افتتحها وزير التعليم العالي.. أبرز المعلومات عن جامعة كفر الشيخ الأهلية (صور)    هآرتس: نتنياهو يعتزم طرح خطة لضم أجزاء من غزة لإنقاذ حكومته    مقتل شخصين وإصابة آخرين في هجوم طعن في لندن    هل تصدق رواية الزمالك في تقديم لاعبه معالي.. وما علاقة بنشرقي؟ (فيديو)    أول تعليق من محافظ سوهاج على حرائق برخيل (صور)    وزير الثقافة يعزي ويؤازر خالد جلال من كواليس عرض "حواديت" بعد وفاة شقيقه    السيسي يوجه بتوفير الرعاية الصحية اللازمة والاهتمام الطبي الفوري للكابتن حسن شحاتة    عودة انقطاع الكهرباء في مناطق بالجيزة وخروج كابل محطة محولات جزيرة الذهب عن الخدمة    المعمل الجنائي يعاين حريق شقة في المريوطية    رابطة الأندية: بدء عقوبة "سب الدين والعنصرية" فى الدوري بالموسم الجديد    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    الكشف الطبي على 540 مواطنًا بقرية جلبانة ضمن القافلة الطبية لجامعة الإسماعيلية    بمناسبة اليوم العالمي.. التهاب الكبد خطر صامت يمكن تفاديه    قبل عرضه.. تفاصيل فيلم بيج رامى بطولة رامز جلال    نقيب الإعلاميين: كلمة الرئيس السيسي بشأن غزة رد عملي على حملات التضليل    سميرة صدقي: عبلة كامل أفضل فنانة قدمت دور المرأة الشعبية    علاج الحموضة بالأعشاب الطبيعية في أسرع وقت    برومو تشويقى ل مسلسل "ما تراه ليس كما يبدو".. سبع حكايات ومفاجآت غير متوقعة    محافظ جنوب سيناء يتابع تطوير محطة معالجة دهب والغابة الشجرية (صور)    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    رفقة العراق والبحرين .. منتخب مصر في المجموعة الثانية بكأس الخليج للشباب    «المصري اليوم» داخل قطار العودة إلى السودان.. مشرفو الرحلة: «لا رجوع قبل أن نُسلّم أهلنا إلى حضن الوطن»    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    حزب الجيل: السيسي يعيد التأكيد على ثوابت مصر في دعم فلسطين    كم سنويا؟.. طريقة حساب عائد مبلغ 200 ألف جنيه من شهادة ادخار البنك الأهلي    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    تنفيذي الشرقية يكرم أبطال حرب أكتوبر والمتبرعين للصالح العام    هندسة المنوفية الأولى عالميًا في المحاكاة بمسابقة Formula Student UK 2025    ديفيز: سعيد بالعودة للأهلي.. وهذه رسالتي للجماهير    نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    أمانة الشؤون القانونية المركزية ب"مستقبل وطن" تبحث مع أمنائها بالمحافظات الاستعدادات لانتخابات مجلس الشيوخ 2025    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض وضوءها؟.. أمينة الفتوى توضح    السفارة الأمريكية: كتائب حزب الله تقف وراء اقتحام مبنى حكومي ببغداد    قنا: القبض على شاب متهم بالاعتداء على طفل داخل منزل أسرته في قرية الدرب بنجع حمادي    محافظ القاهرة يكرم 30 طالبا وطالبة من أوائل الثانوية العامة والمكفوفين والدبلومات الفنية    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    12 راحلا عن الأهلي في الانتقالات الصيفية    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    منال عوض تتابع ملفات وزارة البيئة وتبحث تطوير منظومة إدارة المخلفات    تصعيد خطير ضد الوجود المسيحي بفلسطين.. مستوطنون يعتدون على دير للروم الأرثوذكس    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي لأكثر من مليون فرد    إطلاق حملة لتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة بمدينة العاشر من رمضان (صور)    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    في مستهل زيارته لنيويورك.. وزير الخارجية يلتقي بالجالية المصرية    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    تعرف على مواعيد مباريات المصري بالدوري خلال الموسم الكروي الجديد    بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ .. لماذا لم يقيل السيسي محافظ الجيزة ورؤساء الأحياء كما فعل مع قيادات الداخلية ؟    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لكل جبل شيخ .. ولكل شيخ رواية
نشر في صوت البلد يوم 16 - 07 - 2017

لو أن النظارات الطبية كانت معروفة في القرن السادس الهجري، لما اضطر العلماء إلى التوقف عن القراءة والكتابة في عمر الخمسين أو دونه، لم تكن المطبعة معروفة أيضاً، فكان العالم أو الفيلسوف يكتب نسخة أصلية من كتابه بخط يده، ثم ينسخه النساخون بنسخ محدودة تذهب لمختلف البلدان.
أما الرسائل، فلا إيميلات ولا آيفونات أو مسنجرات، بل رسول يأخذها على جمل أو حصان مع قافلة من القوافل، فتصل الرسالة بعد أشهر، أو قد لا تصل أبداً.
بمثل هذه الصعوبات عاش فقهاء وعلماء وشعراء حقبا سابقة كانت ثرية بأشرس أسماء الأدباء والفلاسفة والفقهاء العرب. ويبدو أن هذه العوائق التي نراها نحن صعوبات جمة، جعلت الصبر طويلاً والذهن صافياً أمامهم فكانت الأعمار تفنى للتفرغ لشأن كبير ومشروع ضخم يخلّده التأريخ على مر الزمان.
يخبرنا غوغل، ملاذ الحائرين، بأعلام التصوف والفلسفة، للقرن السادس الهجري، فتصيبنا صدمة الانبهار مما اجتمع عليه هذا القرن من كبار الشيوخ والفلاسفة كابن رشد ومحيي الدين بن عربي وابن حزم الاندلسي وأبو الحسن الشاذلي وجلال الدين الرومي وصدر الدين القونوي وأبو العباس المرسي وأحمد البدوي وشهاب الدين السهروردي وشمس التبريزي وابن الفارض وابو الفتح الواسطي، وعشرات الأسماء الأخرى لا يتسع المجال لذكرها، ستشكل بثقلها الفارق عنصر جذب قوياً للنهل من منهلها العذب، فكان الروائي اللبناني أمين المعلوف هو السبّاق في هذا المجال في روايته "سمرقند".
وفيما بعد نسجت أليف شافاك روايتها "قواعد العشق الأربعون" على منوال رواية معلوف، فالبطلة تراجع مخطوطة عن الرومي لكاتب روائي جديد، وهذه الثيمة هي التي اشتغل عليها معلوف مع مخطوطة "رباعيات الخيام"، وإلى حد ما، مع مخطوطة "وصف أفريقيا" للرحالة محمد حسن الوزان في روايته "ليون الأفريقي". وهناك كُتّاب آخرون استلهموا أعمالهم من تلك الحقبة التاريخية المهمّة كسلام عبود في روايته عن ابن زريق البغدادي، ولؤي عبدالإله في رواية، لم أقرأها بعد، عن ابن عربي.
انضم الروائي السعودي محمد حسن علوان إلى نادي المعتكفين في الخوانق والجبال، فجلس على حصير ابن عربي، وأنعش سيرة شيخ جليل اختلف الفقهاء والعلماء حوله، فمنهم من دافع عنه كالسيوطي والفيروز آبادي والسهروردي، ومنهم من خالفه، كابن خلدون، ومنهم من كفّره وأخرجه من الملة باعتبار أن كتابه "فصوص الحكم" قد اشتمل على الكفر الصريح برأيهم. وكل ذلك الجدال حوله لم يزد المتصوف الأشهر محيي الدين بن عربي إلا مكانة عظمى في قلوب محبيه، فلُقّب بالشيخ الأكبر وسلطان العارفين، وأصبحت صورته عابرة للزمان والمكان حتى حظيت بتراجم ومؤلفات كثيرة.
ولد محيي الدين بن عربي في مدينة مرسية بالاندلس، وتوفي في دمشق ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر. ومكانته كشيخ متصوف، كما يرى نصر حامد أبو زيد، مثّلت حالة متقدمة من نضج الفكر الاسلامي في مجال اللاهوت والفلسفة والتصوف.
ونظر إليه أبو زيد بوصفه همزة وصل بين التراث العالمي والتراث الإسلامي. كان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف. وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها. هكذا يرد في السير والتراجم، ولكن الرواية تُظهر الأب كاتباً في بلاط الموحّدين، مقرباً لا غنى عنه لدى أولياء الأمر، ومع ذلك حرص على حضور ابنه لحلقات الدرس في الجوامع، ودفع به إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فنشأ ملمّاً بالقرآن والحديث والتفاسير.
هناك في اشبيلية تحدث خلوته الأولى مع شيخه يوسف الكومي، حيث انهمرت عليه شلالات الرؤى، ومن إشبيلية إلى قرطبة حيث يتردد اسم ابن رشد في كل مكان. وفي لقاء يتسم بالبرود، وفقاً للرواية، سيدور الحوار بين عالم يؤمن بالمنطق والقانون وشيخ يؤمن بالكشوفات وما يدرج عليه أهل التصوف. إنه اللقاء مع ابن رشد الذي كان يجد الحسن ما حسنه العقل، والقبح ما قبحه العقل. وكان موضع احترام الخلفاء ثم ريبتهم ثم تنكيلهم، ونظن أن هذا السلوك هو المعتاد في العلاقة بين الحاكم والفيلسوف، ولكن الروائي يجعل ابن عربي يشعر بالذنب لشبهة كونه مشاركاً في إغضاب الخليفة على ابن رشد. فعندما يسأله الخليفة أيهم أنفع للخليفة يقول له:
- إنك إذا ركنت للفقهاء عطّلوا عقلك، وإذا ركنت للفلاسفة عطّلوا قلبك، واذا ركنت للأولياء جعلوا قلبك وعقلك تحت نور الله المبين.
- أنت تتعصب للمتصوفة لأنك منهم.
- يا أمير المؤمنين، لقد فقهت من الدين فوق فقه الفقهاء، ومن الفلسفة فوق فلسفة الفلاسفة، ولو شئتُ أن أكون فقيهاً كابن حزم لكنت، أو فيلسوفاً مثل ابن طفيل لكنت، أو كليهما كابن رشد لكنت، ولكن الله اختار لي أن أكون من أهل الطريق فكنت.
بعد سنوات سينادي منادٍ في السوق أن من كان عنده مخطوط أو كتاب لابن رشد يتعاطى علوم المنطق والفلسفة فليحرقه وإلا جلده الوالي.. يُستثنى من ذلك ما كان في الطب والحساب وعلم النجوم، فيخرج الوراقون كل ما لديهم من كتب ابن رشد لكومة سيتم إضرام النار فيها، ويُنفى ابن رشد الى قرية يهودية فيشعر ابن عربي بالذنب. شيء في داخله يقول إنه قد أسهم في نقمة الخليفة عليه عندما سأله عن رأيه بالفلاسفة والمتكلمين. ولكن ابن عربي يصرف هذا الفكرة عن ذهنه متعللاً بأن الخلفاء يكرهون الفلاسفة.
ومن مراكش تبدأ رحلته إلى مكة عبر مدن الشمال الإفريقي، ومعها يبدأ المسار الموازي لترحال ابن عربي من الأندلس إلى مكة، وهو المسار الذي يعرفنا بأهوال وأطماع ومصالح سياسية غطاؤها الدين وواقعها حروب وثورات وقلاقل حاقت بهذه المنطقة سواء في الأندلس أو المغرب أو المشرق. وكلما تغير خليفة تغيرت معه أحوال الفقهاء والمذاهب، فهذا يقرب المذهب الفلاني وذاك يستبعده.
أما مع المتصوف العاشق ابن عربي فما الرحلة الطويلة إلا الطريق الذي يتشوف من خلاله ولاية أو وتداً أو كشفاً من الكشوفات حتى يحل به الرحال في مكة التي تُلقي عليه بشباك العشق، ثم بغداد التي يعثر فيها على وتده الثالث. ومع كل مقام هناك مقال يجعلنا ندرك الجهد الهائل الذي انكتبت فيه الرواية، وروعة المخيال الذي صاغ للحقائق حكاية ساحرة، ومع ذلك يساورنا القلق عن الحد الفاصل بين الاختراع والحقيقة، وهل يسوّغ هذا الجنس الأدبي المسمى بالرواية تذويب هذا الحد في مخيال السرد؟
فمثلاً جاء في المصادر أن حلقة الوصل بين ابن عربي وبين جلال الدين الرومي تمت عن طريق تلميذ من المتأخرين اسمه صدر الدين القوني، ونسبها الروائي إلى حادثة أخرى عند العثور على الوتد الرابع لابن عربي، وهو شمس التبريزي، وقد مر بها الروائي مرور الكرام، بينما تمهل في وصف لقاءاته مع باقي الأقطاب والشيوخ، وصحبته المؤثرة مع خادمه ورفيقه بدر الحبشي.
وفي الحالين من التمهل كان السرد أخاذاً ممتعاً مبدعاً، إلى أن حدث التكرار في وصف الفيافي والمدن والقوافل والخانات، فبدا علوان من الروائيين الذين تغريهم زيادة في عديد الصفحات، فصبرنا عليها صبراً يعول عليه.
بالإضافة إلى خط الترحال المستمر، هناك فصول كتبت بحبر غامق عن ترحال مخطوطات ابن عربي بعد وفاته وتهريبها المستمر من دمشق إلى الكرك إلى الأستانة ثم باريس ثم دمشق مرة أخرى بعد إنقاذها من أحداث حماة عام 1982، وهي فصول مهمة وحيوية تربط الماضي البعيد بالقريب، ما عدا فصل حماه الذي وجدته إشكالياً لا منتمياً للرواية باعتباره قد وقع في فخ المباشرة، وخلط انحياز السياسة بحيدة الفن، وإذا كان بعض الروائيين أصبحوا يثبّتون مصادرهم التاريخية في أعمالهم، كما في "عشاق وفونوغراف وأزمنة" للطفية الدليمي، و"دروز بلغراد" لربيع جابر، وإلى حد ما، أليف شافاك في "قواعد العشق الأربعون" بنسختها الإنكليزية، فان علوان له قاعدة أخرى، تحيل إليها النسخة التي بين يدي، جعلت أدوات البحث في خدمة السرد دون الحاجة للتشويش بالمراجع والمصادر على بصمة الفن الروائي.
مما جاء في بعض الأسباب عن استحقاق الرواية للجائزة رصدها وتعريفها بأماكن وأحوال المدن التي مر بها ابن عربي. وأرى أن هذا المسار الأفقي هو مما نستطيع الحصول عليه في أيّ كتاب من كتب الرحالة والمؤرخين، بينما مسارتها الرأسية الأخرى هي التي تستحق التوقف والانبهار، وأولها ثراء اللغة التي يستعملها الكاتب محمد حسن علوان، والتي تعكس ثراء المضمون وأهميته الى درجة مدهشة.
صحيح أن الروائي يستعمل أسلوب الأعمال الموسوعية التاريخية الضخمة سارداً الأحداث على طريقتهم باباً بباب مع تقلب السنين وتعاقب الحدثين، إلا أن سياحته الفذّة في القلوب والعقول تدل على رهافة في المشاعر رهفت معها لغته وانتباهاته الجميلة التي سحرتنا، فكأنه مريد عاشق يكتب عن شيخ عاشق توله في الحب الإلهي، وذاب في عشق ابنة شيخه نظام التي كتب في "ترجمان الأشواق"، يغار عليها؟ ومن قال إن الأولياء لا يشعرون بالغيرة؟
لو أن النظارات الطبية كانت معروفة في القرن السادس الهجري، لما اضطر العلماء إلى التوقف عن القراءة والكتابة في عمر الخمسين أو دونه، لم تكن المطبعة معروفة أيضاً، فكان العالم أو الفيلسوف يكتب نسخة أصلية من كتابه بخط يده، ثم ينسخه النساخون بنسخ محدودة تذهب لمختلف البلدان.
أما الرسائل، فلا إيميلات ولا آيفونات أو مسنجرات، بل رسول يأخذها على جمل أو حصان مع قافلة من القوافل، فتصل الرسالة بعد أشهر، أو قد لا تصل أبداً.
بمثل هذه الصعوبات عاش فقهاء وعلماء وشعراء حقبا سابقة كانت ثرية بأشرس أسماء الأدباء والفلاسفة والفقهاء العرب. ويبدو أن هذه العوائق التي نراها نحن صعوبات جمة، جعلت الصبر طويلاً والذهن صافياً أمامهم فكانت الأعمار تفنى للتفرغ لشأن كبير ومشروع ضخم يخلّده التأريخ على مر الزمان.
يخبرنا غوغل، ملاذ الحائرين، بأعلام التصوف والفلسفة، للقرن السادس الهجري، فتصيبنا صدمة الانبهار مما اجتمع عليه هذا القرن من كبار الشيوخ والفلاسفة كابن رشد ومحيي الدين بن عربي وابن حزم الاندلسي وأبو الحسن الشاذلي وجلال الدين الرومي وصدر الدين القونوي وأبو العباس المرسي وأحمد البدوي وشهاب الدين السهروردي وشمس التبريزي وابن الفارض وابو الفتح الواسطي، وعشرات الأسماء الأخرى لا يتسع المجال لذكرها، ستشكل بثقلها الفارق عنصر جذب قوياً للنهل من منهلها العذب، فكان الروائي اللبناني أمين المعلوف هو السبّاق في هذا المجال في روايته "سمرقند".
وفيما بعد نسجت أليف شافاك روايتها "قواعد العشق الأربعون" على منوال رواية معلوف، فالبطلة تراجع مخطوطة عن الرومي لكاتب روائي جديد، وهذه الثيمة هي التي اشتغل عليها معلوف مع مخطوطة "رباعيات الخيام"، وإلى حد ما، مع مخطوطة "وصف أفريقيا" للرحالة محمد حسن الوزان في روايته "ليون الأفريقي". وهناك كُتّاب آخرون استلهموا أعمالهم من تلك الحقبة التاريخية المهمّة كسلام عبود في روايته عن ابن زريق البغدادي، ولؤي عبدالإله في رواية، لم أقرأها بعد، عن ابن عربي.
انضم الروائي السعودي محمد حسن علوان إلى نادي المعتكفين في الخوانق والجبال، فجلس على حصير ابن عربي، وأنعش سيرة شيخ جليل اختلف الفقهاء والعلماء حوله، فمنهم من دافع عنه كالسيوطي والفيروز آبادي والسهروردي، ومنهم من خالفه، كابن خلدون، ومنهم من كفّره وأخرجه من الملة باعتبار أن كتابه "فصوص الحكم" قد اشتمل على الكفر الصريح برأيهم. وكل ذلك الجدال حوله لم يزد المتصوف الأشهر محيي الدين بن عربي إلا مكانة عظمى في قلوب محبيه، فلُقّب بالشيخ الأكبر وسلطان العارفين، وأصبحت صورته عابرة للزمان والمكان حتى حظيت بتراجم ومؤلفات كثيرة.
ولد محيي الدين بن عربي في مدينة مرسية بالاندلس، وتوفي في دمشق ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر. ومكانته كشيخ متصوف، كما يرى نصر حامد أبو زيد، مثّلت حالة متقدمة من نضج الفكر الاسلامي في مجال اللاهوت والفلسفة والتصوف.
ونظر إليه أبو زيد بوصفه همزة وصل بين التراث العالمي والتراث الإسلامي. كان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف. وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها. هكذا يرد في السير والتراجم، ولكن الرواية تُظهر الأب كاتباً في بلاط الموحّدين، مقرباً لا غنى عنه لدى أولياء الأمر، ومع ذلك حرص على حضور ابنه لحلقات الدرس في الجوامع، ودفع به إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فنشأ ملمّاً بالقرآن والحديث والتفاسير.
هناك في اشبيلية تحدث خلوته الأولى مع شيخه يوسف الكومي، حيث انهمرت عليه شلالات الرؤى، ومن إشبيلية إلى قرطبة حيث يتردد اسم ابن رشد في كل مكان. وفي لقاء يتسم بالبرود، وفقاً للرواية، سيدور الحوار بين عالم يؤمن بالمنطق والقانون وشيخ يؤمن بالكشوفات وما يدرج عليه أهل التصوف. إنه اللقاء مع ابن رشد الذي كان يجد الحسن ما حسنه العقل، والقبح ما قبحه العقل. وكان موضع احترام الخلفاء ثم ريبتهم ثم تنكيلهم، ونظن أن هذا السلوك هو المعتاد في العلاقة بين الحاكم والفيلسوف، ولكن الروائي يجعل ابن عربي يشعر بالذنب لشبهة كونه مشاركاً في إغضاب الخليفة على ابن رشد. فعندما يسأله الخليفة أيهم أنفع للخليفة يقول له:
- إنك إذا ركنت للفقهاء عطّلوا عقلك، وإذا ركنت للفلاسفة عطّلوا قلبك، واذا ركنت للأولياء جعلوا قلبك وعقلك تحت نور الله المبين.
- أنت تتعصب للمتصوفة لأنك منهم.
- يا أمير المؤمنين، لقد فقهت من الدين فوق فقه الفقهاء، ومن الفلسفة فوق فلسفة الفلاسفة، ولو شئتُ أن أكون فقيهاً كابن حزم لكنت، أو فيلسوفاً مثل ابن طفيل لكنت، أو كليهما كابن رشد لكنت، ولكن الله اختار لي أن أكون من أهل الطريق فكنت.
بعد سنوات سينادي منادٍ في السوق أن من كان عنده مخطوط أو كتاب لابن رشد يتعاطى علوم المنطق والفلسفة فليحرقه وإلا جلده الوالي.. يُستثنى من ذلك ما كان في الطب والحساب وعلم النجوم، فيخرج الوراقون كل ما لديهم من كتب ابن رشد لكومة سيتم إضرام النار فيها، ويُنفى ابن رشد الى قرية يهودية فيشعر ابن عربي بالذنب. شيء في داخله يقول إنه قد أسهم في نقمة الخليفة عليه عندما سأله عن رأيه بالفلاسفة والمتكلمين. ولكن ابن عربي يصرف هذا الفكرة عن ذهنه متعللاً بأن الخلفاء يكرهون الفلاسفة.
ومن مراكش تبدأ رحلته إلى مكة عبر مدن الشمال الإفريقي، ومعها يبدأ المسار الموازي لترحال ابن عربي من الأندلس إلى مكة، وهو المسار الذي يعرفنا بأهوال وأطماع ومصالح سياسية غطاؤها الدين وواقعها حروب وثورات وقلاقل حاقت بهذه المنطقة سواء في الأندلس أو المغرب أو المشرق. وكلما تغير خليفة تغيرت معه أحوال الفقهاء والمذاهب، فهذا يقرب المذهب الفلاني وذاك يستبعده.
أما مع المتصوف العاشق ابن عربي فما الرحلة الطويلة إلا الطريق الذي يتشوف من خلاله ولاية أو وتداً أو كشفاً من الكشوفات حتى يحل به الرحال في مكة التي تُلقي عليه بشباك العشق، ثم بغداد التي يعثر فيها على وتده الثالث. ومع كل مقام هناك مقال يجعلنا ندرك الجهد الهائل الذي انكتبت فيه الرواية، وروعة المخيال الذي صاغ للحقائق حكاية ساحرة، ومع ذلك يساورنا القلق عن الحد الفاصل بين الاختراع والحقيقة، وهل يسوّغ هذا الجنس الأدبي المسمى بالرواية تذويب هذا الحد في مخيال السرد؟
فمثلاً جاء في المصادر أن حلقة الوصل بين ابن عربي وبين جلال الدين الرومي تمت عن طريق تلميذ من المتأخرين اسمه صدر الدين القوني، ونسبها الروائي إلى حادثة أخرى عند العثور على الوتد الرابع لابن عربي، وهو شمس التبريزي، وقد مر بها الروائي مرور الكرام، بينما تمهل في وصف لقاءاته مع باقي الأقطاب والشيوخ، وصحبته المؤثرة مع خادمه ورفيقه بدر الحبشي.
وفي الحالين من التمهل كان السرد أخاذاً ممتعاً مبدعاً، إلى أن حدث التكرار في وصف الفيافي والمدن والقوافل والخانات، فبدا علوان من الروائيين الذين تغريهم زيادة في عديد الصفحات، فصبرنا عليها صبراً يعول عليه.
بالإضافة إلى خط الترحال المستمر، هناك فصول كتبت بحبر غامق عن ترحال مخطوطات ابن عربي بعد وفاته وتهريبها المستمر من دمشق إلى الكرك إلى الأستانة ثم باريس ثم دمشق مرة أخرى بعد إنقاذها من أحداث حماة عام 1982، وهي فصول مهمة وحيوية تربط الماضي البعيد بالقريب، ما عدا فصل حماه الذي وجدته إشكالياً لا منتمياً للرواية باعتباره قد وقع في فخ المباشرة، وخلط انحياز السياسة بحيدة الفن، وإذا كان بعض الروائيين أصبحوا يثبّتون مصادرهم التاريخية في أعمالهم، كما في "عشاق وفونوغراف وأزمنة" للطفية الدليمي، و"دروز بلغراد" لربيع جابر، وإلى حد ما، أليف شافاك في "قواعد العشق الأربعون" بنسختها الإنكليزية، فان علوان له قاعدة أخرى، تحيل إليها النسخة التي بين يدي، جعلت أدوات البحث في خدمة السرد دون الحاجة للتشويش بالمراجع والمصادر على بصمة الفن الروائي.
مما جاء في بعض الأسباب عن استحقاق الرواية للجائزة رصدها وتعريفها بأماكن وأحوال المدن التي مر بها ابن عربي. وأرى أن هذا المسار الأفقي هو مما نستطيع الحصول عليه في أيّ كتاب من كتب الرحالة والمؤرخين، بينما مسارتها الرأسية الأخرى هي التي تستحق التوقف والانبهار، وأولها ثراء اللغة التي يستعملها الكاتب محمد حسن علوان، والتي تعكس ثراء المضمون وأهميته الى درجة مدهشة.
صحيح أن الروائي يستعمل أسلوب الأعمال الموسوعية التاريخية الضخمة سارداً الأحداث على طريقتهم باباً بباب مع تقلب السنين وتعاقب الحدثين، إلا أن سياحته الفذّة في القلوب والعقول تدل على رهافة في المشاعر رهفت معها لغته وانتباهاته الجميلة التي سحرتنا، فكأنه مريد عاشق يكتب عن شيخ عاشق توله في الحب الإلهي، وذاب في عشق ابنة شيخه نظام التي كتب في "ترجمان الأشواق"، يغار عليها؟ ومن قال إن الأولياء لا يشعرون بالغيرة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.