إضافة إلى القيود الأمنية التي تصادفه في كثير من بلدان العالم، يواجه تنظيم القاعدة منذ سنوات تحدّياً آخر لا يُستهان به من داخل الأوساط "الجهادية"، التي كانت تُعتمد لتطويع المقاتلين، بشأن صوابية نهجه في استخدام العنف المسلح -وفي أحيان كثيرة العنف الأعمى- لتحقيق أهدافه. هذه الاختلافات لم تعد محصورة بجماعة معينة، ولا ببلد معيّن؛ بل اتسعت لتشمل خليطاً عريضاً من "الجماعات الجهادية" التي راجعت أفكارها وتخلّت عن كثير من الممارسات التي كانت تعتمدها في السابق والتي ما زال تنظيم القاعدة يتمسك بها. لا شك أن الشرخ الأساسي في أوساط ما يُعرف ب"الجماعات الجهادية" في العالم العربي ظهر في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي. فقد فاجأت "الجماعة الإسلامية" -أكبر الجماعات "الجهادية" المسلحة في مصر- التيار الجهادي عموماً، في مصر وخارجها، بإعلانها وقفاً شاملاً لعملياتها من جانب واحد في مايو 1997. لم يرضَ تنظيم القاعدة -على ما يبدو- عن خطوة الجماعة الإسلامية في البداية؛ فدخلت "جماعة الجهاد" المصرية، وهي فصيل "جهادي" أصغر من "الجماعة الإسلامية"، وشريكة في تأسيس الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين التي أعلنها أسامة بن لادن في فبراير 1998 في أفغانستان، على الخط. فقد حاولت هذه الجماعة -التي يقودها الدكتور أيمن الظواهري- إقناع "الجماعة الإسلامية" أن ما تقوم به هو وقف للجهاد، وهذا أمر لا يجوز إسلامياً؛ لأن "الجهاد ماض إلى يوم القيامة". لكن ما لم يفهمه تنظيم القاعدة هو أن الجماعة الإسلامية كانت قد اقتنعت كلياً بخطأ حمل السلاح لقلب نظام الحكم وبخطأ اللجوء إلى العنف وتخلّت عن ذلك عن اقتناع وليس لإرضاء الحكم المصري. صحيح أن قادة "الجماعة الإسلامية" كانوا مسجونين؛ إلا أن الصحيح أيضاً أنهم كانوا قد وصلوا إلى قناعتهم بخطأ لجوئهم إلى حمل السلاح ضد النظام من دون تعرّضهم لأي ضغوط. فقد راجع هؤلاء -وبعضهم من "أعمدة" التأصيل للأفكار الجهادية التي تبرر حمل السلاح لقلب "الأنظمة المرتدة"- مسار عملهم منذ حقبة الثمانينات، ووجدوا أن سياستهم جرّت الويلات على أبناء جماعتهم وعلى مؤيديهم وعلى أبناء الشعب المصري في شكل عام. ثم اكتشفوا -كما عبّروا عن ذلك في دراسات مفصّلة نشروها لاحقاً- أن تبريراتهم الشرعية لحمل السلاح والقتل تضمّنت أخطاء غير مقبولة في الإسلام؛ فأعلنوا تراجعهم عنها واعتذروا عما قاموا به وتعهّدوا عدم اللجوء إلى العنف مجدداً. تزامنت "مراجعات" الجماعة الإسلامية المصرية مع "نكسات" أخرى ل"الجهاديين" في العالم العربي. ففي الجزائر، بلغت أعمال العنف ذروتها في النصف الثاني من التسعينات؛ حيث تمّ ارتكاب مذابح رهيبة ضد آلاف المواطنين. أدّت التصرّفات المنسوبة إلى "الجماعة الإسلامية المسلحة" إلى تنفير شريحة واسعة من "الجهاديين" الذين كانوا يقاتلون لقلب نظام الحكم الجزائري؛ بحجة أنه منع حزباً إسلامياً (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) من الوصول إلى الحكم، عندما ألغى نتائج الانتخابات في مطلع العام 1992. وردّ "الجهاديون" المستاءون من تصرفات غلاة الجماعة المسلحة بفتح قناة اتصال سرية مع الحكم؛ أسفرت إعلانهم في صيف 1997؛ وقفاً للعمليات المسلحة من جانب واحد؛ فكافأتهم السلطات بإصدار عفو عام عمن يلقي السلاح منهم في نهاية العام 1999 ومطلع العام 2000. وتكرّر الأمر نفسه في ليبيا في نهايات التسعينات عندما سحقت أجهزة أمن العقيد القذافي تمرداً بدأته "الجماعة الإسلامية المقاتلة" عام 1995. وعندما هُزمت عسكرياً، انكفأت "المقاتلة" إلى خارج ليبيا تُراجع الأسباب التي أدت إلى نكستها؛ انكفأت إلى أفغانستان؛ حيث أعلنت سراً -مثلها مثل "جماعة الجهاد المصرية"- وقف عملياتها داخل ليبيا؛ لكن ذلك الوقف كان مرحلياً، ولم يكن ناتجاً بعدُ عن اقتناع بعدم صواب اللجوء إلى العمل المسلح لقلب نظام الحكم. بقي الأمر على هذا المنوال إلى ما بعد بدء "الحرب ضد الإرهاب" التي أعلنتها الولاياتالمتحدة في 2001 على إثر هجمات 11 سبتمبر. في أعقاب ذلك، وجد قادة "المقاتلة" أنفسهم يسقطون واحداً تلو الآخر في أنحاء مختلفة من العالم قبل أن ينتهي بهم المطاف في السجون الليبية. هناك تكرّر مع قادة "المقاتلة" ما حصل مع قادة الجماعة الإسلامية المصرية. فقد لجأ الإسلاميون الليبيون بدورهم إلى مراجعة أفكارهم والاستخلاص أنهم كانوا على خطأ في حمل السلاح ضد النظام، وأصدروا مراجعات فقهية ضخمة بعنوان "دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحُسبة والحكم على الناس"؛ أصّلوا فيها لما خلصوا إليه وانتقدوا مسار العنف ضد الأنظمة العربية الذي ما زال يسير به تنظيم القاعدة وفروعه، من دون أن يسمّوا أحداً بالاسم. وقبل أن تصدر "الجماعة المقاتلة" مراجعاتها في 2009، كان قد سبقها إلى الأمر ذاته -ولكن بطريقة أكثر شدة ووضوحاً- الأمير السابق ل"جماعة الجهاد" المصرية "الدكتور فضل" الذي يُعتبر "منظّر الجهاديين"؛ كوْن كتبه (مثل "العمدة" و"الجامع") كانت منذ مطلع التسعينات تُدرّس في المعسكرات المرتبطة بالقاعدة على الحدود الأفغانية-الباكستانية. وكان الدكتور فضل -الذي سلّمه اليمن لمصر في مطلع 2004- شديداً في انتقاداته لتصرفات أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري الذي حلّ محله على رأس جماعة الجهاد في 1993. وحاول أيضاً المشكّكون في مواقف الدكتور فضل القول إنه في "الأسر" في السجون المصرية؛ ولذلك فإنه يمكن أن يكون محل إكراه لإعلان مواقفه هذه؛ إلا أنه نفى ذلك من خلال إطلالات إعلامية ومن خلال جولات في السجون حاول فيها إقناع "السجناء الجهاديين" بتبني مراجعاته التي صدرت للمرة الأولى بعنوان "وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم". وبين مراجعات الدكتور فضل ومراجعات "المقاتلة" الليبية، أعلن كثير من العلماء الإسلاميين -من سلفيين وجهاديين وإخوان وغير ذلك من التيارات- مواقف مماثلة انتقدت ما اعتبروه غلواً في أفكار "القاعدة" وفروعها. ونال فرع القاعدة في العراق بقيادة أبو مصعب الزرقاوي قسطاً وافراً من النقد كون تصرّفاته كادت تقود البلاد إلى حرب أهلية. كما طالت الانتقادات تصرفات فرع القاعدة في السعودية الذي قاد حملة تفجيرات أثارت استياء شعبياً لا يُستهان به عندما زعزع الأمن في المملكة التي كانت تُفاخر لسنوات طويلة بأن تطبيقها لأحكام الشريعة الإسلامية أدى إلى توفير الأمن لمواطنيها والمقيمين على أراضيها؛ فجاءت تصرفات القاعدة لتهزّ شعور السعوديين بالأمن. وردّت السلطات السعودية بحملة أمنية شديدة ضد خلايا القاعدة، ترافقت مع جلسات مناصحة مع المعتقلين لإقناعهم بالتخلي عما تصفه الحكومة ب"الفكر الضال". كما تحرّكت في الوقت نفسه المؤسسة الدينية النافذة في المملكة على هذا الخط، وأصدرت مواقف حازمة حرّمت حتى تقديم مساعدات مالية للقاعدة. ولم تسلم تصرفات فرع القاعدة المغاربي من انتقادات مماثلة حتى من أوساط "الجهاديين" الذين خرج بعضهم علناً ضد قيادة القاعدة وممارساتها، مثل الخطف في مقابل الفدية والتفجيرات التي يذهب ضحيتها مواطنون أبرياء. وكان على رأس هؤلاء المنتقدين "حسان حطاب" الأمير السابق ل"الجماعة السلفية"، التي صارت "تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي" اعتباراً من يناير الثاني 2007. وانطلاقاً من هذه المراجعات المختلفة، بات واضحاً اليوم أن تنظيم القاعدة سيكون مضطراً -عاجلاً أم آجلاً- إلى وقفة يراجع فيها سياساته، وهل هي فعلاً تؤدي إلى الأهداف التي يقول إنه يسعى إليها، خصوصاً بعدما تبيّن له -بما لا يقبل الشك- أن شريحة واسعة من الجهاديين الذين كانوا حلفاءه لسنوات طويلة باتوا اليوم مقتنعين بأنه "ضل السبيل". عن موقع الشرفة بتاريخ 21 يونيو 2010