وفاة الزعيم جمال عبد الناصر لم تكن أبداً حدثاً محلياً، وإنما كانت -وبكل المقاييس- حدثاً عالمياً على كل المستويات، فعلى الرغم من الاتفاق أو الاختلاف مع ناصر، فلا أحد يستطيع أن ينكر زعامته، وتأثيره القوي للغاية، في السياسة الداخلية والعالمية، وفي الرأي العام العربي، من المغرب إلى الخليج.. ومما لا شك فيه أن الظروف العالمية قد عاونت على صنع زعامة عبد الناصر، بالإضافة إلى شخصيته الفريدة، وزعامته التي لا يستطيع أحد إنكارها؛ فمنذ أن قامت حركة يوليو، جذبت انتباه العالم العربي كله، والعالم الغربي أيضاً، ولكل من العالمين أسبابه لهذا.. العالم العربي انبهر بأول حركة تحرّرية عربية، بعد عشرات السنين من الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي، ووجّهت الشعوب أنظارها كلها نحو مصر، التي لم يكد الجيش يتولى فيها السلطة، حتى راح يُصدر القرارات تباعاً، وبسرعة مدهشة؛ للسيطرة على كل أمور الحياة، ولإرضاء معظم فئات الشعب في الوقت ذاته.. قانون تحديد الملكية الزراعية، وقانون إلغاء الألقاب، وقرار تحويل مصر من الملكية إلى الجمهورية... وغيرها، كلها قرارات رجّت الشعوب العربية من الأعماق؛ لما فيها من جرأة، ومن انقلاب لأوضاع دامت طويلاً، حتى لم يعد هناك من يتصوّر تغييرها.. قرار إلغاء الملكية في حد ذاته قسم الأمة العربية إلى نصفين؛ إذ أيدته الشعوب في حماس، ورفضه الحكّام، الذين كان معظمهم من الملوك، على نحو بالغ الشدة والعنف.. وتوالت الأحداث في مصر عقب حركة يوليو في تسارُع متلاحق الأنفاس، وخاصة مع الصراع العلني، بين مجلس القيادة وبين اللواء محمد نجيب، الذي كان يرى أن ما يحدث هو عبث صبية، بلا دراسة أو تفكير مستقبلي، (وهذا ما أثبتته الأيام فيما بعد)، وخاصة بالنسبة لقرار ترقية عبد الحكيم عامر، بقفزة واحدة، من رائد إلى لواء، حتى يضمن رجال الحركة السيطرة على الجيش، وعدم قيام حركة أخرى لعزلهم، ولعلنا نتفق الآن مع رأي اللواء الراحل محمد نجيب، بعد هزيمة 1956م، والتي نحتفل بعيد نصرها حتى اليوم، وبعد نكسة يونيو 1967م، التي أثبت خلالها "عامر" أن تلك القفزة حرمته من الخبرات الطبيعية، التي ينبغي أن يكتسبها قائد الجيش، قبل أن يقود جيش بلاده، في مواجهات مباشرة مع العدو.. المهم أن محمد نجيب قد انزاح من الصورة في النهاية، بأسلوب غادر عنيف، وتم اعتقاله في المرج، ثم بدأت أسوأ حركة في تاريخ مصر، لتزييف وتحوير التاريخ نفسه، حتى أننا لم نسمع باسم محمد نجيب إلا بعد رحيل جمال عبد الناصر، وكنا ندرس في التاريخ أن أوّل رئيس "مصري" هو جمال، وكانت كلمة "مصري" هذه هي الخدعة؛ ربما لأنهم كانوا يعتبرون "نجيب" سودانياً، على الرغم من أن السودان كان جزءاً من المملكة المصرية، حتى انفصل عنها لقب الحركة.. ولقد استمّرت لعبة تزييف التاريخ هذه طوال عمرنا، وعلى نحو شديد السفاهة والسخافة، بلغ حد محو صور الملك فاروق من الأفلام القديمة، واتهامه باتهامات تبدو لي اليوم مضحكة إلى درجة البكاء.. اتهموا الرجل بالضعف الجنسي، وبأنه زير نساء في الوقت ذاته!.. اتهموه بمعاقرة الخمر ليل نهار، وأثبت التاريخ أنه لم يذقها في حياته قط.. اتهموه بأنه كان يذهب يومياً لممارسة القمار، في نادي السيارات، وأنه كان يخسر مبالغ طائلة، على الرغم من أن هذا -لو صح- فهو يثبت أنه كان ملكاً ديمقراطياً؛ إذ إنه لو كان ديكتاتورياً -كما وصفوه- فكيف سيجرؤ شخص واحد على أن يربح منه المال، في لعبة قمار؟!.. ولكن دعنا نرجع إلى الواقعة نفسها.. لقد سمعنا خبر وفاة عبد الناصر، فانهار الشعب كله في لحظات.. خرجت المظاهرات.. بكى الناس في الشوارع.. لطمت النساء.. بل لطمت الأمة كلها؛ لفقدانها زعيماً عربياً، نجح في وضعها على الخريطة، وخاصة مع مواقفة القوية من الغرب، عندما رفض السيطرة الأمريكية، وأمَّم قناة السويس، وعندما تحدّى الدول العظمى، في مؤتمر عدم الإنحياز في باندونج، وعندما دفع العالم كله إلى إيقاف حرب 1956م.. ولكن الموقف، الذي لم ولن ينساه العالم كله، هو عندما هبّ الشعب كله، يطالبه بعدم التنحي، وهو قائد مهزوم، في أعجب مظاهرة حب في تاريخ العالم كله.. ولقد شاهدت بنفسي ردود الأفعال التلقائية لموت "ناصر".. شاهدت كل من أعرفه يبكي.. شاهدت نساء تنهار..
وصار السادات رئيساً للجمهورية شاءوا أم أبوا شاهدت رجالا مصدومين، على الرغم من أن بعضهم كان يتمنى موته ليل نهار من قبل.. شاهدت كل هذا، ومررت بموقف مدهش، كان له كبير الأثر في حياتي، وربما حتى يومنا هذا، يوم وفاة جمال عبد الناصر.. كنا قُرْب الغروب، والخبر لم يُعلن بعدُ، بل ولم يبدأ التليفزيون في بث آيات الذكر الحكيم، تمهيداً لإعلان الخبر، عندما أيقظتني أمي من نومي، وهي ترتجف، وطلبت مني أن أجلس معها؛ لأنها تشعر بالخوف، وعندما سألتها عما يخيفها، أخبرتني أنها قد استيقظت من نومها، مع شعورها بشخص يجلس على طرف فراشها، وفزعت عندما شاهدت شيخاً في رداء أبيض يسألها كيف تنام، وقد مات جمال عبد الناصر؟ اندهشت لروايتها عندئذ، ورحت أفتّش منزلنا كله، ثم فتحت الراديو والتليفزيون، فلم أجد ما يشير إلى موت "جمال"، فانتهى بي الأمر إلى أن اعتبرت أن ما رأته مجرّد كابوس، وأقنعتها بهذا، أو حاولت إقناعها؛ لأنها ظلت شديدة التوتر، تفرك كفّيها طول الوقت، حتى بدأت إذاعة القرآن الكريم، فامتقع وجهها، ونطقت كلمة واحدة.."مات"، ثم جلست صامتة متوترة أمام التليفزيون، في انتظار الخبر، وعندما ظهر السادات على شاشته، وقبل حتى أن يكمل عبارته التمهيدية الأولى، كانت والدتي تنهار باكية على عبد الناصر.. تلك الواقعة، بقدر ما أدهشتني يومها، فجّرت في ذهني عشرات التساؤلات، عن قدرات العقل البشري وحدوده، وجعلتني، على الرغم من أنني كنت في نهاية المرحلة الإعدادية، أبحث عن الكتب التي تتحدّث عن هذا المجال، مما قادني إلى العلم، وبالتالي إلى الخيال العلمي.. ولقد انقلب العالم كله لسماع خبر وفاة "ناصر" المفاجئة، وحضرت وفود من كل دول العالم لتقديم العزاء، والمشاركة في الجنازة، ولقد طلبت إسرائيل نفسها حضور ممثل عنها، ولكن طلبها قوبل -كإجراء طبيعي- بالرفض.. وكانت أكبر وأقوى جنازة شهدها العالم.. جنازة سار فيها كل من استطاع من الشعب المصري الذي أتى من كل المدن؛ لتشييع جمال عبد الناصر إلى مثواه الأخير، وفوجئنا بأغنية "الوداع يا جمال"، يرددّها كل السائرين في الجنازة، فرددّناها معهم في بيوتنا، وصارت في أقل من يوم واحد أغنية مصر، ووداع زعيم مصر.. ومع بدء العام الدراسي، كانت كل الدروس حول جمال عبد الناصر، وحياته، وتاريخه، وبالطبع مع المبالغات المصرية المعتادة، التي جعلت منه أقرب إلى القديسين منه إلى البشر.. ولأننا من الجيل الذي تربى على التاريخ الزائف، فقد كنا نقدّس "ناصر" بدورنا، ولا نتخيّل أن يحل أي رئيس آخر محله.. وكانت هذه مشكلة السادات الأولى.. فمع بداية تولي أنور السادات منصب الرئاسة، خلفاً لعملاق مثل عبد الناصر، لم يتقبّله الشعب على نحو جيد، بل وبدأ تعاملاته معه بالسخرية منه، على كافة المستويات، حتى أن بعضهم قد سخر من علامة السجود في جبهته، وقال : إنها قد نشأت؛ لأن ناصر كان يضربه على جبينه، كلما تحدّث معه بما لا يرضيه.. سخروا من اسمه.. ومن زوجته.. ومن أسلوب حديثه.. وكان هذا يعني أن مهمة السادات ليست بالهينة، خاصة وأنه كان هناك فريق من كبار كبار رجال الدولة، يرى أن حصوله على المنصب جاء بسبب أنه النائب الرسمي للزعيم "جمال"، وليس لأنه الرجل المناسب لمقعد الرئاسة، خاصة وأن تعيينه كنائب للرئيس قد تم قبيل وفاة "ناصر" بأشهر قليلة، وأنه كان هناك من يرون أنفسهم أحق منه بالمنصب؛ إما لأنهم الأعلى رتبة -عسكرياً- أو لأنهم كانوا الأكثر انغماساً في الحكم، مثل عبد اللطيف بغدادي، وحسين الشافعي.. ولكن السادات صار رئيساً للجمهورية، شاءوا أم أبوا، وصارت له شريعة الجلوس على مقعد الحكم، وقانونية إصدار القرارات الرئاسية.. وانتظر ذلك الفريق من كبار الكبار أن يصبح السادات لعبة في أيديهم، وأن يحكموا هم البلد من وراء الستار، ولكي تصل إليه هذه الرسالة، بدأوا الحرب على الفور.. وبعنف..