5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحب خَلاصُنا
نشر في صوت البلد يوم 09 - 07 - 2017

قبل انتهائه بأيام، وتحت دفع النجاح الجماهيري الكبير الذي حققه، شاهدتُ العرض المسرحي «قواعد العشق ال40» المأخوذ عن الرواية الشهيرة التي تحمل الاسم ذاته للتركية إليف شافاق، على مسرح السلام في القصر العيني في القاهرة، ومن إنتاج المسرح الحديث. وللأمانة، لم تكن الإيرادات الكبيرة وحدها هي المفاجأة التي حققها العرض المسرحي (الأرقام هي الأعلى بين عروض المسرح الحديث التابع للدولة في العشرين سنة الأخيرة)، لكن المفاجأة الأكبر هي ذلك الإقبال الجماهيري الكاسح، وامتلاء المسرح عن آخره في حفلات العرض وعدم وجود مقعد واحد شاغر، وهو ما يحمل دلالات عديدة أبسطها وأظهرها هو احتياج الجمهور لمثل هذه العروض لإعلان رفضها للتطرف والإرهاب والإقصاء والقمع، جمهور ينتظر الفرصة لإعلان تأييده ودعمه الفن والفكر والثقافة الحقيقية التي هي أساس المواجهة ولا شيء آخر.
في ظني أن هذا النجاح لعرض مسرحي في هذه الظروف التي يموج فيها عالمنا العربي المضطرب بصراعات وانقسامات وحروب واقتتالات تحت دعاوى دينية زائفة وشعارات مضللة، جاء ليعكس استدعاء موفقاً لتجربة صوفية إنسانية خالصة، بطلاها شخصيتان كبيرتان في تاريخ التصوف الإسلامي بل الإنساني كله، مولانا جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، هذا أولاً.
وثانياً، وبشكل جوهري، الرسائل التي أراد أن يوصلها العرض لجمهوره، وتتمحور حول نبذ العنف والكراهية ومعاداة الآخر، وتكريس المحبة الحقيقية كأساس للتعامل بين البشر، القلب لا ثرثرة اللسان، الروح النقية الطاهرة لا المظهر الشكلي الخادع الفارغ، والامتلاء بحب الله لا احتكار الحديث باسمه أو نيابة عنه!
من ضمن هذه الرسائل أيضاً، أن طرق الوصول إلى الله بعدد البشر، وليس هناك طريق واحد أو وحيد للتعرف إليه والبحث عنه، المعراج الروحي هو «الجنة» التي لا يطمح الإنسان بعدها إلى شيء، فلا هو يعبد خالقه لأنه يخاف من النار، ولا هو يعبده طمعاً في الحور العين، ولكنه يعبده لأنه يحبه، الحب لا الكراهية هو طريق معرفة الله، وكلها أفكار تضرب التعصب والتطرف والإرهاب باسم الدين في مقتل.
رسائل ضد العنف
ساعتان ونصف هي مدة العرض الذي اجتهد في حدود إمكاناته المتاحة أن ينقل تلك الرسالة الإنسانية العظيمة، نحن من بين كل البشر الأكثر احتياجاً إليها وترجمتها إلى خطاب سائد وسلوك يومي معيش. الرسالة ببساطة كما جاءت على لسان الصوفي الجوّال شمس التبريزي (قام بدوره بهاء ثروت):
«لو أراد الله أن نكون متشابهين لخلقنا متشابهين، لذلك فإن عدم احترام الاختلاف وفرض أفكارك على الآخرين يعني عدم احترام النظام المقدس الذي أرساه الله».
هذا ببساطة هو جوهر المسرحية ورسالتها المباشرة، وكل ما جاء بعد ذلك من حوارات و«قواعد عشق» هي تنويعات عليها وتفريعات عنها. نبل الرسالة وعظم المقصد يستحقان الدعم والتأييد.
المسرحية وعبر عرض واحد متواصل (ليست مقسمة إلى فصول أو فواصل زمنية) وعبر المراوحة بين التمثيل والغناء، استدعت جانباً من سيرة مولانا جلال الدين الرومي، المتصوف الأشهر، وملابسات لقائه بالدرويش الجوال المثير للجدل شمس الدين التبريزي. بين لحظتي التعارف واللقاء ثم التواصل بين الشخصيتين الصوفيتين وحتى مقتل شمس التبريزي على يد المتعصبين من العوام والجهلة وبتحريض مباشر من رجال الدين المتطرفين وضيقي الأفق، تعرض المسرحية لمشاهد تجمع أبطالها أو شخصياتها المختلفة في تقاطعها مع «شمس التبريزي»:
- «ورد» الغانية التي يتدخل شمس لإنقاذها من عالمها الكئيب ودفعها في اتجاه العشق ومعرفة الله، فتتنكر في زي رجل كي تحضر خطبة للرومي في المسجد وتستمع إلى مواعظه.
- «كيميا» تلميذة الرومي، ومريدته الجميلة، خطيبة ابنه علاء الدين، لكن حياتها ستنقلب رأساً على عقب بتعرفها على شمس الذي تحبه وتهب نفسها له فتوغر صدر خطيبها عليه ويتحول علاء إلى عدو لدود لشمس.
- وأخيراً «كيرا» زوجة الرومي المسيحية (تخفي أيقونة العذراء عن أعين الرقباء خشية المساس بها) والتي تغار من شمس التبريزي، وترى أن ظهوره في حياة زوجها قد أفسد عليها حياتها.
صحيح أن صناّع العمل يعلنون أنها مستوحاة من رواية شافاق «قواعد العشق الأربعون»، لكنها في الحقيقة لا تأخذ من الرواية أكثر من الخط السردي المعني بعلاقة شمس التبريزي بجلال الدين الرومي وبحث كل منهما عن الآخر، وما بين ظهور التبريزي واختفائه من حياة الرومي قضيا أربعين ليلة في الخلوة يلقي فيها «شمس» بنور المعرفة والمحبة في قلب الرومي ويُملي عليه «قواعد العشق الأربعون»، ولتتغير حياته بعدها رأساً على عقب.
الحوارات التي دارت على الألسنة وبخاصة التي وردت على لسان التبريزي تم انتقاؤها بعناية لإيصال الرسائل المضادة للعنف والإرهاب والكراهية باسم الدين، كل ما ورد على لسان التبريزي ينطلق من فكرة المحبة الإلهية والعشق الأبدي، وأن محبة الله تستدعي بالضرورة نبذ الكراهية فلا حقد ولا ضغينة ولا نبذ ضد أي إنسان مهما كان، وبغض النظر عن لونه وعرقه وجنسه ودينه..
ملاحظات فنية
فنياً، ثمة ملاحظات عديدة على العمل، وأؤكد هنا أنه لولا أهميته واستحقاقه وضرورة دعمه جدياً ما سجلنا هذه الملاحظات. الدعم والتشجيع لا يكونان فقط بالإشادة والمغالاة في المدح، بل الأهم وضع اليد على نقاط الضعف وأوجه القصور بغية الوصول إلى الأحسن في المستقبل، والعمل على سد الثغرات واستكمال النواقص لنصل في النهاية إلى «منتجات ثقافية» محكمة ورفيعة وتخاطب جمهوراً واسعاً قادراً على تذوقه وتحليل جمالياته بوعي حقيقي.
بداية، العرض كان مثقلاً بحمولاته النصية المنقولة حرفاً من الكتب والمصادر التي أرّخت لجلال الدين الرومي وعلاقته بشمس الدين التبريزي (ربما كان من أهمها كتاب آية الله إبلاغ الأفغاني المعنون «جلال الدين الرومي بين التصوف وعلم الكلام» الذي صدرت منه طبعة حديثة قبل عامين عن الدار المصرية اللبنانية).
طبعاً المجهود الذي بذله فريق الكتابة مشكور لكن بدا أن أعضاء الفريق كانوا في حيرة بين الحفاظ على النصوص التي تحمل الرسائل المراد إيصالها بشكل مباشر (وهي مجموعة من المصادر التي أرّخت للرومي وسجلت مقولاته، سواء كانت كتبه ومؤلفاته أم دراسات وكتباً عنه) وبين إعمال الخيال والتصرف فيها لتترجم إلى حركة وفعل ومشهد درامي. ويبدو أنهم انحازوا إلى الخيار الأول، فقرروا الإبقاء على المتن المكتوب على حساب الحركة والحوار المسرحي والتمثيل. كانت الكتابة في حاجة إلى تكثيف شديد وإلى الدخول في المسرحية ومشاهدها دون تفصيل أو إغراق في النقل.
ربما لو كان فريق الكتابة انتبه لهذا الأمر لخرجت المسرحية بمشاهد باهرة مفعمة بالحيوية والدراما المؤثرة (إذا كان المشهد درامياً فلا بد من وجود الصراع، الصراع هو جوهر الدراما). لهذا السبب -تحديداً- افتقد العرض حيوية «الإيقاع» الدرامي فالحركة على المسرح كانت بطيئة للغاية وقاصرة عن التجسيد، ورغم وجود العديد من العناصر والأفكار في مشاهد بعينها كانت تتفجر دراما وحركة فإنها مرّت مرور الكرام، ولم ينجح صناع العرض في استغلالها وتخليق مشاهد قوية ومؤثرة منها مثلاً: (مشهد زيارة جلال الدين الرومي للحانة ولقائه مع السكارى والمخمورين، ومشهد تنكر الغانية «ورد» في زي رجل وحضورها خطبة جلال الرومي في المسجد، ومشهد مقتل شمس التبريزي على يد العوام من الجهال المتعصبين.. إلخ).
غلبت الرسالة المباشرة (وهي نبيلة وعظيمة) على الصنعة الفنية، فأصبحنا بإزاء «إذاعة ممسرحة» لا «معالجة مسرحية» بالمعنى الفني، كان بإمكان المشاهد أن يغمض عينيه ويسمع الحوارات أو بالأحرى العبارات المنقولة عن جلال الدين الرومي وشمس التبريزي والواردة على لسانيهما فقط، وأن يستمتع بالإنشاد والغناء المتخلل للمسرحية، لم يكن سيفوته سوى أداء راقصي المولوية فقط!
كما افتقد العرض لحضور تمثيلي مشع ومتوهج، صحيح أن هناك ممثلين وممثلات من الموهوبين حقاً، لكن للأسف لم يتمكنوا من إبراز كل طاقاتهم وإمكاناتهم التمثيلية تحت وطأة أو غلبة النص على الحركة والتمثيل.
تفكيك ألغام الحقد
فكرة عرض كهذا تحاول أن ترد بكل بساطة (رغم التحفظات التي أوردناها على فنيات العمل) على ألغام الحقد والكراهية التي تتفجر في وجوهنا كل حين (مرة في برنامج ديني ينزلق مُقدمه إلى إعلان تكفير المخالفين في الديانة بالبساطة التي يقتل بها داعشي ضحية من ضحاياه.. ومرة بتأجيج جدل لا داعي له حول شخصية تاريخية بطريقة إثارية ودعائية.. ومرة عن طريق الحشد الإعلامي الموجه لخدمة الأفكار المتطرفة والتيارات الإرهابية التي تتمسح بالدين.. إلخ).
وكلهم - في النهاية - أدرك شيئاً وغابت عنه أشياء، فالمحبة لا تدرك إلا بالمعاينة ومجاهدة التجربة.. وقد يولد المرء ويحيا ويموت ولم ينل شيئاً من المحبة ولا خبرها ولا عرف عنها شيئاً وهو متوهم أنه من كبار العشاق وسادة المحبين، ولا يعرف أن المحبة لا تكتمل ولا تأتي أكلها إلا إذا اقتلعت الكراهية والتعصب من جذورها ونقت الروح من أي ظلال لونية غير الأبيض رمز النقاء والشفافية والصفاء.
بالتأكيد، أي مجهود نبيل مثل هذا يستحق التقدير والتشجيع.. ولو أننا كرسنا الاتجاه إلى مثل هذه الأعمال في مواجهة الكراهية والغلّ المتفشي بسبب سيادة أنماط من التدين الأحمق المتعصب الجاهل وعملنا على شيوع هذه الثقافة في مدارسنا ومسارحنا ومؤسساتنا، وكل مكان حولنا، لربما استطعنا في غضون عقود قليلة إخماد كثير من الحرائق وردم كثير من آبار الحقد الأسود والتطرف المقيت والتعصب الأعمى.. ولعلنا نردد مع التبريزي في المسرحية: »يوجد مكان واحد فقط تستطيع أن تبحث فيه عن الله، وهو قلب عاشق حقيقي».
كادر العمل
«قواعد العشق 40»، إعداد مسرحي وإشراف على الكتابة رشا عبد المنعم، وشارك في الكتابة ياسمين إمام شغف وخيري الفخراني، أما التمثيل فكان ل« بهاء ثروت، وفوزية محمد، عزت زين، دينا أحمد، ياسر أبو العينين، هاني عبد الحي، محمد عبد الرشيد، إيهاب بكير، هشام علي، حسام أبو السعود، هاني ماهر، إسلام بشبيشي، وبمشاركة فرقة المولوية العربية».
وقام بالتمثيل والغناء سمير عزمي وأميرة أبو زيد (قاما بغناء مقاطع مختارة من عيون الشعر الصوفي في الحب الإلهي ل ابن الفارض، ورابعة العدوية، والسهروردي، وأبو مدين الغوث ومحيي الدين ابن عربي). موسيقى وألحان د. محمد حسني، وديكور مصطفى حامد، أزياء مها عبد الرحمن، إضاءة إبراهيم الفرن، ومخرج منفذ حازم الكفراوي، ومن إخراج عادل حسان.
قبل انتهائه بأيام، وتحت دفع النجاح الجماهيري الكبير الذي حققه، شاهدتُ العرض المسرحي «قواعد العشق ال40» المأخوذ عن الرواية الشهيرة التي تحمل الاسم ذاته للتركية إليف شافاق، على مسرح السلام في القصر العيني في القاهرة، ومن إنتاج المسرح الحديث. وللأمانة، لم تكن الإيرادات الكبيرة وحدها هي المفاجأة التي حققها العرض المسرحي (الأرقام هي الأعلى بين عروض المسرح الحديث التابع للدولة في العشرين سنة الأخيرة)، لكن المفاجأة الأكبر هي ذلك الإقبال الجماهيري الكاسح، وامتلاء المسرح عن آخره في حفلات العرض وعدم وجود مقعد واحد شاغر، وهو ما يحمل دلالات عديدة أبسطها وأظهرها هو احتياج الجمهور لمثل هذه العروض لإعلان رفضها للتطرف والإرهاب والإقصاء والقمع، جمهور ينتظر الفرصة لإعلان تأييده ودعمه الفن والفكر والثقافة الحقيقية التي هي أساس المواجهة ولا شيء آخر.
في ظني أن هذا النجاح لعرض مسرحي في هذه الظروف التي يموج فيها عالمنا العربي المضطرب بصراعات وانقسامات وحروب واقتتالات تحت دعاوى دينية زائفة وشعارات مضللة، جاء ليعكس استدعاء موفقاً لتجربة صوفية إنسانية خالصة، بطلاها شخصيتان كبيرتان في تاريخ التصوف الإسلامي بل الإنساني كله، مولانا جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، هذا أولاً.
وثانياً، وبشكل جوهري، الرسائل التي أراد أن يوصلها العرض لجمهوره، وتتمحور حول نبذ العنف والكراهية ومعاداة الآخر، وتكريس المحبة الحقيقية كأساس للتعامل بين البشر، القلب لا ثرثرة اللسان، الروح النقية الطاهرة لا المظهر الشكلي الخادع الفارغ، والامتلاء بحب الله لا احتكار الحديث باسمه أو نيابة عنه!
من ضمن هذه الرسائل أيضاً، أن طرق الوصول إلى الله بعدد البشر، وليس هناك طريق واحد أو وحيد للتعرف إليه والبحث عنه، المعراج الروحي هو «الجنة» التي لا يطمح الإنسان بعدها إلى شيء، فلا هو يعبد خالقه لأنه يخاف من النار، ولا هو يعبده طمعاً في الحور العين، ولكنه يعبده لأنه يحبه، الحب لا الكراهية هو طريق معرفة الله، وكلها أفكار تضرب التعصب والتطرف والإرهاب باسم الدين في مقتل.
رسائل ضد العنف
ساعتان ونصف هي مدة العرض الذي اجتهد في حدود إمكاناته المتاحة أن ينقل تلك الرسالة الإنسانية العظيمة، نحن من بين كل البشر الأكثر احتياجاً إليها وترجمتها إلى خطاب سائد وسلوك يومي معيش. الرسالة ببساطة كما جاءت على لسان الصوفي الجوّال شمس التبريزي (قام بدوره بهاء ثروت):
«لو أراد الله أن نكون متشابهين لخلقنا متشابهين، لذلك فإن عدم احترام الاختلاف وفرض أفكارك على الآخرين يعني عدم احترام النظام المقدس الذي أرساه الله».
هذا ببساطة هو جوهر المسرحية ورسالتها المباشرة، وكل ما جاء بعد ذلك من حوارات و«قواعد عشق» هي تنويعات عليها وتفريعات عنها. نبل الرسالة وعظم المقصد يستحقان الدعم والتأييد.
المسرحية وعبر عرض واحد متواصل (ليست مقسمة إلى فصول أو فواصل زمنية) وعبر المراوحة بين التمثيل والغناء، استدعت جانباً من سيرة مولانا جلال الدين الرومي، المتصوف الأشهر، وملابسات لقائه بالدرويش الجوال المثير للجدل شمس الدين التبريزي. بين لحظتي التعارف واللقاء ثم التواصل بين الشخصيتين الصوفيتين وحتى مقتل شمس التبريزي على يد المتعصبين من العوام والجهلة وبتحريض مباشر من رجال الدين المتطرفين وضيقي الأفق، تعرض المسرحية لمشاهد تجمع أبطالها أو شخصياتها المختلفة في تقاطعها مع «شمس التبريزي»:
- «ورد» الغانية التي يتدخل شمس لإنقاذها من عالمها الكئيب ودفعها في اتجاه العشق ومعرفة الله، فتتنكر في زي رجل كي تحضر خطبة للرومي في المسجد وتستمع إلى مواعظه.
- «كيميا» تلميذة الرومي، ومريدته الجميلة، خطيبة ابنه علاء الدين، لكن حياتها ستنقلب رأساً على عقب بتعرفها على شمس الذي تحبه وتهب نفسها له فتوغر صدر خطيبها عليه ويتحول علاء إلى عدو لدود لشمس.
- وأخيراً «كيرا» زوجة الرومي المسيحية (تخفي أيقونة العذراء عن أعين الرقباء خشية المساس بها) والتي تغار من شمس التبريزي، وترى أن ظهوره في حياة زوجها قد أفسد عليها حياتها.
صحيح أن صناّع العمل يعلنون أنها مستوحاة من رواية شافاق «قواعد العشق الأربعون»، لكنها في الحقيقة لا تأخذ من الرواية أكثر من الخط السردي المعني بعلاقة شمس التبريزي بجلال الدين الرومي وبحث كل منهما عن الآخر، وما بين ظهور التبريزي واختفائه من حياة الرومي قضيا أربعين ليلة في الخلوة يلقي فيها «شمس» بنور المعرفة والمحبة في قلب الرومي ويُملي عليه «قواعد العشق الأربعون»، ولتتغير حياته بعدها رأساً على عقب.
الحوارات التي دارت على الألسنة وبخاصة التي وردت على لسان التبريزي تم انتقاؤها بعناية لإيصال الرسائل المضادة للعنف والإرهاب والكراهية باسم الدين، كل ما ورد على لسان التبريزي ينطلق من فكرة المحبة الإلهية والعشق الأبدي، وأن محبة الله تستدعي بالضرورة نبذ الكراهية فلا حقد ولا ضغينة ولا نبذ ضد أي إنسان مهما كان، وبغض النظر عن لونه وعرقه وجنسه ودينه..
ملاحظات فنية
فنياً، ثمة ملاحظات عديدة على العمل، وأؤكد هنا أنه لولا أهميته واستحقاقه وضرورة دعمه جدياً ما سجلنا هذه الملاحظات. الدعم والتشجيع لا يكونان فقط بالإشادة والمغالاة في المدح، بل الأهم وضع اليد على نقاط الضعف وأوجه القصور بغية الوصول إلى الأحسن في المستقبل، والعمل على سد الثغرات واستكمال النواقص لنصل في النهاية إلى «منتجات ثقافية» محكمة ورفيعة وتخاطب جمهوراً واسعاً قادراً على تذوقه وتحليل جمالياته بوعي حقيقي.
بداية، العرض كان مثقلاً بحمولاته النصية المنقولة حرفاً من الكتب والمصادر التي أرّخت لجلال الدين الرومي وعلاقته بشمس الدين التبريزي (ربما كان من أهمها كتاب آية الله إبلاغ الأفغاني المعنون «جلال الدين الرومي بين التصوف وعلم الكلام» الذي صدرت منه طبعة حديثة قبل عامين عن الدار المصرية اللبنانية).
طبعاً المجهود الذي بذله فريق الكتابة مشكور لكن بدا أن أعضاء الفريق كانوا في حيرة بين الحفاظ على النصوص التي تحمل الرسائل المراد إيصالها بشكل مباشر (وهي مجموعة من المصادر التي أرّخت للرومي وسجلت مقولاته، سواء كانت كتبه ومؤلفاته أم دراسات وكتباً عنه) وبين إعمال الخيال والتصرف فيها لتترجم إلى حركة وفعل ومشهد درامي. ويبدو أنهم انحازوا إلى الخيار الأول، فقرروا الإبقاء على المتن المكتوب على حساب الحركة والحوار المسرحي والتمثيل. كانت الكتابة في حاجة إلى تكثيف شديد وإلى الدخول في المسرحية ومشاهدها دون تفصيل أو إغراق في النقل.
ربما لو كان فريق الكتابة انتبه لهذا الأمر لخرجت المسرحية بمشاهد باهرة مفعمة بالحيوية والدراما المؤثرة (إذا كان المشهد درامياً فلا بد من وجود الصراع، الصراع هو جوهر الدراما). لهذا السبب -تحديداً- افتقد العرض حيوية «الإيقاع» الدرامي فالحركة على المسرح كانت بطيئة للغاية وقاصرة عن التجسيد، ورغم وجود العديد من العناصر والأفكار في مشاهد بعينها كانت تتفجر دراما وحركة فإنها مرّت مرور الكرام، ولم ينجح صناع العرض في استغلالها وتخليق مشاهد قوية ومؤثرة منها مثلاً: (مشهد زيارة جلال الدين الرومي للحانة ولقائه مع السكارى والمخمورين، ومشهد تنكر الغانية «ورد» في زي رجل وحضورها خطبة جلال الرومي في المسجد، ومشهد مقتل شمس التبريزي على يد العوام من الجهال المتعصبين.. إلخ).
غلبت الرسالة المباشرة (وهي نبيلة وعظيمة) على الصنعة الفنية، فأصبحنا بإزاء «إذاعة ممسرحة» لا «معالجة مسرحية» بالمعنى الفني، كان بإمكان المشاهد أن يغمض عينيه ويسمع الحوارات أو بالأحرى العبارات المنقولة عن جلال الدين الرومي وشمس التبريزي والواردة على لسانيهما فقط، وأن يستمتع بالإنشاد والغناء المتخلل للمسرحية، لم يكن سيفوته سوى أداء راقصي المولوية فقط!
كما افتقد العرض لحضور تمثيلي مشع ومتوهج، صحيح أن هناك ممثلين وممثلات من الموهوبين حقاً، لكن للأسف لم يتمكنوا من إبراز كل طاقاتهم وإمكاناتهم التمثيلية تحت وطأة أو غلبة النص على الحركة والتمثيل.
تفكيك ألغام الحقد
فكرة عرض كهذا تحاول أن ترد بكل بساطة (رغم التحفظات التي أوردناها على فنيات العمل) على ألغام الحقد والكراهية التي تتفجر في وجوهنا كل حين (مرة في برنامج ديني ينزلق مُقدمه إلى إعلان تكفير المخالفين في الديانة بالبساطة التي يقتل بها داعشي ضحية من ضحاياه.. ومرة بتأجيج جدل لا داعي له حول شخصية تاريخية بطريقة إثارية ودعائية.. ومرة عن طريق الحشد الإعلامي الموجه لخدمة الأفكار المتطرفة والتيارات الإرهابية التي تتمسح بالدين.. إلخ).
وكلهم - في النهاية - أدرك شيئاً وغابت عنه أشياء، فالمحبة لا تدرك إلا بالمعاينة ومجاهدة التجربة.. وقد يولد المرء ويحيا ويموت ولم ينل شيئاً من المحبة ولا خبرها ولا عرف عنها شيئاً وهو متوهم أنه من كبار العشاق وسادة المحبين، ولا يعرف أن المحبة لا تكتمل ولا تأتي أكلها إلا إذا اقتلعت الكراهية والتعصب من جذورها ونقت الروح من أي ظلال لونية غير الأبيض رمز النقاء والشفافية والصفاء.
بالتأكيد، أي مجهود نبيل مثل هذا يستحق التقدير والتشجيع.. ولو أننا كرسنا الاتجاه إلى مثل هذه الأعمال في مواجهة الكراهية والغلّ المتفشي بسبب سيادة أنماط من التدين الأحمق المتعصب الجاهل وعملنا على شيوع هذه الثقافة في مدارسنا ومسارحنا ومؤسساتنا، وكل مكان حولنا، لربما استطعنا في غضون عقود قليلة إخماد كثير من الحرائق وردم كثير من آبار الحقد الأسود والتطرف المقيت والتعصب الأعمى.. ولعلنا نردد مع التبريزي في المسرحية: »يوجد مكان واحد فقط تستطيع أن تبحث فيه عن الله، وهو قلب عاشق حقيقي».
كادر العمل
«قواعد العشق 40»، إعداد مسرحي وإشراف على الكتابة رشا عبد المنعم، وشارك في الكتابة ياسمين إمام شغف وخيري الفخراني، أما التمثيل فكان ل« بهاء ثروت، وفوزية محمد، عزت زين، دينا أحمد، ياسر أبو العينين، هاني عبد الحي، محمد عبد الرشيد، إيهاب بكير، هشام علي، حسام أبو السعود، هاني ماهر، إسلام بشبيشي، وبمشاركة فرقة المولوية العربية».
وقام بالتمثيل والغناء سمير عزمي وأميرة أبو زيد (قاما بغناء مقاطع مختارة من عيون الشعر الصوفي في الحب الإلهي ل ابن الفارض، ورابعة العدوية، والسهروردي، وأبو مدين الغوث ومحيي الدين ابن عربي). موسيقى وألحان د. محمد حسني، وديكور مصطفى حامد، أزياء مها عبد الرحمن، إضاءة إبراهيم الفرن، ومخرج منفذ حازم الكفراوي، ومن إخراج عادل حسان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.