سلامة أحمد سلامة قبل عدة أسابيع كنت في فراش المرض، حين زارني صديق من كبار الأطباء عاد لتوه من باريس، وقال: إنه عرف أن الدكتور محمد السيد سعيد يُعالج في باريس منذ عدة أشهر من السرطان، وأنه استفسر عن حالته؛ ففهم أن الأمل فيها ضعيف. كان ذلك بعد أن اعتزل رئاسة تحرير صحيفة "البديل" قبل أن يزحف المرض ويثقل عليه، وكانت المفاجأة التي أدهشتني وأحزنتني حزنا عميقا هي أن علاج الدكتور سعيد يتم بمنحة فرنسية أي على نفقة فرنسا وليس على نفقة بلاده، وأن زوجته الزميلة الصحفية التي رافقته في رحلة العلاج كان عليها أن تدبر حياتها ببعض أعمال تعينها على البقاء في باريس قريبا من زوجها.. ولا أدري ماذا حدث بعد ذلك أو قبل ذلك، وهل تكفلت الدولة أو المؤسسة التي يعمل بها بإكمال نفقات علاجه؟ ولكن حين حملت الأنباء نعي هذا الزميل النبيل، أدركت حجم الضنى والمعاناة التي يتعرض لها مفكر صاحب قلم متمكن وكاتب نزيه، لم يمد يده يوما للسلطة ولا لمنافعها وثمارها. كان محمد السيد سعيد شخصية هادئة الطبع نادرة المثال. احتل وضعا فريدا بين أقرانه في مجال الدراسات والأبحاث السياسية في مركز الدراسات بالأهرام، وتميز فيه بالأمانة وسعة الاطلاع والتواضع، مع جرأة في الحق؛ فلم يكن أبدا ممن تغريهم شهوة المال أو المنصب، ولم يكن ممن يكتمون كلمة الحق مهما كانت العواقب. أنفق محمد السيد سعيد الكثير من جهده وعلمه في الدفاع عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، وشارك في إصدار الدوريات والدراسات التي تشرح وتناقش وتدافع عن قضايا حقوق الإنسان، وعن الفئات المهمشة في المجتمع، وعن المسجونين والمعتقلين بغير محاكمة، ودعا إلى التمسك بالمواثيق والقوانين الدولية التي تضمن الحريات وتلتزم الدول باحترامها. وحين أنشأ مع بعض زملائه وأصدقائه من اليساريين جريدة "البديل"، كان يعتقد أن الصحافة التي تنحاز إلى الفقراء والطبقات الضعيفة، وتكشف عن انحرافات الفساد التي تغري الثروة بها، سوف تحقق من الرواج ما يجعلها قادرة على المنافسة والصمود والوقوف في وجه طغيان رأس المال والماكينات الإعلامية الثقيلة؛ ولكن الواقع المثير والمحزن أن الطبقات الفقيرة حين يُسلب منها العلم والمال، تُسلب منها أيضا "القدرة على الفعل والمواجهة والإصرار على التمسك بالحقوق". لم يكن محمد السيد سعيد من الذين تلتوي الأقلام بين عقولهم وأصابعهم، موالاة أو مجاراة أو تملقا، ولم يكن من الذين تغريهم المناصب وهو أحق بها؛ فلم تكن الصحافة بالنسبة إليه مصدر رزق، ولا موقعا لاكتساب الشهرة والنفوذ.. ولكنها كانت نافذة للتواصل مع الناس ومخاطبة عقولهم ومشاعرهم.. حملت كتاباته دائما رنة الصدق والإخلاص وعبرت عن قناعات مستقرة وإيمان بحق الشعب في المساواة والرفاهية والديمقراطية والحق في حياة حرة كريمة. عانى محمد السيد سعيد آلام المرض والبعاد والغربة، سعيا وراء العلاج من مرض قاسٍ عنيد باهظ التكلفة.. لا تطيقه الدولة إذا لم يكن ممن يروقون لها؛ إلا بكثير من الرجاء والوساطة والإلحاف الذي تأباه كرامة المثقف؛ خاصة حين يكون العلاج في الخارج، ولا تحتمله المؤسسة التي ينتمي إليها إلا قليلا؛ بينما يعتصر المرض ما تبقى من جسم الرجل وكيانه. وهنا تبدو عظمة الدولة التي تحترم الثقافة وتعلي من قدر المثقفين، كما فعلت فرنسا حين أبدت استعدادها للمساعدة في علاج مفكر ومثقف مصري بارز مثل محمد السيد سعيد. وهي للأسف مأساة كثير من الفنانين والكتاب والمبدعين الذين يعملون وينتجون ويسهمون -في الحياة الثقافية- بعيدا عن اهتمام السلطة وبريقها، وهم يقفون وحدهم في العراء دون سند أو وسيط؛ فهو ليس قريبا من السلطة، ولا هو من دراويشها والساعين في دهاليزها. وفي الأسابيع الأخيرة كنت أقرأ عن حالات عدد من الفنانين والصحفيين الذين كانوا يلتمسون العلاج على نفقة الدولة؛ ولكن أنفلونزا الخنازير استغرقت الاهتمام كله! لقد ذهب سعيد إلى لقاء ربه.. فنجّاه من ذل الهزيمة والمرض.. تاركاً وراءه عشرات الكتب والدراسات والمقالات التي تنبئ عن عقل واعٍ وإحساس جارف بحب هذا الوطن.. فليشمله الله بواسع رحمته! نشرت في جريدة الشروق 13 اكتوبر 2009