دعاني إلى كتابة هذا المقال استدلال كثير من الكتاب على جانبي الأطلسي، ومعهم للأسف كثير من خطباء المساجد، بآية في القرآن الكريم للتدليل على أن القرآن يأمر ويحضّ على "الإرهاب". من جانبنا لا نعدم بين الحين والآخر أن نسمع خطيب جمعة يقف متفاخراً بأنه إرهابي؛ لأن القرآن -حسب رأيه- قد حض على "الإرهاب" وأمر به في قوله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ". ثم يأتي دور المستشرق أو الكاتب الغربي ليقتبس الآية المذكورة، ويُضيف إليها تعليق خطيب الجمعة على الآية، ليكرّس فكرة أن الإسلام دين العنف والإرهاب، وبالتالي يصعب التعايش مع المسلمين؛ لأن "القرآن يحثّ على الإرهاب والكراهية". أرجو من القارئ الكريم أن يصبر معي قليلاً في تعريجنا على بعض التعريفات المقتبسة للكلمة الإنجليزية "terrorism" التي ترجمت في خطأ فادح أو خطيئة متعمّدة إلى الكلمة العربية "إرهاب". هناك -كما هو معروف- تباين كبير في الأوساط السياسية والقانونية حول تعريف "الإرهاب" (حسب الترجمة العربية الخاطئة، وقد وضعت في هذه المقالة كلمة "إرهاب"؛ حيثما وردت بين علامتي تنصيص للإشارة إلى أنني أستعمل الترجمة الشائعة)، هذا التباين يرجع في مجمله إلى التفاصيل التي يريد فريق أن يدخلها ضمن محددات "الإرهاب"؛ في الوقت الذي يرى فريق آخر ضرورة التركيز على تفاصيل أخرى في صياغة تلك المحددات. ومع وجود ذلك التباين لدى الساسة والمشرّعين وخبراء "الإرهاب" حول ماهية "الإرهاب"؛ فإن معظم الاجتهادات تدور حول ما أشار إليه "والتر لاكيور" المعلّق السياسي الأمريكي الذي عرّف "الإرهاب" بإيجاز بأنه: "الاستخدام غير الشرعي للقوة لاستهداف المدنيين الأبرياء من أجل تحقيق أهداف سياسية". البريطانيون من جهتهم أضافوا إلى الأعمال الإرهابية ضمن القوانين البريطانية لمكافحة "الإرهاب" لسنة 2000، أضافوا: "استخدام القوة أو التهديد بها للتأثير على الحكومات أو التأثير على سير الانتخابات لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو أيديولوجية". الأمريكيون بدورهم فيما بات يُعرف ب"القانون الوطني الأمريكي USA Patriot Act" يتفقون مع البريطانيين في عموم التعريف ويُدخلون ضمن الأعمال "الإرهابية" كل عمل مقصود يشكّل خطورة على الحياة الإنسانية أو ينتهك القوانين الجنائية للولايات المتحدة أو لأي دولة أخرى، ويعتبرون عمليات الاختطاف والاغتيال والدمار الشامل أعمالاً إرهابية. المركز الأمريكي لمكافحة "الإرهاب" يرُكّز في توصيف "الإرهاب" على أنه استخدام القوة ضد غير الأكْفاء (المدنيين) من أجل تحقيق أهداف سياسية، أو أهداف لها علاقة بالدين أو الثقافة أو الفلسفة التي تؤمن بها مجموعة من الناس. "الإرهاب" حسب التوصيفات المذكورة إذن هو: استخدام القوة ضد مدنيين عزّل (دون سلاح) لتحقيق أهداف سياسية لها علاقة بالوصول إلى السلطة، أو أهداف اقتصادية للحصول على المال أو مصادر الثروة أو الطاقة، أو أهداف ذات طبيعة دينية أو ثقافية لفرض فكر معيّن أو فلسفة معيّنة بقوة السلاح على الجمهور أو على الحكومات. يدخل في الإرهاب حسب التوصيفات المذكورة: أعمال الخطف، والقرصنة، والدمار الشامل، واستهداف المدنيين العزّل، وتعكير سير الانتخابات. هذا عن "الإرهاب" في الأدبيات التي عُنيت بدراسته في اللغة الإنجليزية؛ فماذا عن "الإرهاب" في اللغة العربية أو على الأصح في الاستخدام القرآني؟ لم ترِد كلمة "إرهاب" في القرآن الكريم بالصيغة الاسمية؛ وإنما وردت في صيغة الفعل المضارع في قوله تعالى في الآية المذكورة آنفاً: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. بقليل من التأمل في الأهداف المتوخّاة من وراء الأمر بإعداد القوة -في الآية- سنلحظ أن هذه الأهداف تتلخص في: التلويح بالردع العسكري للحيلولة دون اندلاع أعمال العنف أو الأعمال القتالية من قبل المجاميع المسلحة في الجزيرة العربية ضد مؤسسات الدولة الإسلامية، والحفاظ على موازين القوى دون أن تختل لصالح هذه المجاميع المسلّحة، وتخويف إرهاب هذه المجاميع بسياسة الردع العسكري؛ وذلك أفضل سبيل للحفاظ على السلم ومنع اندلاع الحروب، (وهي بالمناسبة سياسة أمريكية متّبعة). كما تجدر الإشارة هنا إلى أن توجيه هذا الردع العسكري (أو التلويح باستخدام القوة) في القرآن؛ إنما جاء ضد محاربين يمتلكون القوة للاعتداء على المسلمين؛ بدليل "أَعِدُّوا لَهُمْ"، أي أعدوا للمقاتلين الذين أعدوا وامتلكوا واستعدوا بالسلاح للاعتداء عليكم؛ فالذين أُمر المسلمون بإعداد القوة لمواجهتهم في الآية هم محاربون يمتلكون السلاح وليسوا مدنيين أبرياء، كما أن الأمر صدر للمسلمين ممثلين في دولة ذات صبغة قانونية، ضد مجاميع من الأعراب والأعداء الذين يغيرون على عاصمة هذه الدولة للسلب والنهب، من أجل فرض هيبة الدولة بردعهم عن ممارسة ما يمكن توصيفه بالأعمال "الإرهابية". الغرض من إعداد القوة في الآية -إذن- ليس لتحقيق أهداف سياسية بالوصول إلى السلطة، أو اقتصادية بالسيطرة على مصادر الثروة، أو أهداف ذات بُعد ديني أو ثقافي (كفرض الإسلام بالقوة مثلاً)، كما أن الهدف ليس الاعتداء على الأبرياء إطلاقاً؛ وإنما الدفاع عن النفس (self defence)؛ بدليل آية أخرى واضحة الدلالة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. وهكذا يتضح أن جملة هذه الأهداف تخالف تماماً الأهداف المتوخاة من وراء الأعمال الإرهابية -حسب التوصيف الدولي. بعد كل ذلك يُصبح اختيار الكلمة العربية "إرهاب" لتكون المقابل للكلمة الإنجليزية "terrorism" على ما بين الكلمتين من بوْنٍ شاسع هو خطأ فادح على المستوى اللغوي وخطيئة كبيرة على المستوى الفلسفي. وبعودة إلى الكلمة الإنجليزية "terrorism" وأبعادها ودلالاتها، يمكن القول بسهولة إن الكلمة العربية "إرهاب" ليست المقابل العربي (Arabic Equivalent) للكلمة الإنجليزية. وإذا كان من إمكانية لاختيار كلمة عربية أخرى لترجمة الكلمة الإنجليزية؛ فإن كلمات مثل "حرابة" أو "إفساد" -في تصوّري- هي الأقرب لنقل دلالات الكلمة الإنجليزية؛ خصوصاً ونحن نعرف أن "الحرابة والإفساد" جرائم جسيمة لدى فقهاء المسلمين قد تصل عقوبتها -حسب هؤلاء الفقهاء- إلى الإعدام، وهو العقوبة التي تجري على مرتكبي جرائم الإرهاب في كثير من القوانين المتّبعة في الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول. أخيراً.. شاعت للأسف كلمة "إرهاب" في اللغة العربية لنقل دلالات كلمة إنجليزية تحمل معاني غير التي تحملها المفردة القرآنية، وهذا الخلط في الترجمة هو الذي سوّغ لكثير من الخطباء التباهي بأنهم إرهابيون، كما أتاح لكثير من متصيّدي الأخطاء من المستشرقين والكتّاب في الغرب الفرصة للربط بين الإسلام والإرهاب. عن جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 3 مايو 2010