجامعة، ويجب أن تفخر به. عشت أياماً من السعادة حتى جاءتني من مصر أخبار مؤسفة؛ طالبة في جامعة الأزهر فرع الزقازيق، رأيت صورتها فوجدتها فتاة مصرية وديعة محجّبة مثل ملايين البنات المصريات، ذهبتْ لتتلقّى العِلم في جامعتها، فطلب منها ضابط الأمن تفتيش حقيبتها، فرفضت؛ فإذا بسيادة النقيب ينهال عليها بالضرب المبرح، جَلَدَها بالخرطوم، وصفعها، ولكمها، وراح يركلها بكل قوته في بطنها. لا أفهم ما ذنب الفتاة المسكينة حتى تتعرّض لهذا الاعتداء الوحشي، وبأي حق يضرب حضرة الضابط بهذه القسوة بنتاً ضعيفة لا تملك الدفاع عن نفسها؟!! ولو صح ما قالت فإنه لم يكتفِ بهذا الاعتداء، بل إنه منع سيارة الإسعاف من نقلها إلى المستشفى، حتى تدهورت حالتها، وأصيبت بنزيف داخلي ما زالت تعالَج من آثاره.. ما فعله النقيب -لو تم إثباته في تحقيقات النيابة العامة- فإنه يُشكّل عدّة جرائم في قانون العقوبات المصري، وكلها مسجّلة بالصوت والصورة على فيديو موجود على مواقع الإنترنت.. لكنك تعلم يا عزيزي القارئ -كما أعلم- أن هذا الضابط لن يُحاسبه أحد أبداً، بل على العكس ربما تتم ترقيته مكافأة له على الاعتداء على الطالبة.. الأغرب من هذا أن رئيس جامعة الأزهر قال كلاماً يُساند فيه الضابط في اعتدائه على الطالبة. لا يمكن هنا أن أمنع نفسي من المقارنة؛ فجامعة "إلينوي" تتابع بدقة نشاط خرّيجيها في كل أنحاء الدنيا، فتكافِئ مَن ينجح منهم، وتحتفل بهم، وتعتبرهم أبناءها الذين ربّتهم وعلّمتهم، أما جامعة الأزهر -أعرق جامعة إسلامية في العالم- فإن ضابط الأمن فيها يعتدي على طالبة بطريقة وحشية، ويمنع إسعافها، فيوافقه في ذلك رئيس الجامعة، ما الذي يصنع هذا الفارق الرهيب في علاقة الجامعة بطلابها، الإجابة كلمة واحدة: النظام السياسي.. في جامعة "إلينوي" يتم اختيار رئيس الجامعة عن طريق نظام صارم من الانتخابات من لجان مختلفة، بعد ذلك تتم متابعة أداء رئيس الجامعة من لجنة متخصصة تكتب تقريراً سنوياً عن أخطائه، وتستطيع أن تقيله في أي لحظة، جامعة "إلينوي" مستقلّة تماماً في إدارتها عن التأثير الحكومي، لا يستطيع الرئيس أوباما نفسه أو سواه أن يُقيل رئيس الجامعة لو أراد. رئيس جامعة "إلينوي" يعمل من أجل العِلم، وهو في خدمة الأساتذة والطلاب، أما رئيس جامعة الأزهر فلا يتم تعيينه إلا بعد موافقة الأمن، ويستطيع تقرير أمني واحد أن يُطيح به من منصبه، ولو أنه اتخذ موقفاً جاداً لمساندة الطالبة المعتدي عليها لتمت إقالته فوراً.. النقيب يعلم أنه أقوى بكثير من رئيس الجامعة، وهو شأن كل المسئولين عن الأمن في مصر مطلق اليد تماماً في ضرب المصريين وإهانتهم ما دام ذلك يُؤدي إلى بقاء الحاكم في السلطة، بل إن استعمال العنف مع المعارضين هو الطريق الأكيد للترقي. ما زلنا نذكّر كيف أدخل البعض البلطجية إلى جامعة عين شمس عندما كان رئيساً لها، ودفعهم للاعتداء على الطلاب بالسنج والمطاوي، وكانت النتيجة حصوله على منصب أعلى مكافأة له على تفانيه في خدمة النظام.. الجامعة في البلاد الديمقراطية تحرز تقدّماً علمياً يُؤدّي إلى نهوض البلد كله. أما الجامعة في مصر فهي تتخلّف وتتدهور كل يوم؛ لأن رئيس الجامعة لا يُهمّه العلم في قليل أو كثير، كل ما يُهمّه إرضاء أجهزة الأمن وإثبات الولاء للرئيس والنظام، الفرق بين ما حدث في جامعة "إلينوي" وما حدث في جامعة الأزهر هو الفرق بين بلد السلطة فيه للشعب، والسيادة فيه للقانون، وبلد السلطة والسيادة فيه لشخص الحاكم فقط، أما الشعب فلا كرامة له ولا حقوق. الديمقراطية هي الحل.. نُشِر بالشروق بتاريخ 19/ 10/ 2010