القافلة ال17، بدء دخول شاحنات المساعدات الإنسانية من مصر إلى قطاع غزة (فيديو)    قرارات صارمة من وزارة التربية والتعليم استعدادًا للعام الدراسي الجديد 20262025 (تعرف عليها)    سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري الإثنين 18-8-2025 بعد الهبوط العالمي الجديد    كل ما تريد معرفته عن مسابقة توظيف بريد الجزائر 2025.. الموعد والشروط وطريقة التسجيل    مصرع سيدة في حادث سير ب شمال سيناء    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    إساءات للذات الإلهية.. جامعة الأزهر فرع أسيوط ترد على شكوى أستاذة عن توقف راتبها    ترامب يهاجم وسائل الإعلام الكاذبة بشأن اختيار مكان انعقاد قمته مع بوتين    "أي حكم يغلط يتحاسب".. خبير تحكيمي يعلق على طرد محمد هاني بمباراة الأهلي وفاركو    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الاثنين 18 أغسطس    تامر عبدالمنعم: «سينما الشعب» تتيح الفن للجميع وتدعم مواجهة التطرف    سعر الذهب في مصر اليوم الاثنين 18-8-2025 مع بداية التعاملات    وصفة مغذية وسهلة التحضير، طريقة عمل كبد الفراخ    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    أحمد إبراهيم يوضح موقفه من أزمة مها أحمد.. ماذا قال؟    قد يكون مؤشر على مشكلة صحية.. أبرز أسباب تورم القدمين    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    إيران تؤكد احترام سيادة لبنان وتعلن دعمها في مواجهة إسرائيل    احتجاجات غاضبة أمام مقر نتنياهو تتحول إلى مواجهات عنيفة    الأمم المتحدة: نصف مليون فلسطيني في غزة مهددون بالمجاعة    أبرز تصريحات رئيس الوزراء خلال لقائه نظيره الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى    الأونروا: ما يحدث في قطاع غزة أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية    موعد فتح باب التقديم لوظائف وزارة الإسكان 2025    أتلتيكو مدريد يسقط أمام إسبانيول بثنائية في الدوري الإسباني    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    أحمد شوبير يكشف موعد عودة إمام عاشور للمشاركة في المباريات مع الأهلي    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    وزارة التربية والتعليم تصدر 24 توجيهًا قبل بدء العام الدراسي الجديد.. تشديدات بشأن الحضور والضرب في المدراس    مصرع طفل أسفل عجلات القطار في أسيوط    التحقيق في مقتل لاعبة جودو برصاص زوجها داخل شقتهما بالإسكندرية    بحضور وزير قطاع الأعمال.. تخرج دفعة جديدة ب «الدراسات العليا في الإدارة»    البنك المصري الخليجي يتصدر المتعاملين الرئيسيين بالبورصة خلال جلسة بداية الأسبوع    سامح حسين يعلن وفاة الطفل حمزة ابن شقيقه عن عمر يناهز ال 4 سنوات    هاجر الشرنوبي تدعو ل أنغام: «ربنا يعفي عنها»    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    إضافة المواليد على بطاقة التموين 2025.. الخطوات والشروط والأوراق المطلوبة (تفاصيل)    انطلاق المؤتمر الدولي السادس ل«تكنولوجيا الأغشية وتطبيقاتها» بالغردقة    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    رئيس "حماية المستهلك": وفرة السلع في الأسواق الضامن لتنظيم الأسعار تلقائيًا    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    متحدث الصحة يفجر مفاجأة بشأن خطف الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية (فيديو)    متحدث الصحة يكشف حقيقة الادعاءات بخطف الأطفال لسرقة أعضائهم    السكة الحديد: تشغيل القطار الخامس لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    أمسية دينية بلمسة ياسين التهامى فى حفل مهرجان القلعة    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    الرمادى: محمد السيد من مصلحته التجديد للزمالك.. وفتوح لا يستحق البيع    ماكرون: بوتين لا يريد السلام بل يريد الاستسلام مع أوكرانيا    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    «الصيف يُلملم أوراقه».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: منخفض جوى قادم    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في واقعة مطاردة طريق الواحات    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دروب الآلام والخيبات في رواية «البلم» للسوري محمد الدعفيس
نشر في صوت البلد يوم 05 - 04 - 2018

لا تنبع قيمة الوطن من المكان، بل من الشعب الذي يعيش فيه، وما يربط بين أفراده من علاقات، وفق دستور وقوانين وأنظمة، تقوم على تنفيذها سلطة مؤتمنة، وأي خلل في هذه المكونات يخدش الوطن والمواطن، ويخضع العلاقة بينهما لمعادلات وحسابات مغايرة، وربما قطيعة مؤقتة أو دائمة. والمرء يتحمل ويصبر من أجل وطنه، وقد يتجرع المرار، ولا يتركه إلا مضطرا بسبب عدو محتل غاصب، أو نظام مستبد ظالم، أو فقر وحرمان. وعندما يتحول الوطن إلى جحيم، وموت مرتقب بين لحظة وأخرى، يصبح الفرار منه ضرورة حياتية. ولكن مهما بلغ المرء خارج وطنه من مكانة وتقدير واحترام وحرية، فسيبقى يشعر بكسر داخله، مسكونا بالغربة والحرمان، فلا مكان أدفأ من حضن الوطن، ولا سماء تظلل حقيقة إلا سماء الوطن!
الاحتراب الداخلي في سوريا، تحول إلى حرب بالوكالة، صراع قوى دولية، لكل منها أجندتها ومصالحها وحساباتها، اتخذت من الساحة السورية ميدانا لها، والشعب السوري هو الضحية، والمنتصر في النهاية هو العدو، والخاسر الأكبر هو الوطن!
ترسم رواية «البلم، منشورات ذات السلاسل، 2018» لمحمد تركي الدعفيس أحد دروب الآلام والشوك للمهاجرين السوريين، عبر تركيا إلى اليونان على أمل إكمال الطريق إلى السويد أو ألمانيا أو غيرهما. وجاءت الرواية مغمسة بالخوف والألم والقهر والمرارة والخيبة وانهيار الأحلام. رواية نجحت في رسم لوحة حزينة مؤلمة لمجموعة من المهاجرين، تحطمت قواربها في كل ميناء، وتحول انتظارها المؤقت في اليونان إلى إقامة طويلة لا أفق منتظر لانتهائها. رواية ترصد جانبا من الحكاية، مؤلما لأصحابه، ومخزيا للعالم الذي يرى ويسمع ويصم أذنيه، متهربا من مسؤولياته، ومتخليا عن إنسانيته «عالم كاذب استدرجنا بدعايته وأبواقه ومبادئه البراقة، وحين غاصت أقدامنا في وحوله تنكر لنا، وانقلب علينا».
الدول تحركها المصالح، لا وجود لمبدأ أو خلق أو دين، وإن وجدت فهي ستار للخداع واستثمار أمثل للفرص، وتعاملها مع المهاجرين مصلحي وعلى المكشوف »نحن مجرد أوراق يلعبون بها حين يريدون… جدوانا بالنسبة لهم تنبع من قدرتهم على الاستفادة منا»، فهناك دول تستقبل المهاجرين، وتسمح لهم بالمغادرة أو تمنعهم لمصلحتها، مثل تركيا التي »تتفاوض لتصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي.. هذه الرغبة تراودها منذ سنوات.. وأخيرا بدأت تفاوض الاتحاد لتضمن لمواطنيها ميزة دخول دوله دون تأشيرات.. لكن التفاوض عادة لا يكون بمجرد الإقناع والحجج المنطقية.. غالبا ما يجتمع معه الضغط أيضا.. ونحن ورقة الضغط… الأمر ببساطة يشبه صنبور الماء.. تركيا تمتلك إمكانية فتح الصنبور أو إغلاقه، ونحن تماما كالماء لا نمتلك من أمرنا إلا التدفق إذا فُتح أو الاحتباس إذا أُغلق.. إنها تفاوض الأوروبيين لتحقيق مصالحها، إن قبلوا وحققوا لها ما تطلب أغلقت الصنبور واحتجزتنا جميعا خلفه، وإن لم يوافقوها فتحته وتركتنا نتدفق».
استغلال المهاجرين
وفي المقابل ثمة دول تتمسك بالمهاجرين وتجبرهم على البقاء أيضا لمصلحتها، فاليونان مثلا »بلد فقير، وغير قادر على تأمين المتطلبات في ظل أزمته الاقتصادية الخانقة، وكلما زاد عدد اللاجئين الذين تبقيهم الحكومة داخل حدود البلد تزداد قدرتها على التسول من الأمم المتحدة والدول الأوروبية باسمهم.. هذه خطة قد تسهم في إنعاش الاقتصاد قليلا، ولذا يعملون عليها، وأنتم وقودها»، وجميع هذه الدول، لا تعير المهاجرين أي اهتمام أو تقدير إلا بما يجلب النفع لها، فالمهاجر عبارة عن سلعة تقايضها الدول من أجل مصالحها دون أي اعتبار لإنسانيتهم وكرامتهم.
تروي رواية «البلم» حكاية عينة من المهاجرين الذين باعوا كل ما يملكون بثمن بخس؛ ليدفعوه إلى المهربين وعمالهم ومكاتبهم وسماسرة التهريب ونقاط التفتيش وتجار الحروب؛ بحثا عن عيش كريم منتظر.
خرجوا من سوريا تهريبا في مغامرة مملوءة بالخوف والآلام، وحطوا رحالهم في إزمير في حالة مزرية من الفوضى وتكدس المهاجرين انتظارا لتهريبهم إلى إحدى الجزر اليونانية. وبعد عدة محاولات، وحجز، والتنقل من مهرب إلى مهرب ركبوا «بلما» قديما صغيرا على غير ما اتفقوا عليه، مع سائق دون خبرة سابقة، يسوقهم إليه أحد عمال المهرب الذي يعاملهم بجلافة، فقد استلموا نقودهم، وليذهب المهاجرون إلى الجحيم «لم يكن هناك وقت حتى للسؤال إلى أين نمضي، فمنذ أن تتفق مع المهرب تسلم قيادك له، تصبح مثل كرة تركلها أقدامه حيث تشاء..
لا وقت للسؤال، ولا حتى للفهم.. تتحول إلى مجرد فرد في قطيع يُساق حيث يشاء مهربه». وبعد رحلة وسط الموج وأنين البلم بأثقاله وتعرضه للتمزق وتدفق المياه داخله وجهل السائق، وتدخل الراوي همام لإنقاذ الموقف، يرافق كل ذلك خوف ورعب وموت يلوح في الأفق، وصلوا إلى شاطئ جزيرة يونانية بعد انفجار البلم على صخور الشاطئ، وسقوط الركاب بعضهم فوق بعض.
حياة برسم الأمل
ومن الجزيرة اليونانية، بدأت رحلة ثانية من العذاب وهدر الإنسانية »فقد كنا في صميم موسم خيبات الأمل المتوالية منذ غادرنا حدود الوطن محملين بأحلام وردية ظننا معها أننا سنمشي لاحقا على بُسط من سندس، وسنتكئ على مفارش من حرير، لكن صراخ العسكري، وهو الوجه الأول الذي قابلناه منذ عبرنا إلى الضفة الثانية من العالم، أوحى إلينا أن تلك الأحلام قد لا تكون أكثر من أضغاث موجعة». ومن مكان إلى مكان ومن تفتيش إلى تفتيش ومن عبارة إلى سفينة إلى حافلات، حطوا رحالهم في مخيم بعيد عن أثينا، في مبنى قديم خارج الخدمة، كان فيما مضى مستشفى للمرضى النفسانيين، كمحطة لرحيلهم إلى دول أخرى، ولكن فوجئوا بأن جدرانا عازلة أقيمت بين اليونان وجاراتها، يحول بينهم وبين وجهتهم، فانكفأوا على أنفسهم، يقتاتون على أحلامهم، انتظارا لقرارات الدول المستضيفة للاجئين التي أشهرت في وجوههم الأعذار والمبررات الواهية التي تتنافى مع تصريحاتها السابقة واستعدادها لاستقبال المهاجرين »اليوم تتخلى أوروبا عن كل شعاراتها الرنانة وتحجزنا خلف أسوار حديدية كما تُحجز الحيوانات، لكنها لم تنتبه إلى أن هذه الأخيرة تُحجز في حدائق الفرجة، بينما نُحجز نحن في العراء! ؟».
في المخيم يعيشون في ظروف قاسية، حيث وُضعت كل أسرتين أو ثلاث في غرفة لا تتجاوز مساحتها خمسة عشر مترا مربعا، وخدمات سيئة، وإدارة يونانية عرفية. تظاهروا واعتصموا واحتجوا وكتبوا وتحدثوا للوفود الزائرة دون جدوى، فقد هربوا من الموت إلى الموت!.
الظروف القاسية وفقدان الأمل وموت الأحلام محكات للبشر، وغالبا ما تؤدي إلى تغيرات لم تكن في الحسبان »ليس هناك أشد وطأة من انكسار الأمل، فهو يغرقك في الحزن إلى حد الاعتياد، ويغلق الأبواب في وجهك، ويطفئ كل الشموع الموقدة في طريقك ويحولها إلى ظلام تتيه فيه الخطوات وتضيع معه البوصلة».
ياسر الذي كان مصدر المرح والضحك، تحول إلى شاب كئيب صامت يلوك ألمه وحيدا »كان المكان يتحول إلى غول يلتهم ضحكاتنا وطموحاتنا، ويقتلنا بكل الهدوء المتاح واحدا إثر الآخر، يتصيّد أجملنا بلا استعجال، وينتقي بكل العناية أولئك الأقدر على نثر التفاؤل في دروب الآخرين، كأنه يتعمد إطفاء البقية الباقية من جذوات الأمل في نفوسنا».
أما نجاح التي أوشكت أن تنفق آخر نقودها، فقد فكرت بامتهان الدعارة لولا أن أنقذها همام في أول طريقها، ووفر لها عملا كريما. وسعيد قرر أن يعود وأسرته أدراجهم إلى سوريا، مما أثار الاستغراب »رحت أتساءل: كيف يمكن لمن عبر برزخ الموت أن يقرر بملء إرادته العودة إلى نقطة البداية؟ وأتصور حجم الإحباط الذي ناله حتى عزم على العودة إلى وطن يفر ناسه من الموت فيه»، أما همام فقد طلق الكامب وأقام في أثينا حيث امتهن رسم الوجوه وكشف أسرارها.
اختتمت الرواية بالوعود المجترة للدول المستضيفة، التي لم يعد يصدقها أحد، وبقاء الحال على ما هو عليه، اللهم إلا مزيدا من المرارة وقلة الحيلة ويباس الأمل »هل عبرنا برزخ الموت لنعاني ولادة متعسرة، ونقف في عنق الرحم، فلا نحن غادرناه لنبصر النور، ولا نحن بقينا مطمئنين فيه؟!
بدا الأمر كأننا مجرد أوراق غادرت أغصانها وسلمت مصائرها للريح تلهو بها كيف تشاء، وتودعها في رحلة أخيرة تنقلها إلى البعيد».
في داخل الرواية روايات وحكايات، فلكل حكايته، فمنهم من يروي ومنهم من يكتم؛ روى همام لنجاح قصة حبه لحياة التي أصبحت خطيبة لأخية الأكبر، فخذل حبه وهرب.
وروت نجاح لهمام قصة يتمها وتحكم زوجة خالها بحياتها وتزويجها مبكرا لجندي فقدته بعد شهرين، ثم خطبتها لشاب في السويد. وروى ياسر مغامراته في أثناء دراسته الجامعية التي أضحكت الحضور وبثت فيهم بعضا من حياة افتقدوها منذ زمن طويل. وفي مونولوج استذكرت سميحة معاناة الناس وفقرهم من خلال ما رواه أبو سليمان صاحب البقالة، واسترجعت رحلة العذاب والخوف من سوريا حتى وصلت إلى إزمير.
تعجز الكلمات عن نقل حقيقة معاناة المهاجرين وآلامهم ومشاعر القهر والإحباط واليأس، ولكن الدعفيس نجح بوضعنا في صورة هذه المعاناة ورحلة العذاب، بلغة شاعرية، وصور موحية مؤثرة، فحولنا من مراقبين إلى مشاركين نتألم لألمهم ونحزن لمصابهم، ونشاركهم الخوف والترقب!
لا تنبع قيمة الوطن من المكان، بل من الشعب الذي يعيش فيه، وما يربط بين أفراده من علاقات، وفق دستور وقوانين وأنظمة، تقوم على تنفيذها سلطة مؤتمنة، وأي خلل في هذه المكونات يخدش الوطن والمواطن، ويخضع العلاقة بينهما لمعادلات وحسابات مغايرة، وربما قطيعة مؤقتة أو دائمة. والمرء يتحمل ويصبر من أجل وطنه، وقد يتجرع المرار، ولا يتركه إلا مضطرا بسبب عدو محتل غاصب، أو نظام مستبد ظالم، أو فقر وحرمان. وعندما يتحول الوطن إلى جحيم، وموت مرتقب بين لحظة وأخرى، يصبح الفرار منه ضرورة حياتية. ولكن مهما بلغ المرء خارج وطنه من مكانة وتقدير واحترام وحرية، فسيبقى يشعر بكسر داخله، مسكونا بالغربة والحرمان، فلا مكان أدفأ من حضن الوطن، ولا سماء تظلل حقيقة إلا سماء الوطن!
الاحتراب الداخلي في سوريا، تحول إلى حرب بالوكالة، صراع قوى دولية، لكل منها أجندتها ومصالحها وحساباتها، اتخذت من الساحة السورية ميدانا لها، والشعب السوري هو الضحية، والمنتصر في النهاية هو العدو، والخاسر الأكبر هو الوطن!
ترسم رواية «البلم، منشورات ذات السلاسل، 2018» لمحمد تركي الدعفيس أحد دروب الآلام والشوك للمهاجرين السوريين، عبر تركيا إلى اليونان على أمل إكمال الطريق إلى السويد أو ألمانيا أو غيرهما. وجاءت الرواية مغمسة بالخوف والألم والقهر والمرارة والخيبة وانهيار الأحلام. رواية نجحت في رسم لوحة حزينة مؤلمة لمجموعة من المهاجرين، تحطمت قواربها في كل ميناء، وتحول انتظارها المؤقت في اليونان إلى إقامة طويلة لا أفق منتظر لانتهائها. رواية ترصد جانبا من الحكاية، مؤلما لأصحابه، ومخزيا للعالم الذي يرى ويسمع ويصم أذنيه، متهربا من مسؤولياته، ومتخليا عن إنسانيته «عالم كاذب استدرجنا بدعايته وأبواقه ومبادئه البراقة، وحين غاصت أقدامنا في وحوله تنكر لنا، وانقلب علينا».
الدول تحركها المصالح، لا وجود لمبدأ أو خلق أو دين، وإن وجدت فهي ستار للخداع واستثمار أمثل للفرص، وتعاملها مع المهاجرين مصلحي وعلى المكشوف »نحن مجرد أوراق يلعبون بها حين يريدون… جدوانا بالنسبة لهم تنبع من قدرتهم على الاستفادة منا»، فهناك دول تستقبل المهاجرين، وتسمح لهم بالمغادرة أو تمنعهم لمصلحتها، مثل تركيا التي »تتفاوض لتصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي.. هذه الرغبة تراودها منذ سنوات.. وأخيرا بدأت تفاوض الاتحاد لتضمن لمواطنيها ميزة دخول دوله دون تأشيرات.. لكن التفاوض عادة لا يكون بمجرد الإقناع والحجج المنطقية.. غالبا ما يجتمع معه الضغط أيضا.. ونحن ورقة الضغط… الأمر ببساطة يشبه صنبور الماء.. تركيا تمتلك إمكانية فتح الصنبور أو إغلاقه، ونحن تماما كالماء لا نمتلك من أمرنا إلا التدفق إذا فُتح أو الاحتباس إذا أُغلق.. إنها تفاوض الأوروبيين لتحقيق مصالحها، إن قبلوا وحققوا لها ما تطلب أغلقت الصنبور واحتجزتنا جميعا خلفه، وإن لم يوافقوها فتحته وتركتنا نتدفق».
استغلال المهاجرين
وفي المقابل ثمة دول تتمسك بالمهاجرين وتجبرهم على البقاء أيضا لمصلحتها، فاليونان مثلا »بلد فقير، وغير قادر على تأمين المتطلبات في ظل أزمته الاقتصادية الخانقة، وكلما زاد عدد اللاجئين الذين تبقيهم الحكومة داخل حدود البلد تزداد قدرتها على التسول من الأمم المتحدة والدول الأوروبية باسمهم.. هذه خطة قد تسهم في إنعاش الاقتصاد قليلا، ولذا يعملون عليها، وأنتم وقودها»، وجميع هذه الدول، لا تعير المهاجرين أي اهتمام أو تقدير إلا بما يجلب النفع لها، فالمهاجر عبارة عن سلعة تقايضها الدول من أجل مصالحها دون أي اعتبار لإنسانيتهم وكرامتهم.
تروي رواية «البلم» حكاية عينة من المهاجرين الذين باعوا كل ما يملكون بثمن بخس؛ ليدفعوه إلى المهربين وعمالهم ومكاتبهم وسماسرة التهريب ونقاط التفتيش وتجار الحروب؛ بحثا عن عيش كريم منتظر.
خرجوا من سوريا تهريبا في مغامرة مملوءة بالخوف والآلام، وحطوا رحالهم في إزمير في حالة مزرية من الفوضى وتكدس المهاجرين انتظارا لتهريبهم إلى إحدى الجزر اليونانية. وبعد عدة محاولات، وحجز، والتنقل من مهرب إلى مهرب ركبوا «بلما» قديما صغيرا على غير ما اتفقوا عليه، مع سائق دون خبرة سابقة، يسوقهم إليه أحد عمال المهرب الذي يعاملهم بجلافة، فقد استلموا نقودهم، وليذهب المهاجرون إلى الجحيم «لم يكن هناك وقت حتى للسؤال إلى أين نمضي، فمنذ أن تتفق مع المهرب تسلم قيادك له، تصبح مثل كرة تركلها أقدامه حيث تشاء..
لا وقت للسؤال، ولا حتى للفهم.. تتحول إلى مجرد فرد في قطيع يُساق حيث يشاء مهربه». وبعد رحلة وسط الموج وأنين البلم بأثقاله وتعرضه للتمزق وتدفق المياه داخله وجهل السائق، وتدخل الراوي همام لإنقاذ الموقف، يرافق كل ذلك خوف ورعب وموت يلوح في الأفق، وصلوا إلى شاطئ جزيرة يونانية بعد انفجار البلم على صخور الشاطئ، وسقوط الركاب بعضهم فوق بعض.
حياة برسم الأمل
ومن الجزيرة اليونانية، بدأت رحلة ثانية من العذاب وهدر الإنسانية »فقد كنا في صميم موسم خيبات الأمل المتوالية منذ غادرنا حدود الوطن محملين بأحلام وردية ظننا معها أننا سنمشي لاحقا على بُسط من سندس، وسنتكئ على مفارش من حرير، لكن صراخ العسكري، وهو الوجه الأول الذي قابلناه منذ عبرنا إلى الضفة الثانية من العالم، أوحى إلينا أن تلك الأحلام قد لا تكون أكثر من أضغاث موجعة». ومن مكان إلى مكان ومن تفتيش إلى تفتيش ومن عبارة إلى سفينة إلى حافلات، حطوا رحالهم في مخيم بعيد عن أثينا، في مبنى قديم خارج الخدمة، كان فيما مضى مستشفى للمرضى النفسانيين، كمحطة لرحيلهم إلى دول أخرى، ولكن فوجئوا بأن جدرانا عازلة أقيمت بين اليونان وجاراتها، يحول بينهم وبين وجهتهم، فانكفأوا على أنفسهم، يقتاتون على أحلامهم، انتظارا لقرارات الدول المستضيفة للاجئين التي أشهرت في وجوههم الأعذار والمبررات الواهية التي تتنافى مع تصريحاتها السابقة واستعدادها لاستقبال المهاجرين »اليوم تتخلى أوروبا عن كل شعاراتها الرنانة وتحجزنا خلف أسوار حديدية كما تُحجز الحيوانات، لكنها لم تنتبه إلى أن هذه الأخيرة تُحجز في حدائق الفرجة، بينما نُحجز نحن في العراء! ؟».
في المخيم يعيشون في ظروف قاسية، حيث وُضعت كل أسرتين أو ثلاث في غرفة لا تتجاوز مساحتها خمسة عشر مترا مربعا، وخدمات سيئة، وإدارة يونانية عرفية. تظاهروا واعتصموا واحتجوا وكتبوا وتحدثوا للوفود الزائرة دون جدوى، فقد هربوا من الموت إلى الموت!.
الظروف القاسية وفقدان الأمل وموت الأحلام محكات للبشر، وغالبا ما تؤدي إلى تغيرات لم تكن في الحسبان »ليس هناك أشد وطأة من انكسار الأمل، فهو يغرقك في الحزن إلى حد الاعتياد، ويغلق الأبواب في وجهك، ويطفئ كل الشموع الموقدة في طريقك ويحولها إلى ظلام تتيه فيه الخطوات وتضيع معه البوصلة».
ياسر الذي كان مصدر المرح والضحك، تحول إلى شاب كئيب صامت يلوك ألمه وحيدا »كان المكان يتحول إلى غول يلتهم ضحكاتنا وطموحاتنا، ويقتلنا بكل الهدوء المتاح واحدا إثر الآخر، يتصيّد أجملنا بلا استعجال، وينتقي بكل العناية أولئك الأقدر على نثر التفاؤل في دروب الآخرين، كأنه يتعمد إطفاء البقية الباقية من جذوات الأمل في نفوسنا».
أما نجاح التي أوشكت أن تنفق آخر نقودها، فقد فكرت بامتهان الدعارة لولا أن أنقذها همام في أول طريقها، ووفر لها عملا كريما. وسعيد قرر أن يعود وأسرته أدراجهم إلى سوريا، مما أثار الاستغراب »رحت أتساءل: كيف يمكن لمن عبر برزخ الموت أن يقرر بملء إرادته العودة إلى نقطة البداية؟ وأتصور حجم الإحباط الذي ناله حتى عزم على العودة إلى وطن يفر ناسه من الموت فيه»، أما همام فقد طلق الكامب وأقام في أثينا حيث امتهن رسم الوجوه وكشف أسرارها.
اختتمت الرواية بالوعود المجترة للدول المستضيفة، التي لم يعد يصدقها أحد، وبقاء الحال على ما هو عليه، اللهم إلا مزيدا من المرارة وقلة الحيلة ويباس الأمل »هل عبرنا برزخ الموت لنعاني ولادة متعسرة، ونقف في عنق الرحم، فلا نحن غادرناه لنبصر النور، ولا نحن بقينا مطمئنين فيه؟!
بدا الأمر كأننا مجرد أوراق غادرت أغصانها وسلمت مصائرها للريح تلهو بها كيف تشاء، وتودعها في رحلة أخيرة تنقلها إلى البعيد».
في داخل الرواية روايات وحكايات، فلكل حكايته، فمنهم من يروي ومنهم من يكتم؛ روى همام لنجاح قصة حبه لحياة التي أصبحت خطيبة لأخية الأكبر، فخذل حبه وهرب.
وروت نجاح لهمام قصة يتمها وتحكم زوجة خالها بحياتها وتزويجها مبكرا لجندي فقدته بعد شهرين، ثم خطبتها لشاب في السويد. وروى ياسر مغامراته في أثناء دراسته الجامعية التي أضحكت الحضور وبثت فيهم بعضا من حياة افتقدوها منذ زمن طويل. وفي مونولوج استذكرت سميحة معاناة الناس وفقرهم من خلال ما رواه أبو سليمان صاحب البقالة، واسترجعت رحلة العذاب والخوف من سوريا حتى وصلت إلى إزمير.
تعجز الكلمات عن نقل حقيقة معاناة المهاجرين وآلامهم ومشاعر القهر والإحباط واليأس، ولكن الدعفيس نجح بوضعنا في صورة هذه المعاناة ورحلة العذاب، بلغة شاعرية، وصور موحية مؤثرة، فحولنا من مراقبين إلى مشاركين نتألم لألمهم ونحزن لمصابهم، ونشاركهم الخوف والترقب!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.