تساؤلي الدائم كان يتردد حين أشاهد إعلان مستشفى سرطان الأطفال 57357، وأتأمل كيف يشِيد المنتفعون به برقي الخدمة الطبية في مصر؛ حيث لا يوجد مسمّى الخدمة الطبية الجيدة أو التأمين الصحي، والصورة المشرّفة التي يظهر عليها دوما، ودعوة الكثيرين من رجال الأعمال والفنانين والشخصيات العامة ورجال الدين؛ من أجل المساهمة والتبرع له، والسؤال هو: لماذا لا نقضي على أسباب تفشي المرض بدلا من معالجته؟ ولماذا لا نشجّع البحث العلمي لإيجاد الدواء بدلا من بذل أضعاف في سبيل العلاج؟؟ الأسئلة السابقة لا تقلّل من قيمة الإنجاز، بل تثبت أننا إن أردنا النجاح فعلناه، لكن أسئلة أخرى تطرح نفسها: من نحن؟ من هم من يريدون النجاح؟ المستشفى كما يرد في موقعه، ويعلم الجميع، عبارة عن مبادرة، مبادرة فكّر فيها عدد من الأطباء المتطوعين المدركين لخطورة المرض وتفشّيه والأعداد المتكدّسة في معهد الأورام لا تجد ما يكفي من العلاج، وتنمو المبادرة ويتبرع لها عدد كبير من الشركات والمؤسسات ورجال الأعمال، وكان نصيب الحكومة هو قطعة الأرض المقام عليها هذا المستشفى، إذن فالأمر كله لم يكن توجّها حكوميا بحلّ الكارثة الصحية التي تذهب بأرواح الأطفال، لكنه جهد مدني مجتمعي بحت... وتتسع دائرة التساؤلات، فأجد الكثير من الإعلانات عن مبادرات مجتمعية وجمعيات خيرية تقوم بعمل -دعني أضعه في توصيفه الصحيح- عمل الهيئة التنفيذية للحكومة، فهي تقدّم إعانات وقروضًا قصيرة الأجل، ومساعدات جمّة لمن ساءت ظروفهم المادية أو لم تتحسن يوما ما من الأساس؛ ليقفوا على أرض شبه صلبة، فتعينهم بشكل يجعلهم يحمدون الله على استمرار الحياة بشكل سيئ لا أسوأ. كما تحاول رفع مستوى الوعي لدى المواطنين، وتقدّم خدمات صحية، وتعليمية، وثقافية، وتوفّر فرص العمل، وتتيح التدريب للحصول عليها، وتدافع عن حقوق الإنسان... إلخ. وعلى الرغم من هذا العدد الكبير لتلك الجمعيات بداية من: رسالة، مصر الخير، الأورمان... وغيرها حتى يصل بك الحال لمعرفة أن مصر بها أكثر من 26 ألف جمعية أهلية ومؤسسة خاصة، لكن عدد الفقراء لا يقل بل يزيد، ومصر لا تطأ بقدميها بداية طريق التقدّم!. حتى بعد انتقال نشاط المؤسسات والجمعيات من الإطار الخيري -وهو تقديم خدمة مؤقتة كشنطة رمضان، فتأكل شهرا ولا أدري كيف تحيا بقية شهور العام- إلى إطار العمل التنموي -وهو أن أعلّمك حرفة تقتات منها بدلا من التسول وأموّلك لتبدأ ممارستها، أن تتعلم الصيد بدلا من أن أعطيك سمكة فقط، لم تتحسن الظروف بهذا الشكل الكبير؛ لأنها ببساطة لن تخدم الملايين، وهو العدد الفعلي لسكان مصر. كل تلك الحقائق تجمّعت أمامي حين قرأت تساؤل سكينة فؤاد عن تلك الهيئات؛ لماذا لا تتجمع من أجل مشروع قومي تعمل عليه بدلا من الجهود الفردية المتفرّقة في كل مكان؟، فيكون جهدها منصبّا في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، أليس هذا أولى بنا التوجّه نحوه جميعا بدأب وإصرار لتحقيقه يوما ما؟ بدلا من التصريحات الحكومية المخزية التي تنفي فرصنا في تحقيق هذا الأمر، هل تتصور أنت بلدا زراعيا -كما كان سابقا- يصرّ على أنه لن يستطيع الاكتفاء الذاتي، وعلينا زراعة محاصيل أخرى أكثر سهولة؛ لتوفر لنا ما نستورد به القمح كمحصول الفراولة، على حد قول وزير الزراعة!!. قد عقمت إذن كل عقول أساتذة كليتي العلوم والزراعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول واحد، الاكتفاء الذاتي أي أننا نتحدث في اكتفاء وليس تفوّقا في زراعة ما، فيصرّح دون خجل بفشلنا المحقّق في البحث العلمي والزراعة والاقتصاد على كل المستويات.. لكن الحقيقة أن الحل ليس في اجتماع تلك الهيئات على هدف واحد؛ فالأمر ليس كمستشفى سرطان الأطفال؛ فهو وإن قدم خدمة رائعة لمرتاديه إلا أنه لم يرفع مستوى الرعاية الصحية في مصر، وهذا طبيعي فهو شأن أكبر من أن يقوم به مستشفى أو حتى عدة مستشفيات، فلهذا كتب للمشروع النجاح ولم يعترضه عارض؛ لأن نطاقه لم يتعدَّ المسموح به، لكن مشروعاً كتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح يضعنا في خانة أخرى على الأصعدة السياسية والاقتصادية، خانة تتعدى مجهودات الأفراد والمؤسسات المجتمعية الطموحة التي تهدف لخير المجتمع، وترى أن العمل هو الحل، لكن على أي مستوى سيؤدي هذا العمل؟؟ وهل لو أرادت تلك الهيئات نفسها أن تنتهج مثل هذا النهج، سيكتب لها النجاح؟؟ وما دام الأمر ينحصر في "نحن"، التي تساءلت عنها في بداية ما سردت، فنحن "الشعب" من يعاني، ونحن "منظمات المجتمع المدني" من تحاول رفع المعاناة، فأصبحت تلك الجهود الضعيفة نسبيا على المستوى العام، هي الحلول التي تطهّر الجرح مرارا وتكرارا، ولكن لا تساعد على التئامه، وأصبحت هي أيضا الأفيون الذي يخدّر الآلام موضعيا، فلماذا تفكّر الحكومة في أي حلول بديلة أو حقيقية؟ فيما مضى كانت الجهود التي يقوم بها أفراد من المجتمع لمساعدة الفقراء، وقفا أو زكاة، جزءا من التضامن الاجتماعي بين فئات الشعب؛ ليعرف الغني قيمة العطاء، ولا يعرف الفقير رذيلة الحقد، لكنها لم توجد أبدا لتحلّ محلّ السلطة التنفيذية أو لتكون عذرا لها لتتخلى عن كل أعمالها.... النهاية الدرامية التي تصاحبها موسيقى تصويرية مؤثّرة في اللحظة التي يستلم فيها المواطن "س" كرسيا متحركا، تبرعاً من أحد فاعلي الخير عن طريق مؤسسة أو جمعية أهلية، يعينه على مصائب الحياة، ويكفل له حركة ترفع عن كاهله بعضا من حزنه، ليست الصورة الكاملة بالضرورة، وهي وإن كانت تحمل بعض دموع الفرح لكنها لم تجعله يشعر بآدميته الكاملة؛ لأنه ببساطة لا يمتلك من مقوماتها البسيطة سوى هذا الكرسي، لكنها كانت منحة صغيرة ليشعر ببعض الفرح لبعض الوقت كحق غير أصيل له في بلده.. كذلك المواطنة "ع" في حصولها على ماكينة الخياطة بعد عشر سنوات من الفقر المدقع، لتجلس عليها بالساعات فتدرّ عليها دخلا ضئيلا يساوي قوة إبصارها واستقامة ظهرها ليقيها شر الحاجة والتذلل للحصول عليها.. وتكتمل الدائرة بدخول غيرهم من المواطنين ليكون كل أملهم في الحياة هو الحصول على تلك المنحة الصغيرة أو انتظارها ليحتملوا بها الحياة ويرحلوا عنها في صمت، لا أدري إلى أي مسارات أخرى كانت ستتوجّه حياتهم، إن لم تقدّم لهم تلك المسكّنات، وتصوّري المؤسف في حال لو ظلوا على حالتهم تلك دون وصول تلك الفرص المنقِذة، لكن الأشد أسفًا بالتأكيد هو أن تكون تلك المسكّنات تُضعف من قدرة إبصارهم على تبيّن أن هناك ما هو أفضل، وأنه من حقهم، وأن الحقوق لا تأتي طواعية، أو أنها ترقّع ثوبا مهترئا يجب التخلص منه بأيدي أصحابه...