تقف في طابور طويل بالبنك، تنظر في ساعتها، فهي لا تريد أن تتجاوز الإذن الذي حصلت عليه من العمل لتقوم بسحب مبلغ بسيط تحتاجه ليمر الشهر على خير، وأخيراً تصل.. في يدها بطاقتها ورقم الحساب، حتى تنتهي سريعاً، تُقدّم البطاقة لموظف الشباك لتفاجأ بالرد السريع، وهو يُعيد دفع البطاقة في وجهها مرة أخرى.. - البطاقة قديمة.. يجب تجديدها. تنظر له بدهشة.. وهي تعيد البطاقة أمامه مرة أخرى، وتخبره أنها لم تكن تعرف، ولكن لا بأس ستُجددها، ولكنها تريد أن تسحب مبلغاً الآن. تستمر حركة البطاقة ذهاباً وإياباً في اتجاهها هذه المرة، وهو يخبرها أنه لا يمكنها إجراء أي تعاملات بنكية إلا بعد التجديد، تحاول أن تفهمه أنها تحتاج هذا المبلغ، وأن أحداً لم يبلغها بالتجديد، وأنه يجب أن يتواجد حل!! بلا جدوى، فهو يصر أن لديه أوامر بعدم إجراء أي تعاملات بالبطاقة القديمة.. لنترك السيدة تقف أمام الشباك حائرة، ونتجه لشباك آخر في إحدى شركات تحويل الأموال؛ حيث يقف شاب يفرك يديه قلقاً، فوالده المحجوز بالمستشفى في انتظار عملية جراحية عاجلة، ويُصرّ الطبيب ألّا يُجريها إلا بعد تسديد الحساب، وأخوه قد أسرع بتحويل المبلغ إليه من الخارج، وها هو الآن يقف لاستلامه، يملأ قسيمة السحب ويُقدّمها مع البطاقة وهو يتعجّل الرحيل، ليفاجأ -كما فوجئت السيدة- بالبطاقة تعود إليه مع مصطلح "البطاقة قديمة.. يجب تجديدها"، وعندما يتساءل عن معنى ذلك؟!! سيؤكد له الموظف أنه لا يمكنه سحب المبلغ إلا ببطاقة جديدة، سيصرخ الشاب ويعترض، بل ويبكي ويُكلّم الفرع الرئيسي، ويخبرهم أنها حالة طارئة وأنه لم يكن يعرف، وأن والده يموت بالمستشفى، وأن البطاقة القديمة تؤكد أنه الشخص المحوّل له المبلغ!! دون جدوى.. الإجابة واحدة، لدينا أوامر بعدم التعامل مع البطاقة القديمة كي يقوم المواطنون بالتجديد. هذه ليست مواقف من وحي الخيال، بل مواقف حدثت بالفعل وعانى أصحابها بشدة، والحقيقة أن موقف البطاقة وحده قد لا يعني الكثير، ولكن لو نظرنا له نظرة أعمق سنجد أن هذا الموقف يُعبّر بشدة عن سياسة الحكومة الدائمة في التعامل مع المواقف المختلفة، وخاصة مع أي خدمة جديدة تقرر أن تدخلها على مصرنا الحبيبة، ثم تنسى تماماً القواعد المنظّمة لها، لتفاجئ الجميع بقواعد جديدة كل يوم. فعندما أعلن عن العمل بنظام بطاقة الرقم القومي منذ أكثر من عشر سنوات مضت، خرج علينا المسئولون ليأكدوا أن هذا النظام وُضع لحل كافة المشاكل، من دفاتر الساركي الحكومي، وضياع البيانات، إلى حل أزمة المواطن في تلف البطاقة الورقية القديمة وتمزقها، بل والأهم أن المواطن سيحصل على البطاقة مرة واحدة في العُمر، وأنها ستكون سجلاً إلكترونياً كاملاً يُسجّل به كافة تحرّكاته تلقائياً، فإن قدّم على رخصة قيادة واستخدم بطاقته، سيتم تسجيل الرخصة في ملفه تلقائياً، وإن تزوّج وقدّم البطاقة لعقد القران سيتم إضافة هذه المعلومة تلقائياً.. إلخ، بل شبّه بعض المسئولين المتحمّسين رقم بطاقة الرقم القومي برقم الضمان الاجتماعي الأمريكي، وقالوا إن الخُطة المستقبلية للبطاقة أن تصدر للفرد بمجرد ولادته.. ومرت الأعوام، وتغيّر المسئولون، واختلفت الرؤى، وكالعادة، لا يوجد ثابت لدينا!! فبمجرد اختلاف المسئولين تختلف كافة القواعد، وهكذا أُعلن فجأة عن أن البطاقة يجب أن تجدد كل سبع سنوات، وأن مَن يتأخر سيتم وضع غرامة عليه قد تبلغ 100 جنيه، ويخرج المسئولون ليأكدوا أن المادة التي تُصنع منها البطاقة قابلة للتلف، وبعد 7 سنوات تفقد عمرها الافتراضي، وأنه يجب تعديل بيانات المواطن في الدفاتر والساركي الحكومي، وأن البيانات الجديدة للمواطن يجب أن تضاف يدوياً.. إلخ. تحاول أن تذكرهم أن هذا عكس ما أعلن عنه تماماً، بل عكس ما صنعت من أجله بطاقة الرقم القومي أصلاً، فلا يُجيبك أحد، أما الأكثر عجباً -لو كانت ما زالت لديك مساحة داخلك للتعجب- أن خبراً هاماً كهذا يمسّ المواطن في كافة تعاملاته اليومية، لا يُذكر إلا في الصفحات الداخلية للجرائد وفي خبر صغير في نهاية الصفحة، لا تكلف الحكومة ذاتها بأن تصنع له إعلاناً بسيطاً في التلفاز مثلاً على غرار إعلانات "المواطن اللي على حق" و"احسبها صح"، لا تكلّف ذاتها بإعطاء المواطن فرصة في أي مصلحة أو بنك يدخله، بأن يجروا له المعاملة الخاصة به، ويُحذّروه من ضرورة التجديد قبل المعاملة التالية.. ببساطة.. لقد أدخلنا أسلوب عمل جديد، دون أي دراسة، تحدونا آمال عريضة لتطبيقه واستغلال إيجابياته، ثم تغلبنا العادة المصرية القديمة في تغليب البيروقراطية في كل شيء، فنهدم الأسلوب بأكمله.. عشرات الأمور على هذا المنوال، تعلن الحكومة بحماس عن توفير خدمة دفع فاتورة الهاتف عبر مكاتب البريد لتسهيل الدفع على المواطنين والحد من الزحام، تتحمس للخدمة، وتعمل بها عدة أشهر، ثم تذهب لمكتب البريد لتدفع، فتجد أن القواعد قد تغيّرت، وأن الحكومة ألغت الدفع في مكاتب البريد؛ لأنه يزيد من الزحام، ويُؤخّر الدفع.. مرة أخرى تصرخ لكون هذا الكلام جديداً، وقد قيل عكسه في السابق، فيتهمونك بأنك غير متابع وأن هذا هو الحق الأوحد الذي أعلن منذ العصر الحجري، ولكنك لم تكن هناك لتعرفه. تدخل كليتك الجديدة والكل يُخبرك أن نظام الكلية بسيط، وقد تعيّن معيداً تبعاً لمجموع مواد السنة الدراسية الأخيرة، هذا هو النظام العامل بالكلية للتسهيل على الطلبة، ولكي تتعيّن.. تتحمّس وتدرُس وتحصل على أعلى الدرجات، وتجلس مبتسماً منتظراً قرار التعيين، فتفاجأ بأن التعيين أصبح بناءً على مجموع درجات الأربع سنوات (أيضاً) للتسهيل على الطلبة، فتسأل بجنون: متى صدر هذا القرار؟! لماذا لم يُعلن عنه أحد؟! ومتى تغيّر القرار القديم؟! ولماذا لم يُبلغنا أحد؟! لن تحصل على إجابة فلا حياة لمن تنادي.. القرارات تُصنع وتنقض لدينا بلا أي خُطة، فلا يعرف أحد لماذا صُنعت.. ولا يعرف أحد لماذا تم نقضها؟!! والكارثة أنك مطالب دائماً بأن تكون على علم وتعرف كل شيء، كي لا تقف في مصلحة ما أمام موظف الشباك، فاغراً فاك بدهشة، أو محمر الوجه بغضب، استعداداً لتفجّر شرايينك المخية غيظاً.