سوزان هي طفلة صغيرة لها حكاية أرويها لكل من ينادي بعدم التشجيع على التسول ومحاربته سواء بالنسبة للأطفال أو لغيرهم. فالحقيقة تحيرني وأحيانا تستفزني الدعوات التي أجدها على فترات متقاربة والتي تنادي بعدم تشجيع المتسولين وعدم التعاطف معهم، الكبار منهم والأطفال.. الرجال منهم والنساء.. ونجد من يسوق القصص على احتراف الكثيرين للتسول كمهنة وأنهم عادة يكونون أغنى ممن يطلبون منهم الحسنة، وتٌروى الحكايات عن دخلهم اليومي وعدم استحقاقهم للحسنة، ونجد الجميع يتلو حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: "لأن يأخذ أحدكم فأسه فيأتي الجبل فيجئ بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيستغني بثمنها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْألُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273]. وللحق فقد كنت أجد في هذه الدعوات والحكايات -وما زلت- وسوسة شيطانية يعين بها إبليس النزعات الشريرة للبشر حتى "يضيّقوا الحزام" أكثر على المساكين والفقراء بحجة أنهم "نصابون" أو يشوهون الوجه الحضاري للمدينة ويظهرونها بالمظهر الفقير، وبالتالي لا يخرج أحدٌ حسنات أو صدقات إلا بعد التأكد التام من حاجة من يطلبها إليها، وكان رأيي أن أي إنسان مهما كانت أخلاقه لن تهون عليه نفسه وأن يمد يده للسؤال إلا وهو محتاج فعلا حتى لو حدث اختلاف بين البشر عن مدى هذا الاحتياج، كما أنه من الصعب جدا في وقتنا الحالي أن يتأكد كل فرد يمشي في الطريق من أحقية هذا الشخص أو هذه العجوز أو هذا الطفل للصدقة. وقد أكد هذا الاتجاه لديّ يقيني بأن الله عز وجل عادل جدا، وأنه مقسم للأرزاق، فكم مرة سمعنا عن عجوز احترفت التسول عن غير حاجة فعلية له، ثم ماتت ليجد شخص محتاج فعلا أموالها أو يرثها بشكل شرعي، ويكون الحق هنا عاد بالفعل لأصحابه؛ أي أنها كانت سببا من أسباب وصول الأموال لشخص يحتاجها. نعود لسوزان الطفلة الصغيرة التي وقفت ببراءة تسأل والدتي عن الطريق للفيوم وكيف تركب إليها، وبعد الاندهاش من سؤالها خاصة مع ابتعادها تماما عن أي مواصلة تذهب لهذه المحافظة وبعد انخفاض مظاهر التوجس من مظهرها المتمثل في شعر متشعث وملابس رثة، جاءت بها والدتي للمنزل تمهيدا لتسليمها لأولي الأمر وقد كانت الفرصة لنعرف حكايتها. فهي ابنة لأب وأم منفصلين كانت تعيش مع والدتها وزوج والدتها في الفيوم حتى جاء والدها في يوم من الأيام إلى مدرستها أثناء تأديتها لامتحان الصف الثالث الابتدائي ليأخذها معه إلى القاهرة حيث يعيش وحيث كان اللقاء معها. من الوهلة الأولى يظن السامع أنها طفلة سعيدة تحظى برغبة كل من والديها في الاحتفاظ بها و"الخناق" والتحايل لأخذها رغما عن أنف الطرف الآخر، لكن مع التعمق في الحكاية نجد أن والدها يخرجها يوميا مع صلاة الفجر لتبيع المناديل، وقد ضربها؛ لأنها عادت له بسبعة جنيهات فقط، بعد أن كانت تمده بما يقرب من 100 أو 180 جنيه في أيام رمضان والعيد. ولم يكن الحال أفضل عند والدتها التي كانت ترغب في الهرب إليها؛ إذ إنها مع دراستها كانت تعمل في المنازل مع شقيقتها الكبرى، والتي فهمنا منها أنها لم تتعد السبعة عشر عاما، إلا أنه من الواضح أن حالها مع والدتها وزوجها كان أفضل حالا من العيش مع أبيها. لم نجد لها حلا سوى الاتصال بخط نجدة الطفل 16000 ليتصرفوا معها سواء بالتعهد برعايتها أو بإعادتها لوالدها؛ وذلك لأنه نظرا لزواج والدتها فلوالدها الحق في رعايتها وهي في المقابل ترفض رفضا باتا العودة إليه، ووجدنا أنها ترفض أيضا أن يتم رعايتها من قِبَل المسئولين عن مجلس الأمومة والطفولة التابع له خط النجدة هذا. واحتار الباحث الاجتماعي الذي أرسله خط النجدة قليلا، واتضح أنه معتاد على هذه النماذج، وأنها عادة ما تكرر الهروب مرة أخرى بمجرد تسليمها لولي الأمر. وعادت الطفلة لأبيها لكن هل فعلا سيلتزم بالتعهد؛ خاصة إذا عرفنا أنه مريض بعدة أمراض، وأجرى عددا لا بأس به من العمليات، وأن سوزان هي إحدى وسائله لكسب العيش مع إخوتها ذكورا وإناثا، هل لديه بديل أصلا؟ وهل اختارت سوزان أو والدتها هذا المصير؟ وهل ترتاح له حتى مع ارتفاع الدخل في أيام ما مع عدم إمكانية إنكار أنه سيقل كثيرا إن لم ينعدم في أيام أخرى؟ لا أؤيد من ينادون بعدم تشجيع هذه الفئة على التسول؛ لأن البديل المنطقي في وجهة نظري هو تعرضهم للضرب والإهانة وتكون النتيجة هروبهم للطرقات ليضيعوا للأبد. فليس من المنطقي أبدا أن نعمم ظننا السيئ في كل من يمد يده أو يحترف مهنة بسيطة كبيع المناديل أو علب الكبريت؛ بحجة أن كلهم "نصابون"، فمن أدرانا أنه ليس هناك واحد على الأقل من كل عشرة متسولين يحتاج فعلا لكل قرش يمنحه له الناس؟ ومن أدرانا أن من يحترف التسول كمهنة لم يبحث بالفعل عن عمل لكنه وجد به من الذل والإهانة ما يفوق ما يتعرض له أثناء التسول؟ أعارض دائما فكرة مطاردة المتسولين إذا كنا لا نوفر لهم الحد الأدنى من الكفاف، ومن العيشة شبه الآدمية ولن أقول الآدمية. لا يجب الاستجابة لهذه الدعوات التي يكون ظاهرها الخوف على المصلحة العامة وباطنها به ما به من أسباب تضر أكثر ما تضر إنسانا محتاجا فعلا، لذلك أقول: وفروا البديل ثم حاربوا التسول.. وفروا البديل ثم نادوا بعدم تشجيع الأطفال على الشحاذة والتسكع في الطرقات.. أما قبل هذا فلا يحق لنا أن نمنعهم طالما نستطيع أن نمنحهم، ولا يجب علينا أن نطاردهم طالما لا نحميهم. هل تؤيد محاربة ظاهرة التسول حتى لو كان الشخص محتاجا لها? أيوه 49% (20 صوت) لأ 51% (21 صوت) مش مهتم 0% (0 صوت) عدد الاصوات : 41