"لقد كتبتُ هذا الكتاب كي أطلع نفسي، ثم قرائي الأمريكيين، على التفكير والأحداث التي أدّت إلى هجمات 11سبتمبر". هكذا بدأ "لورانس رايت" الحديث في كتابه القيِّم "البروج المشيدة - القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر" الحاصل على جائزة "بوليتزر". و"رايت" صحفي ومؤلف تخرّج في جامعة "تيولاين"، وجاء إلى مصر سنة 1969 حيث قضى سنتين أستاذًا للغة الإنجليزية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وهو حاليًا يعمل كمحرر في مجلة The New Yorker، بالإضافة لكونه زميل مركز القانون والأمن بكلية الحقوق جامعة نيويورك، وله عدد من المؤلفات القيّمة من أهمها ذلك الكتاب الذي استغرق إعداده نحو خمس سنوات، وقام المؤلف بإجراء نحو 600 مقابلة مع شخصيات مختلفة لجمع وتوثيق معلوماته. مجهود جبار تم عرضه بشكل شيّق، وهذا ما شجّعني على عرضه على القارئ. سيد قطب يبدأ المؤلف سرد الأحداث المؤدية لحادث 11 سبتمبر بشكل موفق -بحق- حيث بدأ بعرض حياة أوّل رجل أثّر في فكر القاعدة -وباقي التنظيمات الإرهابية المسلّحة- من حيث النظر للمجتمعات على أنها "كافرة" تنتظر من يُحررها من "جاهليتها" بقوة السلاح، وهو المفكر المصري سيد قطب. حيث يعرض بدقة لحياة هذا الأخير في الولاياتالمتحدة التي سافر إليها في سن الثانية والأربعين سنة 1948 لدراسة التربية والمناهج. كانت تجربة مثيرة عاد منها "قطب" بثورة على أفكار الغرب مثل العلمانية والديمقراطية والذاتية... إلخ، وسخط على تغلغلها في المجتمعات المسلمة. سيد قطب تحوّل بالنسبة للكثيرين إلى شهيد فِكر ينتقل بعد ذلك المؤلف إلى حياة "قطب" بعد عودته إلى مصر؛ حيث اندرج في نشاطات الإخوان المسلمين أثناء إعدادهم مع تنظيم الضباط الأحرار خُطة الانقلاب على نظام الحكم، ثم بعد استيلاء الضباط على السلطة تراوحت علاقته بالنظام -تحديدًا عبد الناصر- بين التوافق الذي بلغ حد عرض منصبَي وزير المعارف ورئيس الإذاعة عليه، أو الصِدام الذي أدّى لسجنه وتعذيبه أكثر من مرة لمعارضته النظام أو لاتهامه بالتآمر عليه. خلال تلك الفترة تكوّن الفكر الجهادي لسيد قطب؛ حيث قام بوضع أفكاره في كتابه "معالم في الطريق"، مؤكدًا أن المجتمع الذي لا يمارس التطبيق الصارم المتشدد للشريعة الإسلامية هو مجتمع كافر يجب الجهاد فيه بقوة السلاح، الأمر الذي أدّى به بعد ذلك للضلوع في تنظيم مناهض للنظام الناصري، وتبع ذلك سقوطه في قبضة الأمن، فمحاكمته ثم إعدامه. سيد قطب تحوّل بالنسبة للكثيرين إلى شهيد فِكر.. ولكنه بالنسبة للتيارات الإسلامية المسلحة بعد ذلك تحوّل إلى ما يُشبه الأب الروحي لفكرة الجهاد في سبيل الله ضد المجتمعات الكافرة، على حد ما يقول فكر تلك التيارات الجماعات. أيمن الظواهري ينتقل لورانس رايت بعد ذلك إلى شخصية ثانية هامة، دكتور أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة. مسلطًا الضوء على الجوانب الإنسانية من ذلك الرجل، سواء نشأته لأسرة مرموقة علميًا، واشتهاره كطفل عبقري عاشق للتأمل، ثم تأثّره بأفكار خاله "محفوظ" الذي كان تلميذًا لسيد قطب ومحاميًا له، واشترك "أيمن" بعد ذلك في أوّل نشاط إسلامي سري معادٍ للنظام -في منتصف الستينيات- وهو في سن الخامسة عشرة من عمره! بعد ذلك نلاحظ التغير الشديد الذي أصاب شخصية "الظواهري" مع هزيمة مصر في حرب 1967؛ حيث تأثّر جدًا بالنداءات التالية للنكسة بأن الهزيمة جاءت نتيجة لتخلي الله عن المسلمين لبعدهم عنه، وأن الحل هو إقامة الخلافة الإسلامية، وذلك من خلال مجاهدة "العدو القريب" -أي النظم العربية غير الإسلامية- تمهيدًا لهزيمة "العدو البعيد" -إسرائيل وأمريكا ومن خلفهما. اشترك "الظواهري" في أوّل نشاط سري معادٍ للنظام وهو في ال15 من عمره في سنة 1974 ازداد نمو الخلية السرية التي قادها "الظواهري"، رغم أن مظهره لم يَبدُ عليه أي شيء يشي بالتعصّب أو العمل السري، كان قد تخرج في كلية الطب، وقضى بعد ذلك ثلاث سنوات في الخدمة العسكرية، بعدها افتتح عيادته في نفس المبنى الذي قطنه مع والديه، وتزوّج من فتاة توافقت أفكارها معه تمامًا، في زفاف خلا من الموسيقى ومُنِعَ فيه التصوير! "بدأت صلتي بأفغانستان في صيف 1980".. هكذا قال "الظواهري" في كتابه "فرسان تحت راية النبي"؛ حيث قام مديره في العمل بتدبير سفره لباسكتان للمساعدة في إغاثة اللاجئين الأفغان الفارين من الغزو السوفيتي. كان الغرض الحقيقي من سفره هو تفكيره في تلك البقعة من العالم كقاعدة لانطلاق الجهاد في بلاد المسلمين، فمصر التي تتكوّن من نهر يمر بين أرضين منبسطتين كانت لا تصلح لذلك لتعذّر توفّر مخابئ بها تنطلق منها حرب عصابات. وبالفعل سافر "الظواهري" إلى بيشاور، وعمل في الهلال الأحمر لفترة، وربطته علاقات قوية بشيوخ القبائل الأفغانية يسّرت له الانتقال أكثر من مرة في رحلات سرية عبر الحدود لأفغانستان، ثم عاد لمصر حيث بدأ يطوف بالجامعات ليحثّ الشباب على السفر للجهاد في أفغانستان، مرتديًا الزي الباكستاني ومطلقًا لحيته. وقد تخمّرت في ذهنه فكرة أن "الجهاد الأفغاني بمثابة دورة تدريبية في غاية الخطورة لإعداد الشباب المسلم المجاهد لخوض معركته المنتظرة مع القوة العظمى التي تفرّدت بزعامة العالم الآن: أمريكا". قام "لورانس" بإجراء نحو 600 مقابلة مع شخصيات مختلفة لجمع وتوثيق معلومات كتابه كانت تلك الفترة بمثابة "شهر عسل" بين نظام الرئيس السادات والحركات الإسلامية التي كان "الرئيس المؤمن" يحاول استخدامها لضرب التنظيمات الشيوعية، إلا أن ذلك الوفاق لم يستمر لعدة أسباب: أهمها اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية، وقيام السادات بحل جميع الجمعيات الطلابية الدينية، الأمر الذي أدّى لاتهامه من قِبل المتشددين ب"الارتداد عن الإسلام" وبالتالي "إباحة دمه"!. يتحدّث "رايت" بعد ذلك عن العلاقة الغامضة التي ربطت "الظواهري" ب"جماعة الجهاد" الساعية لاغتيال السادات؛ حيث اعتمد "الظواهري" على المقدّم "عبود الزمر"، والرائد "عصام قمري" في خطة الجماعة لقلب نظام الحكم. كان التنظيم مشتتًا فضفاضًا، إلا أن خلية منه استطاعت إعداد خُطة عاجلة لاغتيال الرئيس وضعها ونفّذها الملازم أول "خالد الإسلامبولي"، وبالفعل، قام باغتيال الرئيس السادات أثناء احتفاله بذكرى نصر أكتوبر. يُؤكّد "الظواهري" في شهادته أنه لم يسمع بتلك الخُطة حتى التاسعة من صباح السادس من أكتوبر 1981، وقد حاول أيمن الظواهري الهرب لباكستان؛ خوفًا من اعتقاله لعلاقته بالتنظيم، إلا أن الشرطة اعتقلته في الطريق للمطار، وتم التحقيق معه وتعذيبه بقسوة -حسب روايته، حتى أن أحد الاتجاهات الفكرية يقول: "إن جذور المأساة التي تعرّضت لها أمريكا في 11 سبتمبر قد وُلِدَت في السجون المصرية!"، وقد تحدّث هو نفسه -أي "الظواهري"- أمام وسائل الإعلام في المحكمة عما تعرّض له هو والمعتقلون من تعذيب وصفوه ب"الوحشي". تحت وطأة التعذيب اضطر "الظواهري" للاعتراف على رفاقه، كما "يلمّح" في مذكراته. ثلاث سنوات قضاها في السجن رهن التحقيق والمحاكمة لتتم بعدها إدانته بالسجن لثلاث سنوات بتهمة المتاجرة في السلاح، ولأنه كان قد قضى المدة بالفعل أثناء المحاكمة، فقد تم إطلاق سراحه سنة 1984، ولكن بعد أن تحوّل ذلك الشاب الهادئ إلى ذلك المقاتل الصلب الشرس العنيد المشحون غضبًا ورغبة في الانتقام. عاد "الظواهري" لممارسة الطب، لكنه كان يخشى عواقب شهادته في قضية تعذيب المعتقلين, فسافر إلى السعودية.. وهناك التقى بذلك الرجل الذي يُكمِل وجوده تلك الصورة المخيفة للقاعدة كوحش إرهابي عاتٍ.. رجل اسمه أسامة بن لادن.. (يُتبَع)