آلاف التلغرافات التي كان يقرؤها يومياً بحكم عمله كموظف بهيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية ساهمت في إثراء تجربته الذاتية، والتي تحوّل بها إلى واحد من أهم مبدعي جيل الستينيات برصيد؛ وإن كان قليلاً؛ إلا أنه من أكثر الأعمال الإبداعية والأدبية تميّزاً. وبالرغم من الشهرة العريضة لأصلان صاحب "مالك الحزين" والتي تحوّلت لفيلم "الكيت كات"؛ فإنه ما زال يكره الشهرة والأضواء ويُفضّل أن يعيش في الظل؛ لذلك لم يكن من السهل أبداً الحصول على موعد معه والذي بدا في البداية غير متحمّس له؛ ولكن ما إن تقابلنا وبدأ الحور عن فيلمه "عصافير النيل"؛ حتى تحوّل لطفل صغير يتحدّث عن أعماله وكأنها ما زالت حلماً لم يتحقق بعد. * أولاً مبروك على الفيلم؟ أشكرك جداً.. الله يبارك فيكم جميعاً.
* واضح أن تربية العصافير استغرقت وقتاً طويلاً؟ (يضحك).. استغرقت 12 سنة تقريباً؛ فرواية "عصافير النيل" صدرت عام 1998، وأنا كنت بدأت كتابتها قبل ذلك بخمس سنوات، وكنت أحاول من خلالها ملامسة التجربة الحياتية والإنسانية للطبقة الوسطى في فترة السبعينيات والثمانينيات. * ولكن واضح من الفيلم والرواية أيضاً أنها أكثر من مجرد ملامسة حياتية بل مرحلة عشتها واقتربت منها بنفسك؟ هذا حقيقي فعلاً؛ فأنا في كل رواياتي أكتب عن أشخاص وأماكن عايشتهم واقتربت منهم بنفسي؛ لذلك تجدين كتاباتي تتحدّث عن تفاصيل في حياة الأشخاص أكثر منها عن حالة عامة، وهذا ما يهمني في رواياتي هو الناس؛ لأن الفن الحقيقي هو الذي يهتم بالناس وبأوجاعهم، كما أن فن الرواية تحديداً هو استعارة للواقع الذي نعيشه.
الإعلان الخاص بالفيلم جعله يبدو وكأنه فيلم "بورنو" * الإعلان الخاص بالفيلم جعله يبدو وكأنه فيلم "بورنو"، وليس فيلماً مأخوذاً عن رواية مهمة بحجم "عصافير النيل"؟ أنا معك في هذا؛ لكن للأسف هذا أحياناً يكون شيئاً لا بد منه عملاً بالمقاييس التجارية؛ فالفيلم لو كان تم عرض الإعلان الخاص به كما يُجمله مضمونه لربما لم يكن ليحقق أي نجاح تجاري؛ وإنما هناك مقاييس لا بد من الخضوع لها، والحقيقة أن الفيلم خرج بحجم توقعاته بنسبة 80%. * لكن العلاقة بين عبد الرحيم وبسيمة والتي جسدهما في الفيلم فتحي عبد الوهاب وعبير صبري لم تصل إلى هذا الحد؟ هذا في الرواية؛ لكن في السينما الوضع مختلف؛ فمشهد السينما له شروط أخرى؛ بدليل أن مجدي أحمد علي -مخرج الفيلم- طوّر كثيراً في شخصية بسيمة؛ فهي لم تكن بهذا الشكل في الرواية؛ إلا أنها في الفيلم تطوّرت سواء على المستوى الإنساني أو على مستوى علاقتها العاطفية بعبد الرحيم. * الأستاذ نجيب محفوظ كان دائماً يُعلن أنه غير مسئول عن روايته عندما تتحوّل إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تليفزيوني.. فهل تتفق أم تختلف معه في هذا المبدأ؟ أتفق معه؛ لكن بشروط أهمها: ألا يخلّ العمل السينمائي بالثوابت الأساسية للرواية سواء في المضمون أو الشخصيات، وألا يُقدِّم الرواية إلا مخرج جيّد يؤمن بها حتى لا يقدّمها بشكل تجاري أنا غير راضٍ عنه؛ لذلك فالروايتان اللتان قدّمتهما للسينما وهما "الكيت كات" و"عصافير النيل" لم أسمع بتقديمها؛ إلا من خلال مخرجين تربطني بهما علاقة صداقة جيدة؛ فداود عبد السيد قدّم "الكيت كات" بشكل أكثر من رائع، ونفس الشيء بالنسبة لمجدي أحمد علي؛ حيث قدّم عصافير النيل في مشاهد سينمائية لا تخلّ أبداً بمضمون الرواية والهدف منها؛ خاصة أن هذه الرواية تحديداً من الأعمال التي يصعب تحويلها إلى عمل سينمائي؛ لأنها كما سبق وقلت تعتمد على تفاصيل في حياة البشر وليس قصة. لذلك رغم إعجاب مجدي أحمد علي بها من أكثر من 12 سنة وإصراره على تحويلها إلى فيلم سينما؛ إلا أني لم يكن عندي ثقة أن ذلك كان يمكن أن يتحقق بسبب هذه التفاصيل. * عنوان "عصافير النيل" كناية عن شيء معين تقصده.. فما هو؟ كناية عن صراع البشر -وتحديداً أبناء الطبقة الوسطى- مع ظروف الحياة القاسية، وربما اخترت "النميل" تحديداً؛ لأني شخصياً تربيت على شاطئه؛ فأنا عشت طوال حياتي تقريباً في أحضانه، و"الكيت كات"، وكانت دائماً ما تلح عليّ رغبة أن أكتب رواية يكون النيل عنوانها، ووجدت الفرصة في هذه الرواية.
عندما أكتب لا أضع في اعتباري أنني أكتب قصة قصيرة أو رواية * الحوار في الفيلم جاء واصفاً للشخصيات أكثر ما هو معبّر عنها.. هل توافقني على هذا الرأي؟ أوافقك عليه وأشكرك على ملاحظتك له، وهذا شيء يحمد لمجدي أحمد علي؛ لأنه اعتمد في الفيلم على 70%، ويمكن أكثر على الحوار المكتوب في الرواية؛ حتى وإن كان غيّر في مصائر الشخصيات؛ لأن الرواية أصلاً عالم رحب لا يمكن اختزاله في ساعتين؛ خاصة أنها تتعرض لفترة زمنية طويلة، والحقيقة أن الحوار في الرواية فعلاً لا يعبّر عن الشخصية؛ لكن هو الشخصية نفسها؛ فلغة الناس هي شخصيتهم. ولأني اقتربت من معظم الشخصيات الموجودة في الرواية وعشت معهم في الحقيقة؛ فلم يكن من الصعب عليّ أن أعبّر عنهم بلغتهم. * هل صحيح أنك في معظم رواياتك تكتب دائماً جزءاً من تجربتك؟ هذا صحيح.. لأنني عندما أكتب لا أضع في اعتباري أنني أكتب قصة قصيرة أو رواية؛ وإنما أكتب عن حالة، وأنا عندما كنت أعمل في التلغراف تعلّمت أن الكلام بفلوس، ولا يوجد كلام مجاني، والإنسان عندما يخضع كلامه للعامل الاقتصادي يتحوّل إلى عبقري في الصياغة، ولأنني كنت أعمل مساءً؛ كنت أقضي معظم وقتي ما بين القراءة أو إعادة صياغة البرقيات المرسلة بين الأشخاص. وكان يذهلني نصوص هذه البرقيات؛ لأنها تدل على ما يريد أن يقوله أصحابها بشكل موجز ودقيق وكأنها شفرة؛ فتعلّمت فك هذه الشفرة. ومن هذه التجارب كنت أكتب رواياتي؛ لأني إذا حكيت تجربتي وما حدث لي وحدي؛ فهذا يحتاج إلى نوع من الاعتقاد أو الإيمان أن ما حدث لي لم يحدث لغيري، وهذا غير حقيقي على الإطلاق؛ لأننا نعيش وسط ناس عاشوا تجارب قاسية وغنية جداً، ومع ذلك واصلوا حياتهم واستمروا ولم يعتبر أحد منهم أن تجربته تستحق الذكر؛ فلماذا أحكي أنا تجربتي، وهذا لا يهم أحداً؛ إنما المهم تجارب البشر. * ألست معي في أن صعوبات الطفولة لم تكن تنبئ بميلاد مبدع بحجم إبراهيم أصلان؟ هذا شيء لا أستطيع أن أجزم به، صحيح أنا عشت طفولة صعبة؛ ولكنها من وجهة نظر البيئة التي نشأت بها عادية، ولم أكن أخطط أبداً في أي مرحلة من حياتي لأن أكون مبدعاً؛ بالعكس فأنا انتقلت بين عدة مدارس للمعلمين وفنون السجاد وهندسة السيارات وعشت في مدرسة داخلية لمدة عامين وعملت موظفاً بهيئة البريد "بوسطجي"، ثم موظف تلغراف، وكل هذه المراحل أثّرت في حياتي في أنها أصبحت مخزناً في ذاكرتي الإبداعية.
أسعى دائماً إلى الحياة في الظل * هناك شيء غريب في حياة إبراهيم أصلان، وهو هذا التناقض الواضح بين شهرته كمبدع وندرة أعماله؟ ليس غريباً؛ بالعكس أنت لو تتبعت كل مبدعي العالم ستجدين هذه الندرة في أعمالهم وأنا لا أعتبر أعمالي قليلة؛ لأنه أصلاً لا يهمني في الكتابة الإبداعية الكمّ ولكن يهمني أن يشعر القارئ بحجم التجارب التي عشتها لكي أقدّم إبداعاتي؛ لأني في النهاية لست آلة كاتبة؛ إنما أن عقل مفكّر ومتأمل، ويد تكتب ما وصل إليه هذا العقل نتيجة تأملاته، كما أني لا أكتب عن تجربتي الخاصة؛ وإنما أكتب بها؛ فعلى سبيل المثال نحن نتحدّث كثيراً عن الحق والفضيلة؛ ولكننا لم نتعلّم كيف نعمل بها، أقصد أنا أسعى في كتاباتي القليلة هذه لأن تتحوّل القيم العظيمة في حياتنا إلى أداة للتعبير وليس موضوعاً للتعبير. * ولكنك كائن غير اجتماعي فعلاً؟ أنا فعلاً هكذا، وإن كان هذا الأمر لا يشغلني؛ لأنني أعتبر نفسي من الأشخاص الذين يسعون دائماً إلى الحياة في الظل، وهذا الظل يشعرني بحالة من الاتزان النفسي، وما زلت حتى الآن بعد كل هذا العمر في المرات القليلة التي تفرض عليّ الظروف فيها الخروج إلى الضوء أو ضجيج البشر، أعاني من حالة من الارتباك والقلق النفسي وأنا أعلم أن هذا عيب فيّ؛ ولكنه جزء من تركيبتي الشخصية لم أستطِع تغييره.