محمود المنياوي بغداد (العام 655 من الهجرة): كانت هجمات التتار تقترب من عاصمة الخلافة الإسلامية وكان المستعصم آخر خليفة عباسي قد جيّش الجيوش وأعدّ العُدة لمواجهة التتار، وكان للمستعصم وزير اسمه العلقمي وكان شيعيًّا مغاليا. وقبل مجيء التتار إلى العراق بعام، وقع بين السنة والشيعة ما صنع الحداد، ووصل الأمر إلى القتل وإحراق البيوت ودُور العبادة، وفي خلال هذه الحوادث خرّبت ودمّرت بيوت لأقارب العلقمي فحفظها العلقمي في نفسه منتظرا الفرصة للأخذ بالثأر. وعندما اقترب التتار من بغداد أخذ العلقمي يُضعف من قوة الجيش ويُحيك المؤامرات، فما لبث أن تبقى عشرة آلاف من أصل مئة ألف جندي كان قد أعدّهم الخليفة المستعصم، وعندما أراد الأخير الصلح وأن يترك للتتار نصف خراج العراق على أن يتفادى الحرب، كتب العلقمي لهولاكو وحثّه على رفض الصلح وقتل الخلفية، وأخذ العلقمي ومن معه الأمان من التتار حتى ذكر المؤرخون أنهم حينما دخلوا بغداد لم يكن فيها بيت لم يدمر ويقتل أهله إلا بيت العلقمي ومن والاه (راجع تاريخ البداية والنهاية لأبن كثير ج13). مصر (في 658 من الهجرة) كان التتار قد دخلوا حلب ودمشق وخضع لهم الجميع وكانت الخلافة قد سقطت بسقوط بغداد، واحتاج قطز إلى أموال لإعداد الجيش لمواجهة التتار، ولم يكن الحكام حين ذاك يجبون إلا أموال الزكاة والخراج، فعندما احتاج قطز إلى الأموال تحدث إلى العلماء ومن بينهم الشيخ العز بن عبد السلام وكان شيخ الشافعية، وطلب منه الفتوى أن يجبي أموالا غير المكتوبة في الإسلام (الزكاة والخراج والجزية) يأخذها من الناس ليعدّ بها الجيش فأفتاه العز بن عبد السلام بذلك. وعلى عكس ما هو كان حادثا عندما تقوم الدولة بجباية الأموال وما به من تضييق على الرعية، أقبل المصريون على دفع الأموال وكان تقدّر بدينار واحد عن كل فرد، وخرج النساء والشيوخ الكبار والصغار يدفعون الأموال من أجل أن يدفع عنهم الله هذا البلاء، وتم التعجيل بدفع أموال الزكاة عاما كاملا، وأُخذت أجور الأوقاف الخيرية قبل ميعادها بشهر، وأُخذ من التركات ثلثها. وفي رمضان من نفس هذا العام كان الانتصار بعد أن خرجت الجيوش المصرية مع ما بقى من جنود بلاد الشام ولاقوا التتار في عين جالوت. (راجع تاريخ بن إياس). أحببت أن أذكر هاتين الواقعتين لأنه في وقت المحن تظهر معادن الناس، فهناك من يفضل مصلحته ورأيه ومذهبه على مصلحة الوطن، وهناك من يبيع منزله وأرضه ويضحي بأبنائه من أجل الوطن. فأنت ترى أن العلقمي آثر مصلحته وتعصب لرأيه ومذهبه وتعصب لأقربائه الذين قُتلوا وفضّل كل هذا على الوطن فما نتج من هذا إلا أن دُمرت بغداد، ودخلها التتار وفعلوا بها الأفاعيل ولا يذكر التاريخ العلقمي هذا، ولا أحد يعرفه كثير، ولكن يذكر التاريخ سقوط الخلافة وبغداد. وعلى النقيض يذكر التاريخ انتصار عين جالوت ودور مصر فيه، وبرغم أن كثيرين أيضا لا يذكرهم التاريخ كثيرا ممن افتدوا بأموالهم وأرواحهم من أجل صد هجمة التتار فإنه في النهاية يُذكر أن مصر نجحت في صد هجمتهم. وليس المقصد من حديثى هذا هو تشبيه ما يحدث الآن بعصر التتار، ولكن التذكير بما يجب فعله وقت المحن والشدائد التي تمر بالأمم، ولا أعتقد أن أحدا يختلف معي إذا قلت إننا في أزمة ومحنة شديدة، اختلفت فيها الآراء وراح فيها الأبرياء واختلط الحابل بالنابل، وتمسك كل فرد برأيه معتقدا أنه الصواب وأنه الحق. ولو أن العلقمي هذا كان على حق وأنه يريد القصاص لمن قُتلوا من أبناء مذهبه فهل يبيح له هذا أن يفعل ما فعل؟ وأنا لا أحاول الإسقاط على واقعنا، ولكنني أحاول أن أصل لنوع من التجريد الذي قد يقودنا لسؤال هام.. فهل يبيح لنا سعينا إلى إحقاق الحق أن نأتيه بالباطل؟ بمعني هل يجوز أن نفعل الشر لنصرة الحق؟ هل يجوز أن نتقاتل وكل منا يقول إنه يقاتل "يجاهد" من أجل نصرة الحق؟ إن مما لا شك فيه إن مصلحة الوطن تعلو على ما عداها ومن يتشدقون بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والإنسانية إنما يخفون وراء هذه القيم المنمقة مصالحهم وأهواءهم التي غلبت عليهم سواء مدركين أم غير مدركين، فالقيم لا تطلب لذاتها ولو قال إنه مجتمع يطبّق هذه القيم ويقدسها، ولكن دون دولة تحميها فإن كل هذه القيم لن تكون لها قيمة ولن ينتفع بها أحد. وحتى إذا اختلفنا في تعريف مصلحة الوطن فإن الجميع يؤمنون بأن القتل والحرب والتدمير والحرق والخوف والذعر ليسوا جميعا من مصلحة الوطن في شيء، ومن يطلب الحق فليتسامح ولا يكون كقاتله، يريد أن يستخدم نفس وسيلته، لكن الحقوق تعود بالقانون، والإصلاح يبدأ في وجود الدولة، والخير يسود ما دام هناك عقلاء يزيلون غشاوات التعصب والانتقام من على أعينهم. إن الرسالة واضحة رسالة من بغداد إلى القاهرة تقول للجميع إنه في وقت المحن ووقت الفتن هناك طريقان طريق بغداد الذي فضّله العلقمي وآثر أن ينتقم لأقاربه ومذهبه على أن يدافع عن وطنه، وطريق القاهرة حين خرج أبناؤها لا يدفعون فقط المال ولكن يقدمون أبناءهم فداءً للوطن، فعلينا أن نختار وعلينا أن نعي أنه بالوطن يقام الدين، فعندما سقطت بغداد كان الإسلام شعائره وفروضه ومعتنقوه متخفيين في ظل فوضى التتار، بينما ظل الإسلام عزيزا في القاهرة عندما نصر المسلمون وطنهم وهم حين ذاك ينصرون دينهم أيضا. هذان طريقان يذكرهما التاريخ لمواجهة المحن، فعلى كل منا أن يختار طريقه وأن يكون على قدر أمانة الاختيار.