تعطيل الامتحانات بجامعة الإسكندرية اليوم بسبب سوء الأحوال الجوية    ماكرون يهدد إسرائيل بإجراءات صارمة ويمهلها "ساعات وأياما" للاستجابة للوضع الإنساني في غزة    "بعد معلول".. أحمد شوبير يلمح إلى اقتراب رحيل نجم آخر عن الأهلي    أمطار رعدية تضرب الإسكندرية وتحذيرات من طقس متقلب    أمطار رعدية وثلوج وعواصف تشبه الإعصار.. ماذا يحدث في الإسكندرية؟- فيديو وصو    فلسطين.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم عسكر الجديد شرق نابلس    ترامب يقر زيادة جديدة على رسوم الصلب لحماية السوق الأمريكية    علي معلول يعلن رسميًا نهاية مشواره مع الأهلي: «أنا راحل.. لكن الحب باقٍ»    موعد صلاة عيد الأضحى 2025 في جميع محافظات مصر    اليوم.. أولى جلسات محاكمة مدربة أسود سيرك طنطا في واقعة النمر    العفريت الذي أرعب الفنانين| «الفوتوغرافيا».. رحلة النور والظلال في 200 سنة    6 طرق للحفاظ على صحة العمود الفقري وتقوية الظهر    ب62 جنيه شهريًا.. أسعار الغاز الطبيعي اليوم وتكلفة توصيله للمنازل (تفاصيل)    «ليس وداعا وسنلتقي قريبا».. تعليق مفاجئ من شوبير بعد إعلان معلول الرحيل عن الأهلي    ثروت سويلم يعلن نظام الدوري المصري في الموسم الجديد وموعد نهايته    «سأصنع التاريخ في باريس».. تصريحات مثيرة من إنريكي قبل نهائي دوري الأبطال    جراديشار: شاركت في مباراة بيراميدز ولم أكن أعرف أسماء لاعبي الأهلي    مهاجم بيراميدز: التركيز سلاحنا لحسم اللقب الأفريقي    جدل بين أولياء الأمور حول «البوكليت التعليمى»    «تنسيق الجامعات 2025»: 12 جامعة أهلية جديدة تنتظر قبول الدفعة الأولى    هبوط جديد في عيار 21 الآن.. أسعار الذهب والسبائك اليوم السبت 31 مايو 2025 بالصاغة    اليوم.. انطلاق امتحانات الشهادة الإعدادية في جميع المحافظات    سوهاج.. خلاف مالي بين شقيقين ينتهي بطعنة نافذة    ماس كهربائي يتسبب في نشوب حريق بمنزلين في سوهاج    اليوم.. 58 ألف و841 طالبًا يؤدون امتحان اللغة العربية للشهادة الإعدادية بقنا    وزير الدفاع الإسرائيلي: لن نمنح الحصانة لأحد وسنرد على أي تهديد    ترامب يكشف موعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة    أحمد حلمي ومنى زكي وعمرو يوسف وكندة علوش في زفاف أمينة خليل.. صور جديدة    «متقوليش هاردلك».. عمرو أديب يوجه رسائل خاصة ل أحمد شوبير    «القاهرة للسينما الفرانكوفونية» يختتم فعاليات دورته الخامسة    أفضل دعاء في العشر الأوائل من ذي الحجة.. ردده الآن للزوج والأبناء وللمتوفي ولزيادة الرزق    النائب أحمد السجيني يحذر من سيناريوهين للإيجار القديم: المادة 7 قد تكون الحل السحري    رئيس «النحّالين العرب»: قطاع تربية النحل يتعرض لهجمات «شرسة» سنويًا لتشويه المنتج المحلى    محافظة قنا: الالتزام بالإجراءات الوقائية في التعامل مع حالة ولادة لمصابة بالإيدز    لا تتركها برا الثلاجة.. استشاري تغذية يحذر من مخاطر إعادة تجميد اللحوم    شروط ورابط الحصول على دعم المشروعات اليحثية بهيئة تمويل العلوم    موعد أذان فجر السبت 4 من ذي الحجة 2025.. ودعاء في جوف الليل    باسم مرسي: لاعبو الزمالك قادرين على مصالحة الجماهير بالفوز بكأس مصر    5 فلاتر يجب تغييرها دوريًا للحفاظ على أداء سيارتك    سعر الموز والخوخ والفاكهة بالأسواق اليوم السبت 31 مايو 2025    لا تضيع فضلها.. أهم 7 أعمال خلال العشرة الأوائل من ذي الحجة    الجماع بين الزوجين في العشر الأوائل من ذي الحجة .. هل يجوز؟ الإفتاء تحسم الجدل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 31-5-2025 في محافظة قنا    «قنا» تتجاوز المستهدف من توريد القمح عن الموسم السابق ب 227990 طنًا    عاجل|أردوغان يجدد التزام تركيا بالسلام: جهود متواصلة لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    مدير «جي إس إم» للدراسات: فرص نجاح جولة المباحثات الروسية الأوكرانية المقبلة صفرية    تغييرات مفاجئة تعكر صفو توازنك.. حظ برج الدلو اليوم 31 مايو    «المصري اليوم» تكشف القصة الكاملة للأزمة: زيادة الصادرات وراء محاولات التأثير على صناعة عسل النحل    شريف عبد الفضيل يحكى قصة فيلا الرحاب وانتقاله من الإسماعيلي للأهلى    بدء تصوير "دافنينه سوا" ل محمد ممدوح وطه الدسوقي في هذا الموعد    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. ترامب: سنعلن تفاصيل اتفاق غزة اليوم أو غدا.. إحباط هجوم إرهابى فى روسيا.. وصول مليون و330 ألف حاج للسعودية.. سقوط قتلى فى فيضانات تضرب نيجيريا    مشرف بعثة الحج السياحي: إلغاء ترخيص الشركات السياحية المخالفة للضوابط المنظمة    وزير التعليم يبحث مع «جوجل» تعزيز دمج التكنولوجيا في تطوير المنظومة التعليمية    تطرق أبواب السياسة بثقة :عصر ذهبى لتمكين المرأة فى مصر.. والدولة تفتح أبواب القيادة أمام النساء    وفد من مسئولي برامج الحماية الاجتماعية يتفقد المشروعات المنفذة بحياة كريمة في الدقهلية    الأحد.. مجلس الشيوخ يناقش الأثر التشريعي لقانون التأمين الصحي والضريبة على العقارات المبنية    «أوقاف الدقهلية» تفتتح مسجدين وتنظم مقارئ ولقاءات دعوية للنشء    الأعلى للجامعات: فتح باب القبول بالدراسات العليا لضباط القوات المسلحة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبده وازن شاعر المعرفة الجريحة
نشر في صوت البلد يوم 20 - 11 - 2017

في سياق التنوع الذي يشير إليه الشاعر العراقي محمد مظلوم في مقدمته المدققة والمتقنة للمختارات المعنونة: «قليلاً مِنَ الذهب أيتها الشمس» (الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة)، نستطيع تأكيد أن القيمتين الذاتية والموضوعية اللتين تتوافر عليهما تلك المختارات تعكسان مدى قدرة المشروع الشعري للشاعر عبده وازن على البقاء ضمن الصورة الذهنية التي يمكن قارئاً في قارة ما أن يترسم حدودها، بين أفلاك طالما سطعت في أعين النقاد ومع ذلك لم يروها على حقيقتها قط. شعرنا الحديث كله ربما يدفع ثمن هذا العماء التاريخي للكلاسيكية ونقادها، وعلى نحو أدق يدفع ثمن تجاسره على إسقاط المحتوى الأخلاقي لهذا الماضي.
وهو الماضي الذي يصفه إميل زولا بأنه تعدى بفجاجته حدود الذوق. ولا شك في أن هذا التصور ارتبط بالتحولات التي طرأت على الشعر الجديد، لاسيما في احتقاره الحمولات الدينية والسياسية التي كان على الشعر أن يدفع ثمنها لمصلحة النقد المحافظ في رؤيته الأخلاقية لمفهوم الوظيفة الشعرية. هذا يعني أن نص عبده وازن حدد على نحو مغاير طبيعة تلك الوظيفة، شأنه في ذلك شأن كل التجارب المؤثرة التي أسست لقطيعة جمالية مع كل تمثيلات الماضي. سنتأكد من ذلك عندما نتابع تلك المختارات الضافية (ستمئة صفحة)؛ وهي تعزز مفهومها الوجودي ضمن إعادة الاعتبار لمفهوم التخييل وللحياة الباطنية للشاعر.
صوت عبده وازن الدقيق والهامس ليس رديف التصالحية والجزئية والوضوح حتى في حالات وضوحه، فهو بالقدر ذاته مركب ويصدر في كثير من إحالاته الشعرية عن وعي كلي بالعالم، لكنه ليس الوعي الأفلاطوني الذي يعتقد بأن العالم كلي وثابت لا يتغير. بل هو وعي يمثل تكأة لتنوع المصادر الشعرية في القصيدة. ففي الوقت الذي يمكننا فيه التعامل مع شعرية عبده وازن باعتبارها شعرية نموذجية لما بعد الحداثة لا يمكننا، في المقابل، اعتبارها نقضاً تاماً للحداثة على رغم انتمائها لفلسفة التنوع مقابل فلسفة الوحدة.
ولا شك في أن انفتاح تجربة الشاعر على المستويين الجمالي والمعرفي كان سبباً مباشراً في تجديد مضامينه الشعرية وتعميق رؤيته للوجود الإنساني سواء في حالات اكتماله أو حالات نقصه. يضاف أيضاً إلى تمايزات تلك التجربة اعتبار شديد الأهمية هو وعي الشاعر عبده وازن بمساحات الاغتراب التي وقع فيها الكثير من تجارب قصيدة النثر العربية بسبب تأثرها بالرمزية الفرنسية حيناً وخضوعها لأنماط مزيفة من الوعي بأدوات الشعر ووظيفته أحياناً أخرى. لذلك، كان تبلور هذا الوعي حاسماً في اكتشاف الشاعر خصوصيتين لغوية وتخييلية انخلعتا مبكراً من إحالاتهما الحضارية في الشعريتين العربية والغربية، لتشكلا في النهاية عالماً متفرداً تجاوز فكرة اللغة كأداة تعبيرية إلى كونها انعكاساً لصراع حضاري لا يخلو من خصائصه المحلية، كما لا يخلو بالقدر ذاته من خصائصه الإنسانية عموماً.
اليومي والأسطوري
سنتابع ذلك في عشرات من قصائد المختارات التي تراوحت موضوعاتها بين العام والخاص، اليومي والأسطوري، العابر والمقيم، وإن ظلت ذاتية الشاعر باباً لوعي من نوع خاص؛ وظيفته ترشيح هواء الشعر مِن المجانية. الذاتية هنا؛ تبدو اختصاراً لذاتيات غير محصورة، وكأنها نوع من التمثل لما قاله لوتريامون وردَّده بول إيلوار مِن أن الشعر يجب أن يصدر عن الناس جميعاً وليس عن ذات مفردة، إذ يجب على الشاعر أن يكون اختصاراً لمن يتحدث باسمهم.
وسنجد قصائد المختارات وقد انفتحت على العالم عبر الأسطورة التاريخية أحياناً والشخصية أحياناً أخرى، إذ ما زال الشعر والشاعر يحتفظان لدى عبده وازن بسرٍ ما، وكأنهما يجب أن يكونا على صورة نص لم يكتبه أحد في هذا العالم. فالنص يمكنه أن يتشكل في مكان ما لكنه لم يعثر على كاتبه. هذا ما يقوله عبده وازن في نصين مهمين ودالين يفصل بينهما زمن ليس طويلاً. الإشارة الأولى ترد في قصيدة «عناوين» ص399 حيث يقول: «القصيدة غالباً ما تسبق عنوانها/ القصيدة أحياناً بلا عنوان/ ولكن لا يكون العنوان بلا قصيدة»، هذا ضمن عناوين كتبها شخص ما يبحث عن قصيدة لكنه يتهيبها، لأنه في الحقيقة يخشى «أن يموت عاجزاً عن كتابتها». ويختتم الشاعر قصيدته بالقول: «لكن ما فاته/ أن لا أحد علم أنها/ عناوين لقصائد لم يكتبها ولن». الخوف من الشعر هنا نوع من تقديسه، والرهبة نوع من الخشوع في محرابه، واللجاجة هنا لا تصيب إلا الشاعر الحق الذي يموت في النهاية من دون اكتمال لذته تحت وطأة الخوف الذي يمثل هنا أعلى حالات الفقد.
القصيدة الثانية بعنوان «لم يكتبها أحد» ص456، وهي ربما تفسر ذلك الغموض الذي اكتنف نص وازن الأول؛ إذ ثمة تعيين أكبر يجلي مزيداً من الألم. يقول: «القصيدة التي لم يكتبها دانتي/ كان على رامبو أن يكتبها/ فتش عنها في الجحيم طويلاً ولم يجدها». سنجد بعد ذلك ريلكه وقد ترامت إليه أصوات غامضة، سيقع مالارميه أيضاً في الفخ وكذلك كل الشعراء الذين سكنوا فرناندو بيسوا، يضاف إليهم أبو نواس والحلاج والرمزيون والسرياليون والرومانطيقيون ويبقى شاعر ملعون احتفظ بسرها: «القصيدة التي لم تكتبها يدٌ/ التي لم تشع حروفها على الورق/ التي تلتمع بروقُها خلف العيون/ القصيدة التي هي الموت/ التي هي الحياة/ التي هي الضوء/ القصيدة التي محتها يدُ الله/ عندما خلق العالم عقاباً للشعراء الملاعين/ الذين سرقوا السر». ويبدو السر هنا علوياً بما يكفي لمفارقته مجتمع الخطيئة، وهو تصور يشير إلى قناعة الشاعر بالمعرفة الجريحة والتي ستظل كذلك لأنها ستظل ناقصة. ولا شك في أن قيمة النقصان هنا هي ذاتها قيمة الشاعر الجديد الذي يموت من دون سرِه؛ لأنه لا يملك يقيناً يجعل منه رائياً كُلِّي المعرفة.
تقدم المختارات أيضاً صورة لغنائية من نوع خاص، بقدرتها ذاتها على تقديم ما يسمى بالشعرية الموضوعية التي ينحو فيها الشاعر إلى السيطرة الكاملة على حواسه بحيث لا يتحول النص إلى طرطشات عاطفية تقف على حافة المحنة الشخصية، وإن كان مأزق تلك القصائد أن شعريتها تظل بعيدة المنال إلا في ما ندر. لكنها على أية حال تبدو قليلة في تلك المختارات.
وسيطالع القارئ أيضاً حضوراً شعرياً فياضاً وغنياً؛ لفكرة الغربة والغريب، وكذلك لكثير مِن القصائد التي تعاملت مع فكرة الظل وكأنه الحضور المستعار للإنسان، لدرجة يحل فيها الظل محل صاحبه. إذ يبدو الظل هنا نوعاً من الاحتجاج على الأقنعة كافة. هذا في الإجمال يقدم صوراً متعددة للغنائية التي أشبعت نصوص المختارات بفيوض من التخييل الباذخ. والغنائية هنا ليست إلا واحداً من أعلى تعبيرات الذاتية المنفتحة على العالم بعيداً مِن مواصفاتها التاريخية التي ارتبطت بالإيقاع والنبر والعروض والخطاب. وتبدو أعلى تجليات تلك الغنائية في نصوص تحضر فيها أدوات النداء؛ كما في قصيدة «الغريب» ص47: «قلت له أيها الغريب/ لمَ تظن أنني ظلٌ لوجهك الذي لا يكتمل/ ها يداي مفتوحتان أمام نارك/ وعيناي تنتظران نسيم مرورك/ أيها الغريب لماذا لا تغادر مرآتك/ عساك تشرق كشمس القلب؟/ أيها الغريب الذي لم يكن إلا ظلاً لوجهي».
هذه الصور المكتنزة بشعريتها الحميمة والجارحة تتخللها عشرات القصائد؛ مثل «سراج الغرباء»، «حكاية الظلال»، «أزل» المهداة إلى أنسي الحاج، و «كأس من زجاج» المهداة إلى بيسوا، فضلاً عن قصائد إلى تلك المرأة الأسطورية التي بدت هي الأخرى من الأقنعة المتعددة للشاعر، وهي أقنعة لم تفلح في تقليل جرعات الفقد والألم على مدار المختارات. وأذكر أن مصطفى ناصف قال تعليقاً على قيمة الفقد في معلقة النابغة: «إنه يوجه تحية غامضة للزمن القاسي». ويبدو أن شاعرَ «قليلاً من الذهب أيتها الشمس» يقدم هو الآخر تحيته الغامضة للزمن القاسي، ولكن على طريقته الخاصة.
يبقى القول إن عبده وازن، كواحد من أهم شعرائنا الآن وكمثقف كبير أيضاً، امتلك وعياً معرفياً كان صاحب دور مؤثر في تشكيل حدوسه الشعرية، ما يعني إدراكه المبكر أن قصة الشعر الحديث ليست هي قصة افتتانه بأنساق صاغتها الفلسفة أو صاغها العقل النقدي كما يتصور أوكتافيو باث. لذلك، يحار المرء لماذا يكدح النقد بحثاً عن أدوات لقراءة النص خارج محنة الشاعر أو بالأحرى خارج تاريخه؟ وثمة فرضية مراوغة ومضحكة في آن عندما نجد ناقداً مثل ميشيل ريفاتير يتحدث عن أن النص كائن ملعون، لأنه بالضرورة يقول شيئاً بينما يعني شيئاً آخر. وتقديري أن هذا الروغ الذي يدركه عبده وازن، لا يحتاج إلى كثير عناء ليقرر أن الشعر فوق التاريخ ومن ثم فوق النظرية.
في سياق التنوع الذي يشير إليه الشاعر العراقي محمد مظلوم في مقدمته المدققة والمتقنة للمختارات المعنونة: «قليلاً مِنَ الذهب أيتها الشمس» (الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة)، نستطيع تأكيد أن القيمتين الذاتية والموضوعية اللتين تتوافر عليهما تلك المختارات تعكسان مدى قدرة المشروع الشعري للشاعر عبده وازن على البقاء ضمن الصورة الذهنية التي يمكن قارئاً في قارة ما أن يترسم حدودها، بين أفلاك طالما سطعت في أعين النقاد ومع ذلك لم يروها على حقيقتها قط. شعرنا الحديث كله ربما يدفع ثمن هذا العماء التاريخي للكلاسيكية ونقادها، وعلى نحو أدق يدفع ثمن تجاسره على إسقاط المحتوى الأخلاقي لهذا الماضي.
وهو الماضي الذي يصفه إميل زولا بأنه تعدى بفجاجته حدود الذوق. ولا شك في أن هذا التصور ارتبط بالتحولات التي طرأت على الشعر الجديد، لاسيما في احتقاره الحمولات الدينية والسياسية التي كان على الشعر أن يدفع ثمنها لمصلحة النقد المحافظ في رؤيته الأخلاقية لمفهوم الوظيفة الشعرية. هذا يعني أن نص عبده وازن حدد على نحو مغاير طبيعة تلك الوظيفة، شأنه في ذلك شأن كل التجارب المؤثرة التي أسست لقطيعة جمالية مع كل تمثيلات الماضي. سنتأكد من ذلك عندما نتابع تلك المختارات الضافية (ستمئة صفحة)؛ وهي تعزز مفهومها الوجودي ضمن إعادة الاعتبار لمفهوم التخييل وللحياة الباطنية للشاعر.
صوت عبده وازن الدقيق والهامس ليس رديف التصالحية والجزئية والوضوح حتى في حالات وضوحه، فهو بالقدر ذاته مركب ويصدر في كثير من إحالاته الشعرية عن وعي كلي بالعالم، لكنه ليس الوعي الأفلاطوني الذي يعتقد بأن العالم كلي وثابت لا يتغير. بل هو وعي يمثل تكأة لتنوع المصادر الشعرية في القصيدة. ففي الوقت الذي يمكننا فيه التعامل مع شعرية عبده وازن باعتبارها شعرية نموذجية لما بعد الحداثة لا يمكننا، في المقابل، اعتبارها نقضاً تاماً للحداثة على رغم انتمائها لفلسفة التنوع مقابل فلسفة الوحدة.
ولا شك في أن انفتاح تجربة الشاعر على المستويين الجمالي والمعرفي كان سبباً مباشراً في تجديد مضامينه الشعرية وتعميق رؤيته للوجود الإنساني سواء في حالات اكتماله أو حالات نقصه. يضاف أيضاً إلى تمايزات تلك التجربة اعتبار شديد الأهمية هو وعي الشاعر عبده وازن بمساحات الاغتراب التي وقع فيها الكثير من تجارب قصيدة النثر العربية بسبب تأثرها بالرمزية الفرنسية حيناً وخضوعها لأنماط مزيفة من الوعي بأدوات الشعر ووظيفته أحياناً أخرى. لذلك، كان تبلور هذا الوعي حاسماً في اكتشاف الشاعر خصوصيتين لغوية وتخييلية انخلعتا مبكراً من إحالاتهما الحضارية في الشعريتين العربية والغربية، لتشكلا في النهاية عالماً متفرداً تجاوز فكرة اللغة كأداة تعبيرية إلى كونها انعكاساً لصراع حضاري لا يخلو من خصائصه المحلية، كما لا يخلو بالقدر ذاته من خصائصه الإنسانية عموماً.
اليومي والأسطوري
سنتابع ذلك في عشرات من قصائد المختارات التي تراوحت موضوعاتها بين العام والخاص، اليومي والأسطوري، العابر والمقيم، وإن ظلت ذاتية الشاعر باباً لوعي من نوع خاص؛ وظيفته ترشيح هواء الشعر مِن المجانية. الذاتية هنا؛ تبدو اختصاراً لذاتيات غير محصورة، وكأنها نوع من التمثل لما قاله لوتريامون وردَّده بول إيلوار مِن أن الشعر يجب أن يصدر عن الناس جميعاً وليس عن ذات مفردة، إذ يجب على الشاعر أن يكون اختصاراً لمن يتحدث باسمهم.
وسنجد قصائد المختارات وقد انفتحت على العالم عبر الأسطورة التاريخية أحياناً والشخصية أحياناً أخرى، إذ ما زال الشعر والشاعر يحتفظان لدى عبده وازن بسرٍ ما، وكأنهما يجب أن يكونا على صورة نص لم يكتبه أحد في هذا العالم. فالنص يمكنه أن يتشكل في مكان ما لكنه لم يعثر على كاتبه. هذا ما يقوله عبده وازن في نصين مهمين ودالين يفصل بينهما زمن ليس طويلاً. الإشارة الأولى ترد في قصيدة «عناوين» ص399 حيث يقول: «القصيدة غالباً ما تسبق عنوانها/ القصيدة أحياناً بلا عنوان/ ولكن لا يكون العنوان بلا قصيدة»، هذا ضمن عناوين كتبها شخص ما يبحث عن قصيدة لكنه يتهيبها، لأنه في الحقيقة يخشى «أن يموت عاجزاً عن كتابتها». ويختتم الشاعر قصيدته بالقول: «لكن ما فاته/ أن لا أحد علم أنها/ عناوين لقصائد لم يكتبها ولن». الخوف من الشعر هنا نوع من تقديسه، والرهبة نوع من الخشوع في محرابه، واللجاجة هنا لا تصيب إلا الشاعر الحق الذي يموت في النهاية من دون اكتمال لذته تحت وطأة الخوف الذي يمثل هنا أعلى حالات الفقد.
القصيدة الثانية بعنوان «لم يكتبها أحد» ص456، وهي ربما تفسر ذلك الغموض الذي اكتنف نص وازن الأول؛ إذ ثمة تعيين أكبر يجلي مزيداً من الألم. يقول: «القصيدة التي لم يكتبها دانتي/ كان على رامبو أن يكتبها/ فتش عنها في الجحيم طويلاً ولم يجدها». سنجد بعد ذلك ريلكه وقد ترامت إليه أصوات غامضة، سيقع مالارميه أيضاً في الفخ وكذلك كل الشعراء الذين سكنوا فرناندو بيسوا، يضاف إليهم أبو نواس والحلاج والرمزيون والسرياليون والرومانطيقيون ويبقى شاعر ملعون احتفظ بسرها: «القصيدة التي لم تكتبها يدٌ/ التي لم تشع حروفها على الورق/ التي تلتمع بروقُها خلف العيون/ القصيدة التي هي الموت/ التي هي الحياة/ التي هي الضوء/ القصيدة التي محتها يدُ الله/ عندما خلق العالم عقاباً للشعراء الملاعين/ الذين سرقوا السر». ويبدو السر هنا علوياً بما يكفي لمفارقته مجتمع الخطيئة، وهو تصور يشير إلى قناعة الشاعر بالمعرفة الجريحة والتي ستظل كذلك لأنها ستظل ناقصة. ولا شك في أن قيمة النقصان هنا هي ذاتها قيمة الشاعر الجديد الذي يموت من دون سرِه؛ لأنه لا يملك يقيناً يجعل منه رائياً كُلِّي المعرفة.
تقدم المختارات أيضاً صورة لغنائية من نوع خاص، بقدرتها ذاتها على تقديم ما يسمى بالشعرية الموضوعية التي ينحو فيها الشاعر إلى السيطرة الكاملة على حواسه بحيث لا يتحول النص إلى طرطشات عاطفية تقف على حافة المحنة الشخصية، وإن كان مأزق تلك القصائد أن شعريتها تظل بعيدة المنال إلا في ما ندر. لكنها على أية حال تبدو قليلة في تلك المختارات.
وسيطالع القارئ أيضاً حضوراً شعرياً فياضاً وغنياً؛ لفكرة الغربة والغريب، وكذلك لكثير مِن القصائد التي تعاملت مع فكرة الظل وكأنه الحضور المستعار للإنسان، لدرجة يحل فيها الظل محل صاحبه. إذ يبدو الظل هنا نوعاً من الاحتجاج على الأقنعة كافة. هذا في الإجمال يقدم صوراً متعددة للغنائية التي أشبعت نصوص المختارات بفيوض من التخييل الباذخ. والغنائية هنا ليست إلا واحداً من أعلى تعبيرات الذاتية المنفتحة على العالم بعيداً مِن مواصفاتها التاريخية التي ارتبطت بالإيقاع والنبر والعروض والخطاب. وتبدو أعلى تجليات تلك الغنائية في نصوص تحضر فيها أدوات النداء؛ كما في قصيدة «الغريب» ص47: «قلت له أيها الغريب/ لمَ تظن أنني ظلٌ لوجهك الذي لا يكتمل/ ها يداي مفتوحتان أمام نارك/ وعيناي تنتظران نسيم مرورك/ أيها الغريب لماذا لا تغادر مرآتك/ عساك تشرق كشمس القلب؟/ أيها الغريب الذي لم يكن إلا ظلاً لوجهي».
هذه الصور المكتنزة بشعريتها الحميمة والجارحة تتخللها عشرات القصائد؛ مثل «سراج الغرباء»، «حكاية الظلال»، «أزل» المهداة إلى أنسي الحاج، و «كأس من زجاج» المهداة إلى بيسوا، فضلاً عن قصائد إلى تلك المرأة الأسطورية التي بدت هي الأخرى من الأقنعة المتعددة للشاعر، وهي أقنعة لم تفلح في تقليل جرعات الفقد والألم على مدار المختارات. وأذكر أن مصطفى ناصف قال تعليقاً على قيمة الفقد في معلقة النابغة: «إنه يوجه تحية غامضة للزمن القاسي». ويبدو أن شاعرَ «قليلاً من الذهب أيتها الشمس» يقدم هو الآخر تحيته الغامضة للزمن القاسي، ولكن على طريقته الخاصة.
يبقى القول إن عبده وازن، كواحد من أهم شعرائنا الآن وكمثقف كبير أيضاً، امتلك وعياً معرفياً كان صاحب دور مؤثر في تشكيل حدوسه الشعرية، ما يعني إدراكه المبكر أن قصة الشعر الحديث ليست هي قصة افتتانه بأنساق صاغتها الفلسفة أو صاغها العقل النقدي كما يتصور أوكتافيو باث. لذلك، يحار المرء لماذا يكدح النقد بحثاً عن أدوات لقراءة النص خارج محنة الشاعر أو بالأحرى خارج تاريخه؟ وثمة فرضية مراوغة ومضحكة في آن عندما نجد ناقداً مثل ميشيل ريفاتير يتحدث عن أن النص كائن ملعون، لأنه بالضرورة يقول شيئاً بينما يعني شيئاً آخر. وتقديري أن هذا الروغ الذي يدركه عبده وازن، لا يحتاج إلى كثير عناء ليقرر أن الشعر فوق التاريخ ومن ثم فوق النظرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.