بغضّ النظر عن أنها لا تتذكر أسماء أبنائها وأحفادها، وأن وزنها قد زاد 30 كجم في الخمس سنوات الأخيرة وأنها ترى بصعوبة، وستقرر ألا تسمعك إن لم يعجبها كلامك، وبالرغم من كل ذلك فعندما سألتها: "تتجوزي ولا أجيب لك بسبوسة؟" أجابت: "هو أنا فيّ أسنان للبسبوسة؟!!". جدتي من ذلك الجيل الذي كان شعاره "تقديس الحياة الزوجية" جيل الرغبات المكبوحة والأحلام الصغيرة والجهل الشديد بكل العلوم الإنسانية، والتمسك الأشد بعادات وتقاليد لا نعرف من أين جاءت؟!
فالفتيات خُلقن للزواج والحب.. هكذا تقول شريعتها، أضحك كثيرا من هذه الفكرة، وأسخر منها أمامها، ولكنني في الحقيقة...
أحب تلك الفكرة البدائية التي تقتصر دوري في الحياة على عدة أشياء قد تبدو بسيطة، ولكنها عميقة وتؤثر في كل شيء، أحب فكرة أن تكون المرأة مجرد امرأة.. مثلها تماما.
أن تكون جسداً وعقلاً واعياً ولكنه لا يفكر إلا في نطاق محدد.. هو بيتها. أحب فكرة ألا تسبق اسمها بحروف ومناصب ولا تليه ألقاب ما أنزل الله بها من سلطان، ولكنها قد تلغيه تماما وتضع بدلا منه ثلاثة حروف مبهمة تدل أنها "حرم فلان الفلاني".
لا أنكر أنني أحب هذه الحالة من الغيرية والتضحية وإنكار الذات.
وسأحب كثيرا أن تكون هذه المرأة أمي أو جدتي.. ولكني لا أحب أن تكون أنا.
الزواج هو حديث جدتي المفضّل، وبعد أن أصيبت بألزهايمر بدأت ذكرياتها في التداخل مع المسلسلات العربية. وعندما نريد أن نشيع جواً من المرح، نبدأ في استجواب جدتي عن زيجاتها، وتفجّر جدتي المفاجآت، فهي تتحول إلى شادية في فيلم "عفريت مراتي"، وتبدأ في تقمّص الحواديت. فتخبرنا أنها قد تزوجت من الملك فاروق بعد أن رآها "ودخلت مزاجه"، فأخذها ضرة على الملكة فريدة. وهي من أخبرتنا أنها تزوجت "أبو زيد الهلالي" بذات نفسه، وأنه جاء إلى تونس زاحفا مع جيوش جرارة من أجلها. وهي أيضا من جاء عنترة لها بالنياق الحمر، تقصّ حواديتها وتتباهى بمغامراتها وتهتف بنصر كما "ماري منيب": "آه.. ده أنا مدوباهم اتنين"، ونبدأ نحن في الضحك.. "كونتا كان قاعد هنا.. ومامته كونتي هانم كانت قاعدة هنا.. وهي طبعا على صرخة واحدة.. ما آخدوش يا بابا... ما آخدوش يا بابا".
بالنسبة لجدتي.. نجاح البنت في المدرسة لا يعني شيئا، تفوّقها ونبوغها العملي والعلمي كلام فارغ، إن نظر جدتي يفتّش عن خواتم الزواج بأصابعنا، وأسئلتها الدائمة تشي بأهمية أن يكون لك زوج. وعندما أواجهها بالحقيقة المُرّة وهي أنني لا أرغب في الزواج الآن.. تشهق وتدمدم وتقول: "ليه عاوزة تعنّسي؟؟"، وتبدأ في سرد أمثالها الحكيمة من نوعية: "ضل راجل ولا ضل حيطة".
يا نينة مستنية الراجل المناسب، ترد: مناسب إيه؟! قال على رأي المثل: "قرد يسليني ولا غزال شارد"، و "عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة"، "ده الخُطاب ألف والمتجوز واحد". "وقال جهنم جوزي ولا جنة أبويا"، فجأة تدبّ فيها الحياة وينشط عقلها بكل الأمثال المناسبة، لا أندهش؛ فهي تدافع عن قضية عمرها، وأنا أيضا أدافع عن قضية عمري، وعمري غير عمرها، وزمني غير زمنها.
جدتي تقول: إن الحياة عادة لا تعطينا ما نريده؛ لأننا نقابل عطاياها بالنكران ولا نرضى بما تعطيه لنا الحياة.
جدتي علمتني الرضا والقناعة بالقليل، من كل شيء يمكن للحياة أن تستمر، وأحيانا يمكنها أن تستمر بلا شيء.. إذا رضينا قليلا.
أحب جدتي التي قضت خمسة وأربعين عاما في محراب رجل واحد، تعشقه كثيرا وتكرهه أحيانا..
أحب جدتي الآن وهي تجلس كملكة، أحيانا كطفلة
وأتساءل..
هل سأجد يوما من يحبني كما أحبها جدي.. حتى وإن كنت لا أستطيع أن أكون مثلها؟!!
اقرأ أيضاً.. - إعادة كتابة التاريخ بقلم جدتي المصابة بالزهايمر - أول مرة أشوف مسقّعة معمولة بالبتنجان!! - هو "الشاطر حسن" أمه كان اسمها إيه؟!