غالباً سيقوم القارئ بصبّ اللعنات فوق رأسي فور انتهائه من قراءة هذه السطور، التي هي مجرد وجهة نظر شخصية خاصة بكاتبها، قد تكون صحيحة أو مخطئة، وهي تتعلق بجزئية واحدة، خاصة بمقولة أن: الدكتور أحمد خالد توفيق "رائد أدب الرعب في العالم العربي". في البداية أقرّ بأنني من المعجبين القُدامى بالدكتور "أحمد" منذ ظهرت رواياته الجميلة، وخلقت جيلاً كاملاً متأثراً به؛ سواء كان في الأسلوب المتميز الذي يستحيل تكراره، أو حتى على مستوى الأفكار، أو موضوعات السلاسل، وهو -بسم الله ما شاء الله- كاتب غزير الإنتاج؛ برغم عمله في مجال الطب؛ فمن سلاسله المتنوعة، إلى رواياته التي بدأت تخرج عن جوّ المؤسسة، ولا ننسى مقالاته الكثيرة والقيّمة في الدستور، وغيرها. وهو -مع غزارة ذلك الإنتاج- لا يكتب شيئاً تافهاً، أو مستهلكاً؛ بل يقدّم معلومة مهمة، أو رأياً خاصاً به، أو انفعالاً صادقاً، وعندما تقرأ له ستندهش من الزاوية الذي ينظر منها للشيء المراد مناقشته؛ فهو يضعّ يده على الجرح، وكأنه يبصر بعين تختلف عنا نحن الذين تعوّدنا على أن نمرّ على الأشياء دون أن نركّز فيها. وهو على المستوى الشخصي ليس منعزلاً في برجه العاجي ككتّاب آخرين؛ بل تضيء ردوده "شبكة روايات التفاعلية"، ولا يستنكف أن يلبي دعوة له؛ حتى لو كانت في مكان بعيد، وقد تكون هذه الدعوة حضور افتتاح مسرحية لأحد محبيه، أو مشاركة كاتب شاب يوقّع كتابه الأول، وحتى في ردوده على البريد الإلكتروني الخاص؛ كلها تشي بأدبه وتواضعه الجمّ.. ومن تجربة خاصة بي؛ فقد تراسلنا أكثر من مرة، في فترات متقطعة، وقد أرسل لي -مشكوراً- موسيقى فيلم "متاهة بان"؛ حتى أنني أندهش كيف له أن يجد له كل هذا الوقت لكي يفعل كل ذلك؟ وهو ما زال بيننا بشخصه وكتاباته، مدّ الله في عمره، ومتعه بالصحة والعافية. رواية "حلقة الرعب" نجحت جداً في التعبير عن أنماط الرعب الأصيلة أعود للجزئية التي تحدّثتُ عنها سابقاً، وهي المتعلقة بأن الدكتور أحمد خالد توفيق هو "رائد أدب الرعب في الوطن العربي".. وما أراه أن هذه التسمية غير مطابقة للواقع من ناحية، وفيها إنقاص من قدر كاتبنا، الذي لا يمكن تلخيص عمله الأدبي وحضوره كأب روحي للكثير منا، في أنه مجرد "رائد أدب الرعب". من ناحية أخرى لا يمكن إنكار فضل الدكتور "أحمد"، في أن مجال الرعب نفسه لم يكن موجوداً من قبل على الساحة العربية؛ اللهم إلا محاولات قليلة لا ترقى لمستوى الرعب، وإن كانت تقترب منه، كما في بعض روايات الدكتور نبيل فاروق، وفي رأيي أن إنجاز الدكتور "أحمد" في هذا المجال يُبنى أكثره على أنه استطاع أن يفتح لنا بوابة الرعب على مصراعيها، من خلال تعريفنا بمعظم التيمات العالمية، مثل المذءوبين، ومصاصي الدماء، والاستحواذ، والطقوس الشيطانية، وكتب السحر.. إلخ. واستطاع أن يعيد صياغتها في بيئة مصرية، فيها شخصيات من لحم ودم؛ وإن كان الدكتور "أحمد" لم يصنع عالماً مبتكراً وجديداً بالكامل من قلب البيئة التي نعيش فيها، ومن الظلم أن يُقال إن الرجل مجرد ناقل فحسب؛ بل هو مبدع، فعل الكثير والكثير من أجل الأجيال التي ستأتي من بعد. على المستوى الشخصي، لديّ ولع خاص بأعداد من السلسلة المتميزة "ما وراء الطبيعة"؛ فرواية "حلقة الرعب" مثلاً أجدها ناجحة جداً في التعبير عن أنماط الرعب الأصيلة، من "المرآة الشريرة" التي تزّيف الحقائق، وتُخرب البيوت، إلى "القط" الذي يستشعر قدوم الخطر، ثم تأتي نهاية الرواية العبقرية في أن الخوف هو أحد الضيوف الموجودين، وأنه كان كامناً في كل القصص التي رُويت بشكل مستتر.. كذلك "أسطورة البيت"، و"الطفولة البريئة" التي تتحول لخطر يهدد بالموت، و"أسطورة الجاثوم"، التي أعتبرها عملاً أصيلاً وشديد الخصوصية؛ برغم استثمار الكاتب لمصادر غربية؛ لكننا في الصعيد نعرف الجاثوم باسم "الجتيمة"؛ حيث يشعر الإنسان بأن هناك من يجثم على صدره، ويختنق بسبب الحمل الثقيل الذي يقيده ويمنعه من الحركة. والرواية المنقسمة إلى جزأين، كنتُ أتمنى أن تُعالَج مرة أخرى بشكل أوسع وأكبر؛ بحيث تتحول لرواية منفردة بذاتها، ولا أستبعد -إن حدث هذا- أن تكون من الروائع العربية التي تُترجم بفخر للغات الأخرى؛ فكاتبها يناقش فكرة المصير، وهل يستطيع المرء أن يتغلب على الخطة المحكمة التي توضع له؛ حتى لو كانت شريرة؟ د. "أحمد".. الأب الروحي لكثير من شباب الجيل وليس مجرد "رائد أدب الرعب" أما لماذا هذه التسمية تُعدّ من باب الإجحاف لمقدار كاتبنا العظيم؛ فلأنه من الظلم أن يتمّ تلخيص إنتاج الرجل القيّم في تسمية كهذه؛ مع أننا ندرك أن هناك الكثير من التيمات -المعروضة في الروايات- تيمات غربية، نجح الدكتور "أحمد خالد" في تحويلها لجوّ مصري أصيل، مع تفسيرات قد تتفق مع معتقداتنا، أو تختلف، أو حتى مع وجود تفسيرات علمية أو استنتاجات ما؛ لكنها تظلّ غربية في النهاية. عندما أمسك برواية من رواياته، أعرف جيداً أنني سأستمتع؛ لأن لغة الكاتب رشيقة، وجميلة، وفيها إبداع، واستبصار بالواقع الذي نعيشه، ولمحات ذكية يلتقطها هو في براعة مِن حولنا، ولديه خفة دم غير معقولة، وهو من الكتّاب الكبار الذين يجعلونني أضحك وأفكّر في نفس الوقت، ثم إنه ساعد الشباب على فتح بوابات للثقافة الغربية، وعرّفنا بشخصيات لم نكن نعرفها من قبل، وصنع بمجهوداته الفردية جيلاً يبحث ويفكر ويتحرك. لكنني لا أشعر بالخوف، ولا يقف شعر رأسي، ولا أضيء أنوار "الصالة" مترقباً الخطوات القادمة؛ لأنه عالم مصنوع وغريب عني؛ فالرعب هو ما يمسّ مخاوف الإنسان العميقة؛ مثل خوفه من الموت، وما بعد الموت، ورعبه من أن تمرّ حياته دون جدوى، أو أن يُصاب بالشيخوخة والخرف، ويتحول لطفل صغير يُقاد من يده! في رأيي أنه من إنجازات الدكتور "أحمد" في مجال الرعب، أنه استطاع أن يعيد صياغة عالم الرعب الغربي من خلال جوّ مصري، وإن كانت هناك مشكلة التوافق ما بين الحرية الغربية ومعتقداتنا. إن هذه التسمية لو لم تحدث؛ فلن تُنقص من قدره شيئاً، كما أن وجودها قد يعمينا عن أشياء أخرى كثيرة في أدبه تستحق التفكير والمناقشة، وتفتح أمامنا آفاقاً من المعرفة في أدب الكاتب العظيم.