في 25 سبتمبر عام 2003، وبأحد مستشفيات نيويورك، تُوفّي المفكر العظيم، والمناضل الفلسطيني إدوارد سعيد، وقد قضى سنوات مريضاً بسرطان الدم، الذي أنهكه، ولعله كان يُدرك قرب ساعته في أية لحظة؛ لهذا كان يضاعف من جهده، من خلال محاضراته، ومقالاته، وآرائه الصريحة الجريئة، والتي كانت تفتح عليه النيران كلما فتح فمه بشيء! كان مناضلاً، قبل أن يكون مفكراً، ولعل حياته كانت أكبر مثال على أنه لم يقبل بالوضع الراهن، ولم يجعل لأحد سبيلاً في السيطرة عليه وتطويع أفكاره؛ فنحن نتكلم عن رجل كان مسيحياً، ومع ذلك فها هو ذا يُدافع عن المسلمين بحرارة من خلال كتبه؛ وخاصة كتابه الشهير "الاستشراق"، وبقية كتبه. وبرغم أنه يُحاضر في جامعة كولومبيا بنيويورك، والنفوذ اليهودي هناك شديد ومكثف؛ فإنه لم يتوانَ أن يتحدث عن الصهيونية بكل احتقار، وأن يأنف ذكرها في أحاديثه؛ فهو ضد الاستعمار الثقافي والاستعمار العسكري، وفي نفس الوقت لم يتردد في أن يعقد شراكة مع الموسيقار الإسرائيلي "دانييل سبارينبويم" في تأسيس أوركسترا الموسيقي الشرقي الغربي؛ بحكم فهمه العميق للموسيقى، وهو بالمناسبة حُجة في هذا المجال، لا يقلّ عن تخصصه في الأدب المقارن. "الاستشراق".. أحدث ضجة في أكبر الدوائر العلمية لجرأته في تفكيك مفاهيم الغرب وُلد في القدس في الأول من نوفمبر عام 1935، وكان لتنقّلاته مع أسرته شرقاً وغرباً سبب في توليد إحساس الغربة والوحدة لديه؛ فهو يقضي فترة تعليمه في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، ثم يُطرد منها، وبرغم استقراره في الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ فإن قلبه كان يتعلق بوطنه الأم (فلسطين)، لهذا كان إحساس الغربة يلازمه على الدوام، وهو ما يظهر بوضوح في سيرته الذاتية "خارج المكان"، والتي أفرد لها الدكتور "جلال أمين" فصلاً متميزاً في كتابه الممتع "شخصيات لها تاريخ"؛ محللاً السيرة، ومفككاً لها من أجل فهم نفسية الرجل الذي كتبها، وهو يريد إنهاءها قبل رحيله. ويحكي الدكتور "جيمي بشاي" -أستاذ علم النفس بجامعة بنسلفانيا- عن حيرة " إدوارد سعيد" بين دارسة الطب، والأدب المقارن، ثم استقراره على هذا الأخير، وقد حصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد عن حياة الكاتب الإنجليزي "جوزيف كونراد"، وقد نُشرت فيما بعد. وكان لثقافته الرفيعة، وإجادته التامة للعربية، والإنجليزية، والفرنسية، وإلمامه بقسط وافر من الإسبانية واللاتينية والألمانية والإيطالية، سبب في تجوّله بين مختلف الجامعات الغربية، ونشوء قاعدة جماهيرية من الطلبة المعجبين، والمتتبّعين لمقالاته وكتبه وآرائه الجريئة. ويمكن القول بأن "هزيمة 67" كانت السبب في جعله يُفكر في هويته كفلسطيني، وهو ما جعله يتأمل ويحلل الواقع من حوله، وكان من نتيجة هذا ظهوره كتابه الأهم "الاستشراق" في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. "سعيد" رجل لم يتعود أن ينحني من أجل منصب أو مال لو أردت أن تطلق عليه لقباً مناسباً؛ فيمكنك أن تقول بأنه "ضمير المثقفين الشرفاء"؛ فهو لا يخادع ولا يجامل؛ فهو يواجه المستشرق الشهير "برنارد لويس"، وهو مشهور بميله للصهيونية، وقسوته على العرب في شيكاغو الأمريكية. كان هذا بعد صدور كتابه "الاستشراق"، الذي أحدث ضجة في أكبر الدوائر العلمية، وجرأته في تفكيك مفاهيم الغرب التي دُشنت طوال قرون، وقد كانت المواجهة عجيبة ومدهشة بحق؛ فقد استطاع "سعيد" أن يُهشم منطق" لويس" بكل بساطة، وقد أثار إعجاب الحاضرين بقدرته الفذة على التحليل المنطقي المدعم بالشواهد والأدلة، ولعل فهمه العميق للغة ومدلولاتها كان أحد الأسباب في أن ينتصر على خصمه انتصاراً ساحقاً. ويؤكد " إدوارد سعيد" بأن هناك رأياً يقول بأن كتابه كان مقصده الدفاع عن العرب والإسلام، ومعاداة الغرب بشكل مستتر؛ بينما كان قصده هو أن يُقرّب الفجوة بين الشرق والغرب. ولعل مقولة "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يتقابلا إلى يوم الدينونة" تفسّر عقلية الغربيين، ونظرتهم للشرق، وهو ما استفزّ "سعيد"، وجعله يُلقي عليه الضوء محللاً، وناقداً. ومن المواقف ذات المغزى التي تبيّن حجم تأثير ذلك الرجل؛ أن تلميذة له كتبت كتاباً عنه، وعن الاستعمار ومفاهيمه، وعن فكر أستاذها؛ مما جعل إسرائيل تكرّمها وتسترضيها، وكأنها تردّ الصفعة لخصمها اللدود! انضم "سعيد" لجماعة التحرير ووقف على الحدود اللبنانية يرمي الإسرائيليين بالحجارة! وعندما انضم لجماعة التحرير، قامت الدنيا ولم تقعد في نيويورك، ونادوا بطرده؛ لكنه لم يكترث بهم؛ بل وقف على الحدود اللبنانية يرمي الإسرائيليين بالحجارة! والتُقطت له صورة وهو يفعل هذا، لتتضاعف حملة الغضب عليه؛ لكن ماذا تفعل مع رجل لم يتعود أن ينحني من أجل منصب، أو مال؟! ومن آرائه الجريئة أنه ينادي بدولة واحدة في فلسطين يحكم فيها الأغلبية، وتُحترم فيها الأقلية، وهو بهذا يخالف من رأوا قيام دولة ثنائية. فهو يُعارض "اتفاقيات أوسلو"، ويعتبرها صفقة خاسرة للفلسطينيين، وكان يشنّ حملة على اتحاد مصالح إسرائيل وأمريكا، من أجل الاتفاق على العرب، وسحقهم من باب الهيمنة.. ولعل كتابه "الاستشراق" كان يُركز على المفاهيم التي خلقتها الثقافة الغربية؛ فالإسلام هو دين الفطرة والبداوة، والمسيحية دين المحبة، واليهودية دين العدل، والشرق موطن الروحانيات، والغرب مقرّ التكنولوجيا والتقدم.. إلخ. كتبه الشهيرة يُعاد طبعها كل فترة، وقيمتها العملية تزداد، والمناقشات بخصوصها لا تنتهي، وخصوصاً "الاستشراق"، و"صور المثقف" و"الثقافة والإمبريالية"، وسيرته الذاتية "خارج المكان"، التي كتبها بشجن الشاعر، ورهافة الأديب، وعمق المفكر.