لفترة طويلة اقترنت كلمتا العروبة والإسلام كوجهين لعملة واحدة؛ حتى بعد أن تولّت بعض الأجناس غير العربية كالفرس والترك والتتار قيادة الشعوب الإسلامية؛ ظلّت العروبة مهيمنة على كل ما هو مسلم؛ فكل مسلم عليه أن يتعلّم العربية ويُتقِن فنونها كي يتعلّم العبادة وقراءة القرآن والصلاة، وكل من هو عربي لا يمكن أن يتملّص من تاريخ العروبة، وهو ما يعرف ب"التاريخ الإسلامي"، ومن لغة العرب والإسلام التي تعبّر عن ثقافة لا عن دين هذه الشعوب. حتى جاءت الدعوات المتأخرة بالدعوة إلى القومية العربية في محاولة لانتزاعها من هذا الازدواج مع الإسلام. لكن إن استطاع القوم أن يُغيّروا الحاضر وأن يُغيروا السياسة وأن يُغيروا حدود الدول؛ فهل يقدرون على تغيير التاريخ، ومحو الهوية، وإنكار ما هو جلي كالشمس يفقأ عين الواحد منهم؟!! إن هذا الارتباط بين الإسلام والعروبة هو ارتباط ثقافي لا يستطيع الواحد منا شاء أو أبى أن يُنكره.. إن إنكاري أنني موجود في مصر كدولة إسلامية وعربية تقع ضمن خريطة الوطن العربي الإسلامي، هو كإنكار أن مصر موجودة بالفعل. وعلى هذا فإن اعترافي كمصري -أياً كانت ديانتي- بالتاريخ الإسلامي هو اعتراف بهويتي وجذوري؛ لأن التاريخ هنا لا يُعبّر عن ديانة؛ بل أصبح يُعبّر عن شعب عاش وأنجب وكان له نسل وأصبح له كيان وثقافة وهوية ومكانة بين سكان العالم. ومن ثم فلا يمكن لعاقل أن يقول إنه لا يعترف بالتاريخ الإسلامي كي لا يجرح مشاعر إخواننا من الأقباط؛ فالتاريخ هو التاريخ ويتسم بالإنسانية المجرّدة لا بالعقيدة، وإنكار هذا التاريخ هو محو لهوية أولئك الذين أردت بهم خيراً بعدم جرح مشاعرهم فكانت النتيجة ليست جرحاً؛ بل نسف هويتهم. وإذا كانت اللغة هي أهم حامل للتاريخ ينقل خبرات شعبه ومشاعرهم وحروبهم، ويُجسّد تجاربهم؛ فإنه لا يمكن لعاقل آخر أو لنفس العاقل الأول أن يستبعد لغة ما لأنها تخصّ أحد الكتب المقدّسة دون الكتب الأخرى؛ لأن الأمر أيضاً يعيد نفسه؛ فاللغة الآن هي لغة قوم تتسم بالإنسانية المجردة وليست لغة دين تحمل العقيدة والتشريع، وإنكار اللغة هو إنكار للهوية. وإذا كانت لكل لغة وعاء من أشعار وآداب؛ فإن وعاء العربية هو شعرها وقرآنها؛ ومنذ بداية التقعيد اللغوي والانفتاح الثقافي كان القرآن والشعر والنثر هي النماذج الثلاثة للثقافة واللغة العربية، التي تمثل كياناً وهوية كل عربي مهما اختلفت ديانته. يعدّ ذلك من الأمور البديهية التي لم يلُح ببال أحد أن يُنكرها؛ إلا مماحك متنطع يرى المشكلة في حيث لا وجود لها؛ وخير دليل على ذلك أن الأدباء المسيحيين الذين تملأ أعمالهم المكتبة العربية كانوا يتعاملون مع الثقافة العربية بمصطلحاتها وتاريخها وقرآنها كوحدة واحدة للهوية، دون أن يمثّل القرآن أو العروبة أو الإسلام جارحاً لمشاعرهم أو خطراً تبشيرياً نحو دينهم من دين لا يؤمنون به، وها هو الشاعر "نصر لوزا" الأسيوطي يُنشِد في قصيدته 1964 في وصف الأهرام: كأن ثرى الأهرام تُرب مقدّس حواليه من كل الشعوب زحام يؤمّونه من كل فج وجوههم عليهن من فرط الحياء لثام يحجّون أرضاً أصبحت بك كعبة كأنك بيت للحجيج حرام ولا أعتقد أن أحداً ساعتها رماه بالزندقة أو أنه بدل دينه أو أنه حتى تأثّر بالعقيدة الإسلامية كديانة مخالفة لديانته، عندما ذكر الكعبة والإمامة، وهي من المصطلحات شديدة الخصوصية في الدين الإسلام وجاء اقتباسه فيها من قوله تعالى: {ولا آمّين البيت الحرام يبتغون...}. ولأن هذا هو نمط العقلية وقتها؛ فإنها لم تكن لتلتفت إلى أي من هذه الترَّهات التي نراها اليوم لدى العديد من أصحاب دعوات الحفاظ على حقوق الأقلية المسيحية وأصحاب نعرات التحرر والانعتاق من كل اسم للدين أو العروبة أو الإسلام وكأنها سُبة أصبحوا يتبرّؤون منها، ولا من دعاة الخوف من تدريس اللغة العربية؛ لأنها اللغة التي كتب بها القرآن (كتاب المسلمين) والخوف من تدريس القرآن (حامل ثُلث الثقافة العربية وعلومها)؛ لأن به دعوة إلى الإسلام قد تُضل أبناء غير المسلمين عندما يتأثرون بها. ولا أعتقد أن أولي الأحلام والألباب من إخواننا المسيحيين يلتفتون إلى مثل هذه الدعوات؛ لأنهم يعلمون أن مصر هي وطنهم والعروبة هي ثقافتهم، والإسلام والقرآن هما حاملا هذه الثقافة والتاريخ من جانب الثقافة والزمن لا من الجانب العقدي؛ لأن الجانب العقدي والدعوي لا يكون إلا عن قناعة، لا عن الاحتفاظ بالهوية ومجاورة أصحاب الديانة المخالفة.