وزيرة التخطيط تبحث مع «هواوي» التوسع في الاستثمارات وتعزيز التحول الرقمي    الرقابة المالية تلغي تراخيص 258 جمعية ومؤسسة أهلية    الهلال الأحمر: قافلة «زاد العزة» ال73 تحمل نحو 9300 طن مساعدات للفلسطينيين    بينهم طالب بكلية الطب.. مقتل 3 مسجلين خطر وإصابة ضابط شرطة داخل سيارة ملاكى بسوهاج    كاملة ابو ذكري: خالد النبوي فنان كبير ومحظوظة بالعمل معه في «واحة الغروب»    اليوم.. افتتاح أكاديمية الفنون فى الإسكندرية    وزير الصحة يكشف مفاجأة عن متوسط أعمار المصريين    السكة الحديد: 10 آلاف كيلومتر طول الشبكة.. ومتوسط الرحلات اليومية ألف قطار    بني سويف: زراعة 33 ألفا و267 فدانا بمحصول بنجر السكر بالمحافظة    محافظ الفيوم يوجه بسرعة التعامل مع الانهيار الجزئي بطريق كفر محفوظ طامية    وكيل تعليم كفر الشيخ يتفقد مدارس إدارة شرق.. ويؤكد استمرار المتابعة    توتر شديد وغضب، اجتماع درامي لحكومة الاحتلال ونتنياهو يقرر معاقبة وزرائه    حماس: المقاومة تسلمت قائمة بأسماء 1468 أسيرا من قطاع غزة    القاهرة الإخبارية: اشتباكات بين الجيش السوداني والدعم السريع بغرب كردفان    ليفربول يزاحم مانشستر سيتي على ضم سيمينيو    أشرف صبحي يشهد النسخة الثانية من أولمبياد الصحفيين    الكونغ فو يضمن 5 ميداليات في دورة ألعاب التضامن الإسلامي بالرياض    وزارة «التضامن» تقر قيد 5 جمعيات في 4 محافظات    القبض على متهمين بالاعتداء على فتاتين في كرداسة    مواعيد وضوابط امتحانات شهر نوفمبر لطلاب صفوف النقل    «الإسماعيلية الأهلية» تهنئ بطل العالم في سباحة الزعانف    10 مبادئ قضائية لمن له حق الحضانة للصغير بحكم القانون    النبوي: شخصية "السادات" في مسرحية كامب ديفيد "وترتني".. وكدت انسحب لهذا السبب    المتحف المصري الكبير يعتمد نظام حجز المواعيد المسبقة إلكترونيا بالكامل ابتداء من ديسمبر    10 محظورات خلال الدعاية الانتخابية لمرشحي مجلس النواب 2025.. تعرف عليها    جامعة قناة السويس تُطلق مؤتمر الجودة العالمي تحت شعار «اتحضّر للأخضر»    حقه يكمل مشواره| شوبير يدافع عن حسام حسن قبل مباراة مصر وكاب فيردي    إعتماد المخطط العام لأرض مشروع «عربية للتنمية والتطوير العمراني» بالشيخ زايد    مصر وتشاد يبحثان خارطة طريق لتعزيز الاستثمار المشترك في الثروة الحيوانية    "القومي للأشخاص ذوي الإعاقة" يواصل تنظيم فعاليات المبادرة القومية "أسرتي قوتي" في الإسكندرية    عظيم ومبهر.. الفنانة التشيكية كارينا كوتوفا تشيد بالمتحف المصري الكبير    "الداخلية" تصدر 3 قرارات بإبعاد أجانب خارج البلاد لدواعٍ تتعلق بالصالح العام    سماء الأقصر تشهد عودة تحليق البالون الطائر بخروج 65 رحلة على متنها 1800 سائح    انطلاق أسبوع الصحة النفسية لصقل خبرات الطلاب في التعامل مع ضغوط الحياة    برنامج بطب قصر العينى يجمع بين المستجدات الجراحية الحديثة والتطبيقات العملية    إخماد حريق نشب داخل شقة سكنية دون إصابات في الهرم    حالة الطقس في السعودية اليوم الأحد.. أمطار رعدية غزيرة وتحذيرات من السيول    الفسطاط من تلال القمامة إلى قمم الجمال    الإفتاء تواصل مجالسها الإفتائية الأسبوعية وتجيب عن أسئلة الجمهور الشرعية    «البيئة» تشن حملة موسعة لحصر وجمع طيور البجع بطريق السخنة    تقرير: أرسنال قلق بسبب إصابتي جابريال وكالافيوري قبل مواجهة توتنام    الأوقاف تعلن عن المقابلات الشفوية للراغبين في الحصول على تصريح خطابة بنظام المكافأة    كفاية دهسا للمواطن، خبير غذاء يحذر الحكومة من ارتفاع الأسعار بعد انخفاض استهلاك المصريين للحوم    متحدث الصحة: ملف صحى إلكترونى موحد لكل مواطن بحلول 2030    مصر ترحب باتفاق الدوحة الإطاري للسلام بين جمهورية الكونجو الديموقراطية وحركة M23    الرياضية: أهلي جدة يفتح ملف تجديد عقد حارس الفريق إدوارد ميندي    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للمشروع التكتيكي بالذخيرة الحية في المنطقة الغربية    إصابة العشرات بعد اندلاع اشتباكات في المكسيك وسط احتجاجات الجيل زد    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 16نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا..... اعرف مواقيت صلاتك    محمد فراج يشعل تريند جوجل بعد انفجار أحداث "ورد وشيكولاتة".. وتفاعل واسع مع أدائه المربك للأعصاب    فيلم شكوى 713317 معالجة درامية هادئة حول تعقيدات العلاقات الإنسانية    بريطانيا تجرى أكبر تغيير فى سياستها المتعلقة بطالبى اللجوء فى العصر الحديث    حامد حمدان يفضل الأهلي على الزمالك والراتب يحسم وجهته    كمال درويش يروي قصة مؤثرة عن محمد صبري قبل رحيله بساعات    محمود حسن تريزيجيه: الانضباط والاحترام أساس تكوين شخصية لاعب الأهلي    هل تشفي سورة الفاتحة من الأمراض؟.. داعية توضح| فيديو    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    الإفتاء: لا يجوز العدول عن الوعد بالبيع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«رجل المبيعات» للإيراني أصغر فرهادي
نشر في صوت البلد يوم 11 - 02 - 2018

تاتي السينما الإيرانية دائما بمذاق مختلف، يتأتى من طبيعة الرؤية الفنية التي تحكمها، والفكر الذي يقودها، والجماليات التي تطرحها. إنها مختلفة عما يقدم في السينما العالمية، فهي معبأة بحس ديني إسلامي، يتبدى في حفاظ صنّاع الأفلام على المرأة محجبة، وعلى مشاهد من الصلوات، والأذكار الدينية، والأهم التصاقها بالشعب والإنسان: هموما ومشاهد وتفاصيل وجزئيات. أما الجماليات فهي نابعة من براعة استخدام الكاميرا وتركيز الضوء على التفاصيل الدقيقة، والعناية التامة بالمشاعر الإنسانية، والغوص في أعماق الشخصيات.
ويأتي فيلم «رجل المبيعات» ( 2016 )، للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، محملا بهذه الروح، مع إضافة روح جديدة، ونص سينمائي مختلف، متعقد بتعقد الحياة وتكوين الشخصيات وما صادفته من أحداث، والأجمل في هذا النص أنه يأتي عكس ما هو متوقع، بل تكاد بنية الفيلم وأحداثه وعلاماته تخالف ما قد يتبادر إلى الذهن، بدءا من العنوان، ومرورا بالأحداث، وما هو متوقع من الشخصيات، ثم النهاية التي جاءت صادمة.
القراءة لهذا الفيلم تستند إلى الاشتباك المباشر والمقطع مع أحداثه وشخصياته، وهو اشتباك قد يمتد إلى ما هو خارج الفيلم، حيث إن هناك نصوصا أخرى تتوازى معه، مثلما تتقاطع مع ميدان السياسة التي مهما نأت السينما عنها، فإن السياسة بطبيعتها تطاردها، وتلك من مفارقات السياسة والفن وتناقضاتهما في آن، فكل من السينما والسياسة وجهان لعملة واحدة في تعاملهما مع الواقع، السياسة تصنع واقعا وتؤثر فيه، والسينما تعبر عن هذا الواقع وتنتقد السياسة، وكلاهما في حاجة إلى مناخ من الحريات يجعل الواقع ميدانا لتلاقي السينما بوصفها فنا وتعبيرا، والسياسة بوصفها أحداثا ومجريات وقرارات، وتلك المعضلة لا تتوافر في بلاد العالم الثالث بشكل كبير، بل تتفاوت في ما بينها، حسب مساحة الحريات.
العولمة والسياسة
نرى في العالم الروائي للفيلم ومن خلال مشاهده الأولى، وصفا لأجواء العاصمة الإيرانية «طهران»، وركضها المتسارع نحو العمران الحديث، عبر أبنية تتطاول ارتفاعا، وتتعاظم عددا، تخفي في طيات شققها آلاف الأسر والنفوس والعقول والأفئدة، مختلفة النوازع والاتجاهات، مثلما هي الحال المدن في عالمنا الحديث، الذي يتسارع نحو العولمة، شاء أهله أم أبوا، فحركة الحداثة العمرانية لا تعرف مشاعر بقدر ما تعرف رؤوس الأموال. فعلامات العولمة باتت معلومة: ناطحات سحاب، شوارع واسعة ممتدة، إعلانات متحركة، مطاعم أمريكية، حياة متسارعة الإيقاع، الكل يلهث فيها خلف المادة، كي يشبع ما يراه بعينيه من إغراءات العولمة.
حاز الفيلم جائزة الأوسكار في الولايات المتحدة الأمريكية، ورفض مخرجه وكذلك ممثلوه وصانعوه الحضور لحفل الأوسكار في نهاية عام 2016، إدانةً منهم لقرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورفضه دخول مواطني دول عديدة كلها إسلامية إلى الولايات المتحدة، ومنها دولة إيران: الغريم القديم الجديد. ويبدو أن السياسة الدولية لا يمكن أن تهدأ بخصوص هذا الصراع، فقد هدأت الأمور قليلا مع توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، ولكنها عادت للاشتعال مجددا مع تولي ترامب، فيظل المشهد مستمرا بكل صراعاته.
وبدون النظر إلى هذا الموقف السياسي وما يرتبط به من تفسيرات، قد تتناقض أو تتلاقى معه، فإنها تظل في النهاية خاضعة لتقلبات الساسة والسياسة، إلا أن السينما الإيرانية تظل متميزة في صناعتها وجمالياتها، مهما قيل عن طبيعة الجوائز الغربية الممنوحة لمخرجيها وفنانيها، وأنها تعطى لمن يتواءم فكريا مع الغرب، أو كنوع من المماحكة السياسية ضد إيران، فالثابت أن السينما الإيرانية احتلت مكانة عالمية يصعب تجاهلها أو اتهامها، وصارت لها بصمتها الخاصة.
نصان يتوازيان وعنوان مفارق
فيلم « رجل المبيعات» غني في مضمونه وجمالياته، لأنه لم يتجه مثل أفلام إيرانية كثيرة نحو الريف أو القرى أو هوامش المدن وأحزمة الفقر حولها، وإنما اتجه نحو قلب المدينة/ العاصمة رأسا، من خلال عائلة صغيرة مكونة من زوج يدعى عماد وهو الممثل شهاب حسيني، وزوجته رانا، وهي الممثلة ترانة عليدوستي، وهما بلا أولاد، مثقفان حالمان، يعيشان وسط طهران الصاخبة، المكدسة ب (16) مليون نسمة، ذات يوم، يعمل عماد معلما للتاريخ في مدرسة ثانوية صباحا، وفي فرقة مسرحية متواضعة مساء، وتشاركه العمل المسرحي زوجته رانا، وتدور أحداث الفيلم خلال أدائهما لنص مسرحي عالمي شهير «موت بائع متجول»، الذي أنتج عام 1949، للكاتب المسرحي البريطاني آرثر ميلر وقد فاز في ما بعد بجائزة البوليتزر المرموقة عن فرع الدراما، ثم تحولت لأفلام كثيرة أبرزها فيلم يحمل العنوان نفسه صدر عام 1985، من بطولة الممثل داستن هوفمان.
لقد رأينا طيلة أحداث الفيلم الإيراني مشاهد من هذه المسرحية ممثلة على خشبة المسرح، وبأداء يشارك فيه عماد نفسه وزوجته معه، لتكون المحصلة المرئية: أننا أمام نصين: نص الفيلم الأساسي عن حياة عماد وزوجته، وما طرأ عليه ما من مفاجآت أليمة، ونص تمثيلي يؤديانه أيضا، والروابط بين النصين قائمة، أولها عنوان الفيلم نفسه، الذي لا يمكن فهمه أبدا من خلال شخصية عماد، فلم نره بائعا أو تاجرا. وثانيها: فقرات درامية من المسرحية ذاتها، نجد أنها تتلاقى مع حياة عماد وزوجته. ومن هنا، فإن عنوان الفيلم يحيلنا بالضرورة إلى مسرحية ميلر، كي نفهم أن الفيلم عزف بشكل مختلف على الطرح الفكري للمسرحية، الذي يتجاوز أحداث الفيلم ذاتها، ليؤكد لنا أن إنسان العولمة الحالي ما هو إلا رجل للمبيعات، كلٌ يبيع حسب تخصصه، المهم أن يبيع وأن يربح، ليعيش في عصر العولمة بكل مادياته. فيكون السؤال: هل بالفعل أننا تحولنا لكائنات مادية نفعية بائعة؟
الاغتصاب الحدث والدلالة
تشكل حادثة الاغتصاب محورا مهما في أحداث الفيلم، وتبدأ باستيقاظ الزوجين صباحا على أعمال حفر وإنشاءات بجوار البناية التي يقطنان فيها، ومن ثم تهتز عمارتهما السكنية، وتتصدع ويسمعان صوت النوافذ وهي تتشقق. يهرع عماد وزوجته هاربين من المبنى، بحثا عن ملاذ جديد لهما، وما إن تستقر أقدامهما في الشارع، حتى يعود عماد ثانية إلى عمارته السكنية المتصدعة، لينجد سيدة عجوز، في إشارة إلى طبيعة السينما الإيرانية التي تجعل للقيم الإنسانية الخيرية مكانا دائما لها، وفي الوقت نفسه تشير إلى حقارة الإنسان، وكأنها تقدم الإنسان متناقضا: خيريا وسلبيا ونفعيا، وإن انتصرت للبعد الأول.
يستقر الحال بالزوجين في شقة جديدة، دلهما عليها أحد أصدقائهما، حيث تتعرض زوجته للاغتصاب وهي تستحم في دورة المياه، عندما تسمع صوتا، فتظن أنه زوجها، وما كان إلا لرجل كان يقطن الشقة من قبل، ومعه المفتاح، وعندما يدخل إلى الشقة ويجد الزوجة في الحمام فإنه يرتكب الفعل الفاحش، ثم يهرب بعدما غابت الزوجة عن الوعي فلم تر وجهه، ويكتشف عماد المأساة عندما يعود ويجد آثار الجريمة، وزوجته في حالة إعياء شديدة. ثم تطورت الأحداث بعد ذلك، بحثا عن المغتصب، الذي سنعرف بعد ذلك أنه رجل كبير في السن.
لم ترد أي تفاصيل لمشهد الاغتصاب على نحو ما نجد في الأفلام الغربية والعربية، بل كل ما رأيناه هو دم في الحمام فقط لا غير.
ظهر الزوج حريصا على ستر زوجته، على الرغم من حالة الجفاف العاطفي التي كانت مسيطرة عليهما خلال هذه الفترة، ومثابرا على استرداد كرامة زوجته، والانتقام بشكل مختلف ممن ارتكب الجرم، فيبدأ في الشك في كل الأشخاص الذين حوله: مثل باباك زميله في المسرح، والسيدة المستأجرة القديمة، وعامل المخبز، بل إنه يعامل بقسوة تلميذًا لديه في الصف على تصرف أخرق بدَرَ منه، ويستغل دوره على المسرح في سب وإهانة باباك بطريقة فهمها الأخير، لكن الجمهور اعتقد أنها جزء من المسرحية. حتى يتوصل في النهاية إلى المغتصب فيحبسه، ثم يحضر أسرته، ويفضحه أمام زوجته وأولاده، ويرى أن ذلك كاف كعقاب، فقد أذله وحقّره أمام الناس، خاصة أسرته، وتركه يغادر بدون أن يبلغ الشرطة عنه. لينتهي الفيلم بنوبة قلبية تنتاب الرجل المغتصب، الذي وجد احتقارا في أعين من حوله، فهاجمه المرض بشدة، واستسلم الرجل للأزمة، لعلها يجد فيها ملاذا للموت، هربا من مستقبل يكون محتَقَرا فيه.
.....
٭ أكاديمي مصري
تاتي السينما الإيرانية دائما بمذاق مختلف، يتأتى من طبيعة الرؤية الفنية التي تحكمها، والفكر الذي يقودها، والجماليات التي تطرحها. إنها مختلفة عما يقدم في السينما العالمية، فهي معبأة بحس ديني إسلامي، يتبدى في حفاظ صنّاع الأفلام على المرأة محجبة، وعلى مشاهد من الصلوات، والأذكار الدينية، والأهم التصاقها بالشعب والإنسان: هموما ومشاهد وتفاصيل وجزئيات. أما الجماليات فهي نابعة من براعة استخدام الكاميرا وتركيز الضوء على التفاصيل الدقيقة، والعناية التامة بالمشاعر الإنسانية، والغوص في أعماق الشخصيات.
ويأتي فيلم «رجل المبيعات» ( 2016 )، للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، محملا بهذه الروح، مع إضافة روح جديدة، ونص سينمائي مختلف، متعقد بتعقد الحياة وتكوين الشخصيات وما صادفته من أحداث، والأجمل في هذا النص أنه يأتي عكس ما هو متوقع، بل تكاد بنية الفيلم وأحداثه وعلاماته تخالف ما قد يتبادر إلى الذهن، بدءا من العنوان، ومرورا بالأحداث، وما هو متوقع من الشخصيات، ثم النهاية التي جاءت صادمة.
القراءة لهذا الفيلم تستند إلى الاشتباك المباشر والمقطع مع أحداثه وشخصياته، وهو اشتباك قد يمتد إلى ما هو خارج الفيلم، حيث إن هناك نصوصا أخرى تتوازى معه، مثلما تتقاطع مع ميدان السياسة التي مهما نأت السينما عنها، فإن السياسة بطبيعتها تطاردها، وتلك من مفارقات السياسة والفن وتناقضاتهما في آن، فكل من السينما والسياسة وجهان لعملة واحدة في تعاملهما مع الواقع، السياسة تصنع واقعا وتؤثر فيه، والسينما تعبر عن هذا الواقع وتنتقد السياسة، وكلاهما في حاجة إلى مناخ من الحريات يجعل الواقع ميدانا لتلاقي السينما بوصفها فنا وتعبيرا، والسياسة بوصفها أحداثا ومجريات وقرارات، وتلك المعضلة لا تتوافر في بلاد العالم الثالث بشكل كبير، بل تتفاوت في ما بينها، حسب مساحة الحريات.
العولمة والسياسة
نرى في العالم الروائي للفيلم ومن خلال مشاهده الأولى، وصفا لأجواء العاصمة الإيرانية «طهران»، وركضها المتسارع نحو العمران الحديث، عبر أبنية تتطاول ارتفاعا، وتتعاظم عددا، تخفي في طيات شققها آلاف الأسر والنفوس والعقول والأفئدة، مختلفة النوازع والاتجاهات، مثلما هي الحال المدن في عالمنا الحديث، الذي يتسارع نحو العولمة، شاء أهله أم أبوا، فحركة الحداثة العمرانية لا تعرف مشاعر بقدر ما تعرف رؤوس الأموال. فعلامات العولمة باتت معلومة: ناطحات سحاب، شوارع واسعة ممتدة، إعلانات متحركة، مطاعم أمريكية، حياة متسارعة الإيقاع، الكل يلهث فيها خلف المادة، كي يشبع ما يراه بعينيه من إغراءات العولمة.
حاز الفيلم جائزة الأوسكار في الولايات المتحدة الأمريكية، ورفض مخرجه وكذلك ممثلوه وصانعوه الحضور لحفل الأوسكار في نهاية عام 2016، إدانةً منهم لقرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورفضه دخول مواطني دول عديدة كلها إسلامية إلى الولايات المتحدة، ومنها دولة إيران: الغريم القديم الجديد. ويبدو أن السياسة الدولية لا يمكن أن تهدأ بخصوص هذا الصراع، فقد هدأت الأمور قليلا مع توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، ولكنها عادت للاشتعال مجددا مع تولي ترامب، فيظل المشهد مستمرا بكل صراعاته.
وبدون النظر إلى هذا الموقف السياسي وما يرتبط به من تفسيرات، قد تتناقض أو تتلاقى معه، فإنها تظل في النهاية خاضعة لتقلبات الساسة والسياسة، إلا أن السينما الإيرانية تظل متميزة في صناعتها وجمالياتها، مهما قيل عن طبيعة الجوائز الغربية الممنوحة لمخرجيها وفنانيها، وأنها تعطى لمن يتواءم فكريا مع الغرب، أو كنوع من المماحكة السياسية ضد إيران، فالثابت أن السينما الإيرانية احتلت مكانة عالمية يصعب تجاهلها أو اتهامها، وصارت لها بصمتها الخاصة.
نصان يتوازيان وعنوان مفارق
فيلم « رجل المبيعات» غني في مضمونه وجمالياته، لأنه لم يتجه مثل أفلام إيرانية كثيرة نحو الريف أو القرى أو هوامش المدن وأحزمة الفقر حولها، وإنما اتجه نحو قلب المدينة/ العاصمة رأسا، من خلال عائلة صغيرة مكونة من زوج يدعى عماد وهو الممثل شهاب حسيني، وزوجته رانا، وهي الممثلة ترانة عليدوستي، وهما بلا أولاد، مثقفان حالمان، يعيشان وسط طهران الصاخبة، المكدسة ب (16) مليون نسمة، ذات يوم، يعمل عماد معلما للتاريخ في مدرسة ثانوية صباحا، وفي فرقة مسرحية متواضعة مساء، وتشاركه العمل المسرحي زوجته رانا، وتدور أحداث الفيلم خلال أدائهما لنص مسرحي عالمي شهير «موت بائع متجول»، الذي أنتج عام 1949، للكاتب المسرحي البريطاني آرثر ميلر وقد فاز في ما بعد بجائزة البوليتزر المرموقة عن فرع الدراما، ثم تحولت لأفلام كثيرة أبرزها فيلم يحمل العنوان نفسه صدر عام 1985، من بطولة الممثل داستن هوفمان.
لقد رأينا طيلة أحداث الفيلم الإيراني مشاهد من هذه المسرحية ممثلة على خشبة المسرح، وبأداء يشارك فيه عماد نفسه وزوجته معه، لتكون المحصلة المرئية: أننا أمام نصين: نص الفيلم الأساسي عن حياة عماد وزوجته، وما طرأ عليه ما من مفاجآت أليمة، ونص تمثيلي يؤديانه أيضا، والروابط بين النصين قائمة، أولها عنوان الفيلم نفسه، الذي لا يمكن فهمه أبدا من خلال شخصية عماد، فلم نره بائعا أو تاجرا. وثانيها: فقرات درامية من المسرحية ذاتها، نجد أنها تتلاقى مع حياة عماد وزوجته. ومن هنا، فإن عنوان الفيلم يحيلنا بالضرورة إلى مسرحية ميلر، كي نفهم أن الفيلم عزف بشكل مختلف على الطرح الفكري للمسرحية، الذي يتجاوز أحداث الفيلم ذاتها، ليؤكد لنا أن إنسان العولمة الحالي ما هو إلا رجل للمبيعات، كلٌ يبيع حسب تخصصه، المهم أن يبيع وأن يربح، ليعيش في عصر العولمة بكل مادياته. فيكون السؤال: هل بالفعل أننا تحولنا لكائنات مادية نفعية بائعة؟
الاغتصاب الحدث والدلالة
تشكل حادثة الاغتصاب محورا مهما في أحداث الفيلم، وتبدأ باستيقاظ الزوجين صباحا على أعمال حفر وإنشاءات بجوار البناية التي يقطنان فيها، ومن ثم تهتز عمارتهما السكنية، وتتصدع ويسمعان صوت النوافذ وهي تتشقق. يهرع عماد وزوجته هاربين من المبنى، بحثا عن ملاذ جديد لهما، وما إن تستقر أقدامهما في الشارع، حتى يعود عماد ثانية إلى عمارته السكنية المتصدعة، لينجد سيدة عجوز، في إشارة إلى طبيعة السينما الإيرانية التي تجعل للقيم الإنسانية الخيرية مكانا دائما لها، وفي الوقت نفسه تشير إلى حقارة الإنسان، وكأنها تقدم الإنسان متناقضا: خيريا وسلبيا ونفعيا، وإن انتصرت للبعد الأول.
يستقر الحال بالزوجين في شقة جديدة، دلهما عليها أحد أصدقائهما، حيث تتعرض زوجته للاغتصاب وهي تستحم في دورة المياه، عندما تسمع صوتا، فتظن أنه زوجها، وما كان إلا لرجل كان يقطن الشقة من قبل، ومعه المفتاح، وعندما يدخل إلى الشقة ويجد الزوجة في الحمام فإنه يرتكب الفعل الفاحش، ثم يهرب بعدما غابت الزوجة عن الوعي فلم تر وجهه، ويكتشف عماد المأساة عندما يعود ويجد آثار الجريمة، وزوجته في حالة إعياء شديدة. ثم تطورت الأحداث بعد ذلك، بحثا عن المغتصب، الذي سنعرف بعد ذلك أنه رجل كبير في السن.
لم ترد أي تفاصيل لمشهد الاغتصاب على نحو ما نجد في الأفلام الغربية والعربية، بل كل ما رأيناه هو دم في الحمام فقط لا غير.
ظهر الزوج حريصا على ستر زوجته، على الرغم من حالة الجفاف العاطفي التي كانت مسيطرة عليهما خلال هذه الفترة، ومثابرا على استرداد كرامة زوجته، والانتقام بشكل مختلف ممن ارتكب الجرم، فيبدأ في الشك في كل الأشخاص الذين حوله: مثل باباك زميله في المسرح، والسيدة المستأجرة القديمة، وعامل المخبز، بل إنه يعامل بقسوة تلميذًا لديه في الصف على تصرف أخرق بدَرَ منه، ويستغل دوره على المسرح في سب وإهانة باباك بطريقة فهمها الأخير، لكن الجمهور اعتقد أنها جزء من المسرحية. حتى يتوصل في النهاية إلى المغتصب فيحبسه، ثم يحضر أسرته، ويفضحه أمام زوجته وأولاده، ويرى أن ذلك كاف كعقاب، فقد أذله وحقّره أمام الناس، خاصة أسرته، وتركه يغادر بدون أن يبلغ الشرطة عنه. لينتهي الفيلم بنوبة قلبية تنتاب الرجل المغتصب، الذي وجد احتقارا في أعين من حوله، فهاجمه المرض بشدة، واستسلم الرجل للأزمة، لعلها يجد فيها ملاذا للموت، هربا من مستقبل يكون محتَقَرا فيه.
.....
٭ أكاديمي مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.