بعد ما جرى ل"أسطول الحرية" من قرصنة إسرائيلية عسكرية فجّة، ارتفعت أسهم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الأوساط الشعبية العربية، وتم وضعه في ذات المرتبة مع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والسيد حسن نصر الله، وغيرهما من قادة ما يُسمى بقوى الممانعة في الشرق الأوسط. وأصبح الحديث عن المشروع التركي للشرق الأوسط حديثاً ممتعاً للكثيرين، خاصة حينما يتم ربطه بالمشروع الإيراني، ولعل السؤال الهام الذي يؤرِّق المراقبين الدوليين حالياً هو طبيعة العلاقة بين ما تسعى إليه إيران وما تسعى إليه تركيا، بالأحرى هل العلاقة بين صعود إيران وصعود تركيا علاقة تنافسية أم تحالف حقيقي كما يؤكّد البعض؟؟ في الواقع فإن فهم العلاقة بين تركيا وإيران من جهة، وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى تستدعي أن نعود للوراء قليلاً، وتحديداً عام 1957 حينما أصبحت سوريا قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى دولة شيوعية تأتمر من موسكو، وهو ما أقلق الولاياتالمتحدةالأمريكية وحليفتها التقليدية إسرائيل، فتم التفكير أولاً في مخطط عسكري تقوم إسرائيل على إثره بغزو سوريا، ولكن الرئيس الأمريكي دوايت إيزنهاور تخوّف من التدخل السوفيتي، ثم أعدّت خطة أمريكية بريطانية من أجل قيام العراق وتركيا بغزو سوريا تحت ادّعاء التدخل السوري في لبنان والأردن، ولكن هذا المخطط بدوره لم يكتمل، ثم قامت الوحدة بين مصر وسوريا، وهو ما يعدّ وفقاً لحسابات العرب أعظم لحظة في التاريخ العربي الحديث. البروفيسور المصري "محمد عبد الوهاب سيد أحمد" له كتاب شهير بعنوان U.S-Egyptian relations In the fifties صدر في لندن عام 1991، واهتمت دار الشروق بإصداره باللغة العربية، قام البروفيسور "عبد الوهاب" بإعادة كتابته باللغة العربية، وصدر عام 2007 عن الدار بعنوان "العلاقات المصرية – الأمريكية من التقارب إلى التباعد 1952- 1958"، حيث قام "عبد الوهاب" بشرح الرؤية الأمريكية للوحدة بين مصر وسوريا على ضوء زيارته لمكتبة "إيزنهاور"، إضافة إلى اطّلاعه على الوثائق الأمريكية المفرَج عنها، والتي يمكن لأي باحث مجتهد أن يحصل عليها من وزارة الخارجية الأمريكية، فماذا عن رأي واشنطن من الوحدة المصرية السورية؟ لقد قرّر الرئيس إيزنهاور رفع أمر سوريا إلى المخابرات المركزية الأمريكية ومجلس الأمن القومي الأمريكي، وتوصلت الجهتان أواخر عام 1957 وأوائل عام 1958 إلى أن واشنطن وتل أبيب لا يجب أن تعارض الوحدة المصرية السورية التي يحاول بعض الأطراف في كلا البلدين إتمامها؛ لأن أمريكا مهما دعمت انقلابات عسكرية في سوريا كما فعلوا مع "حسني الزعيم" و"أديب الشيشيكلي" فإن عدم استقرار الحكم وعجلة الانقلابات العسكرية في سوريا سوف تطيح بأي زعيم تنصّبه أمريكا في حكم سوريا، وإنه من الأفضل إيجاد زعيم قومي له احترامه في الشرق الأوسط من أجل حكم سوريا، شريطة ألا يكون شيوعياً وأن يكون معادياً للشيوعية، ويكون له من الزعامة والشعبية ما يسمح له بالتنكيل بالشيوعية وسحقها في سوريا دون أن ينتفض الشعب السوري ضده. وكانت تلك الشروط كافة تنطبق على الزعيم جمال عبد الناصر، فالرجل -بحسب التقارير الأمريكية– وضع رموز الحركة الشيوعية المصرية في السجون، وعذّبهم بلا رحمة، وبما أن الشيوعيين في سوريا سوف يكونون أقوى فصيل معارض لحكم "ناصر" لسوريا فإن التصادم بين "ناصر" والشيوعية وسحق "ناصر" للشيوعية السورية سوف يكون نتيجة حتمية، وهو ما تريده أمريكا وإسرائيل. ولقد قام "ناصر" بالدور المخطط له دون أن يدري وبمهارة فائقة، بل إن الأمريكان والإسرائيليين فوجئوا بفوائد أخرى لهذه الوحدة غير القضاء على النفوذ السوفيتي في سوريا؛ لأن الوحدة بين مصر وسوريا وفقاً للقانون الدولي ألزمت الجمهورية العربية المتحدة باحترام كافة الاتفاقيات والتعهدات التي أبرمتها مصر منفردة عن سوريا، وبعد أن كانت الجبهة السورية - الإسرائيلية ملتهبة وبها اشتباكات عسكرية دورية تؤرّق إسرائيل، قامت القاهرة بوقف إطلاق النار من جانب واحد، وتنفّست تل أبيب الصعداء. وكان طبيعياً ألا يوافق الاتحاد السوفيتي على تلك الوحدة؛ لأن السوفيت يدركون جيداً معنى عدم اعتراض واشنطن على الوحدة، وقوبل عبد الحكيم عامر في أول زيارة له لموسكو عقب الوحدة بشكل سيئ. وبعد أن أتمّت مصر مهمتها، قام الغرب عبر حلفاء له في المنطقة العربية بإلقاء بضعة دولارات إلى جنرالات الجيش السوري الغاضبين من كل ما يجري في سوريا عقب الوحدة، ولم يهتم هؤلاء الضباط بالمال، ولكن اهتموا بفكرة أن الغرب حينما يموّل انقلاباً ضد ناصر فإن هذا يعني أن الغطاء الأمريكي للوحدة انتهى، فسارع "عبد الكريم النحلاوي" مشكوراً بانقلابه الشهير.. وانتهت الوحدة. إذن.. ليس كل ما نراه بطولة في حساباتنا يعتبر هزيمة في حسابات البعض، الوثائق الأمريكية تقول إن قيام "ناصر" بالقضاء على الشيوعيين في سوريا خدمة لم يكن لأي دولة في الشرق الأوسط القدرة على فعلها قط. ولكن ما علاقة هذا بالسيد "أردوغان"؟؟ إن السيد "أردوغان" يقوم بنفس مهمة "ناصر" في سوريا بنجاح باهر، فالغرب قلق من المشروع الإيراني، ومن النفوذ الإيراني في فلسطين ولبنان والعراق، ومن الشعبية الإيرانية الجارفة في الشارع العربي، ولكن صعود "أردوغان" وتركيا بجانب إيران أو حتى على حسابها سوف يؤدي إلى خسارة إيران لصورتها في الشارع العربي، بالأمس رفعوا صورة "نجاد"، اليوم صورتي "نجاد" و"أردوغان"، وغداً صورة "أردوغان" فحسب. لقد ذهب بعض الصحفيين في بريطانيا إلى القول بأن "أردوغان" بعد قصف أسطول الحرية قد "سحب ورقة غزة" من إيران نهائياً، ويدرك الحكام العرب أن الدور التركي سوف يؤدي إلى تفتيت الدور الإيراني، لذا لا عجب أن نرى دوائر الحكم في الدول العربية ترحّب الواحدة تلو الأخرى بالدور التركي في المنطقة، وأن تسليم أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسي جائزة تقديرة للسيد "أردوغان" منذ بضعة أيام. والغرب لا يخشى من الدور التركي قط؛ لأنه دور مؤقت مرتبط بحزب العدالة والتنمية فحسب، ولا يعتبر تغيراً في سياسة تركيا، فالسيد "أردوغان" سوف يخسر في الانتخابات البرلمانية سواء عام 2011 أو حتى عام 2015، وهي فترات زمنية ليست كافية لإتمام المشروع التركي، ووقتها سوف تعود تركيا إلى دورها الطبيعي كعضو مطيع في حلف الناتو. لذا فإن العلاقات بين تركيا وإيران سواء كانت علاقات تحالف أو تنافس فإنها مضرة بإيران وتسحب من رصيدها، وتجرّدها من أوراقها السياسية والشعبية الواحدة تلو الأخرى حتى تصبح وحيدة في الميدان، يسهّل الانقضاض عليها تماماً كما أرهقوا العراق يوماً قبل التاسع من إبريل عام 2003.