"نحتاج إلى مدفع طوله يساوي قُطر القذيفة مضروباً في 25 مرة؛ مع وضع احتكاكات الهواء والغازات في الاعتبار؛ ولكن بقيت مشكلة واحدة, لو انطلقت قذيفة المدفع هكذا؛ فإنها ستصل إلى القمر بعد 79 ساعة وربع الساعة مع الأخذ في الحسبان أن ماسورة المدفع سيصل طولها إلى تسعمائة قدم, إذن فلا بد لتلك الماسورة أن تتقوّس وأبسط تقوّس قد يفسد العملية كلها, لكننا وجدنا الحل, وهو أن ترتكز ماسورة المدفع على جدران حفرة عميقة..". مشهد من الرواية الخالدة "من الأرض إلى القمر" يحتوي على الكثير من التفصيلات الحسابية الدقيقة التي لو أغفلها كاتبها ما تنبّه إليها أحد في عصره، ولا حتى في ما بعده لأنها مجرد رواية من الخيال. لكن تلك الدقة هي تيمة ذاك العبقري في كل عوالمه مع كابتن "نيمو" في "عشرون ألف فرسخ تحت سطح الماء"، أو "أليكس" وعمه في "رحلة إلى مركز الأرض" أو الصراع للدوران "حول العالم في 80 يوم"، مع "فيلياس فوج" المهدد بفقد كل ثروته. إنه من وضع أول تصوّر للغواصة الحديثة قبل اختراعها، ووصف أول رحلة للقمر، وتنبّأ بشعاع، ووضع تصوراً لناطحات سحاب في نيويورك قبل أن تُوجد، ووصف الطائرات بدقة مذهلة. "من الأرض إلى القمر".. رحلة إلى القمر على متن قذيفة مدفع عملاقة! إنه الكاتب الفرنسي "جول فيرن"، الذي يُعدّ الأب الروحي لأدب الخيال العلمي. كتب أول أعماله "خمسة أسابيع في منطاد عام 1863"، فحققت صدى مدوياً وشهرة واسعة لدى القراء؛ فكفلت له عيشاً رغداً، لتتوالى الروايات ذات العناوين العملاقة، ولعل ثاني أشهر أعماله الروائية كان "رحلة إلى مركز الأرض في عام 1864". الواقع يقلّد الفن بعدها كتب رائعته "من الأرض إلى القمر في عام 1865"، تلك التي تخيل فيها رحلة إلى القمر على متن قذيفة مدفع عملاقة تكون مِنَصّتها في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبخاصة في ولاية فلوريدا؛ حيث تقع قاعدة "كيب كيندي" التي انطلقت منها أول رحلة واقعية إلى القمر. كانت قذيفة "جول فيرن" تحمل بطلنا الفرنسي "ميشيل آردان" على متنها، وهو قصير الفتيل نافد الصبر، خاطر بنفسه للوصول إلى القمر على متن الكبسولة المصنوعة من سبيكة خاصة هي (R.R) -كما أسماها "فيرن"- أقوى من الحديد وأخف من الألمونيوم. وصمم "آردان" كبسولته لتكون متعددة الأجزاء؛ فبعد الإطلاق ينفصل الجزء السفلي، وقد امتص أكبر جزء من الصدمة، وتبقّى الأجزاء الأخرى محلقة بحملها نحو إتمام الرحلة، ولقد زُودت الكبسولة بالأكسجين والطعام وصواريخ للعودة بعد أن تنتهي الرحلة الاستكشافية للبطل على سطح القمر. بعد قرن تقريباً من الرواية -في عام 1969 بالتحديد- انطلقت سفينة الفضاء "أبوللو– 11" من قاعدة "كيب كيندي" بولاية فلوريدا، وكانت سفينة الانطلاق مقسمة إلى أجزاء لكي يتعرض الجزء السفلي لصدمة الانطلاق فيمتصها، ثم ينفصل عن السفينة تماماً لتواصل الأجزاء المتبقية رحلتها، ويكون "نيل أرمسترونج " أول بشري يضع قدمه على القمر.. أيضاً لم ينسَ المصممون وضع صواريخ للعودة بالكبسولة الواقعية. الآن وقت التساؤل: هل رأيت ذاك التطابق؟! هل كان "جول فيرن" يملك القدرة على التنبؤ بالمستقبل كما يدّعي البعض؟! كركدن البحر العملاق! في رواية أخرى رائعة "عشرون ألف فرسخ تحت سطح الماء" نرى السفن التجارية تختفي في عرض المحيطات، أو تتحطم وتغرق، ولا يعرف أحد سبباً لذلك، ثم بعد وقت يتبين أن وحشاً بحرياً لا مثيل له وراء هذه الجرائم والفظائع؛ فتنطلق سفينة حربية تُدعى "أبراهام لنكولن"؛ فتواجه الوحش وتقذفه بقذيفة مدفع ثم يرميه رجالها بالحراب؛ لكن برغم قوتها غرقت سفينتهم بدورها، ووقعوا في الأسر فماذا يكتشفون؟! إنه ليس كركدن البحر العملاق ولا وحشاً بحرياً؛ وإنما غواصة جبارة اسمها "النوتيلوس". تعرّف طاقم سفينة "أبراهام لنكولن" على الغواصة القوية، وعرفوا أنها تصعد للسطح وتهبط عبر حاويات، تُملأ بالماء للغوص وتُفرَّغ منه لتصعد للسطح.. كان قائدها كابتن "نيمو" يسعى للانتقام فيغرق السفن، وقد بلغ من الثراء حداً عظيماً؛ فهو يجمع كنوز البحر والأحجار الكريمة التي لا تصل إليها يد البشر. وفي عصرنا الحديث تمّ تطوير الغواصات لتعمل بطريقة الحاويات، اعتماداً على قانون الطفو ل" أرشميدس" ؛ وكانت "النوتيلوس" غواصة "جول فيرن" هي الملهم الحقيقي لمخترعي الغواصات الحديثة؛ حتى إن أول غواصة نووية أبحرت تحت القطب الشمالي حملت اسم "نوتيلوس". هل كان "جول فيرن" يملك القدرة على التنبؤ بالمستقبل كما يدّعي البعض؟! أم أنه كان يمتلك قوة أعظم تتمثل في قدرته على تفعيل الخيال بما درسه وتدارسه طوال عمره؟! أم أنها شفافية الفنان وإيمانه بقدرات العقل التي لا حدود لها؟! هل كانوا منجّمين استكشفوا الغيب أم كانوا أدباء ملهمين؟! افرض معي صدق بعض المشككين في صحة وصول الأمريكان للقمر؛ فهل يعني هذا أن الولاياتالمتحدة لم تستطع حتى ابتكار قصة فخر خاصة بها، حول وصولها إلى القمر، فاستعانت برواية "جول فيرن"؟!