كانت قد مضت فترة طويلة منذ ركبت مترو الأنفاق آخر مرة، وقد هالني ما آلت إليه الأمور. ومن الأساس لم يكن المترو يُقدّم خدمة جيدة. لن أتحدث عن المشاكل التي تنجم عن الزحام الشديد؛ لأن هذه أمور لا يمكن تجنّبها، لكن يمكنني أن أتحدّث عن سوء التهوية في القطارات والذي يجعل المرء يتصبب عرقاً طوال الوقت، وهمجية السائقين الذين لا يتركون الأبواب مفتوحة فترة كافية لينزل مَن يريد النزول ويصعد مَن يريد الصعود!! وإنما يغلقون الأبواب بسرعة على الصاعدين والهابطين؛ مما يؤدي بالناس إلى التدافع الشديد وحدوث تصادم همجي لا يمكن تجنّبه بين طابور الصاعدين والهابطين؛ لأن كل طرف يريد أن يعبر بأقصى سرعة قبل إغلاق الباب. وعلى الأكثر أريد أن أتحدّث عن غلاسة رجال الأمن الذين ينتشرون في المكان ويتلككون لاصطياد غرامات ليس لها مبرر؛ إضافة إلى المعاملة السيئة التي يعاملون بها الناس وكأنهم في المعتقل. مثلاً هناك غرامة تُسمى غرامة الانتظار على الرصيف! وخلاصتها أنه إذا وَجد العسكري شخصاً يقف على الرصيف ولم يركب القطار بعد تحرّكه فإنه يُمسك به ويسحبه إلى نقطة الشرطة ليدفع غرامة! كان هذا في العهد السابق؛ لكن الآن وبعد أن استلمت إدارة المترو شركة تدعى الشركة المصرية لإدارة وتشغيل المترو -وهي شركة حكومية أيضاً وليس الأمر أكثر من اختلاف مسميات- تم إضافة إجراء جديد سأحدّثكم عنه حالاً. ففي السماعات الداخلية المنتشرة في محطات المترو -خاصة المحطات التي تقع أسفل الأرض- يدور باستمرار تسجيل لصوت سيدة تقوم بتهديد الركاب بعظائم الأمور! ويتم إذاعة هذا الشريط على مدار الساعة بصوت مرتفع جداً لدرجة يحدث معها تشوه في صوت هذه السيدة؛ بحيث لا تعود قادراً على تمييز فحوى الكلام، ويظل هذا الشريط مستمراً في الدوران بشكل يجعلك تُصاب بالصداع، ويختلط صوت الشريط مع صوت صافرات جديدة تمت إضافتها لتحذر من قرب وصول المترو، مع صوت صافرات أخرى لا أدري ما فائدتها، إضافة إلى صوت تليفزيون المترو الذي يذيع إعلانات مدفوعة الأجر طوال الوقت، وتختلط هذه الأصوات المتنافرة معا لتنتج ضوضاء لا تصدق. السيدة المُهدّدة التي لا يمكن تمييز ما تقول تردد طوال الوقت تعليمات يجب على الركاب اتباعها وإلا تعرّضوا للويل والثبور، وهي تردد باستمرار أرقام قوانين والسنوات التي صدرت فيها هذه القوانين، والعقوبات المختلفة التي ستوَقّع على الركاب، بدءاً بغرامة الانتظار على الرصيف إياها، وانتهاءً بمخالفة أخرى لم أستطِع تبيانها؛ عقوبتها الحبس لمدة تتراوح بين ستة أشهر إلى سنة! هم يسمون هذا توعية؛ لكني في حقيقة الأمر شعرت عند ولوجي إلى المترو بأنني انتقلت فجأة إلى الاتحاد السوفيتي في فترة القبضة الحديدية للدكتاتور الروسي ستالين! نفس الجو بالضبط الذي كنا نشاهده في الأفلام الأجنبية مراراً. ترى الناس وهم يسيرون بكآبة وتجهم في مجاميع وبهم شيء من انكسار الروح؛ بينما السماعات تبث التعليمات والتوجيهات وتحذّر من العقوبات. شعرت بقدر كبير من المهانة. أتصور ونحن الآن قد تخلينا عن الاشتراكية واتبعنا النظام الرأسمالي وحوّلنا الإدارة إلى شركة مستقلة، أن نتحلى ببعض مميزات النظام الرأسمالي وأهمها احترام العميل؛ العميل هو الذي يدفع تكلفة المشروع ويجلب إليه أرباحه؛ وعلى هذا فلابد من معاملته باحترام. صحيح أننا لا ندفع كثيراً لاستخدام المترو؛ إلا أن هذا ليس سبباً لإهانتنا ومعاملتنا كالقطيع؛ على الأقل إذا لم تكن هناك نية لمعاملة إيجابية حسنة؛ لأن هذه أمور لم نعتد عليها كشعب من العالم الثالث؛ فلا داعي لتهديدنا طوال الوقت في مكبرات الصوت بهذا الشكل المخزي.