اليوم.. «بيت الزكاة والصدقات» يقدِّم 4000 وجبة إفطار للصائمين بالجامع الأزهر    الفاصوليا ب 70 جنيهًا.. أسعار البقوليات في أسواق الشرقية الخميس 5 يونيو 2025    ارتفاع عالمي في أسعار الذهب اليوم الخميس 5 يونيو 2025.. كم سجل الجرام الآن؟    17 مصابًا جراء هجوم روسي واسع على خاركيف شرقي أوكرانيا    وزير الخارجية الأمريكي: استخدمنا الفيتو لحماية جهودنا الدبلوماسية ولن نتخلى عن دعم إسرائيل    تشكيل الزمالك المتوقع ضد بيراميدز في نهائي كأس مصر.. الجزيري يقود الهجوم    نتيجة ثالثة إعدادي محافظة جنوب سيناء بالاسم و رقم الجلوس.. متي تظهر؟ (الرابط الرسمي)    أفضل دعاء للمتوفى في يوم عرفة 2025 مكتوب.. أدعية مستجابة تنير القبور رددها كثيرًا الآن    ناجي الشهابي مهنئًا الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك: نقف خلفكم.. ومواقفكم أعادت لمصر دورها القيادي    قرار ترامب بحظر دخول مواطني 12 دولة إلى الولايات المتحدة يدخل حيز التنفيذ 9 يونيو    قاضٍ أمريكي يوقف ترحيل عائلة المصري المشتبه به في هجوم كولورادو    المصرية للاتصالات WE تطلق رسميًا خدمات الجيل الخامس في مصر لدعم التحول الرقمي    «اصبر أحنا مطولين مع بعض».. محامي زيزو يتوعد عضو مجلس الزمالك بعد واقعة الفيديو    رد جديد من اتحاد الكرة بشأن أزمة عقد زيزو مع الزمالك: «ملتزمون بهذا الأمر»    بعثة الأهلى تغادر مطار دبى إلى أمريكا للمشاركة فى كأس العالم للأندية    «أضحى الخير» يرسم البسمة على وجوه 5 آلاف أسرة بالوادي الجديد.. صور    ارتفاع درجات الحرارة والعظمى في القاهرة 35.. حالة الطقس يوم عرفة    إصابة 3 أشخاص في انقلاب ملاكي بمحور أسيوط - الوادي الجديد    طرح البوستر الدعائي الأول ل "the seven dogs" بطولة كريم عبد العزيز وأحمد عز    حزب الوعي: نخوض الانتخابات البرلمانية على 60% من مقاعد الفردي    دعاء يوم عرفة مستجاب في 9 أوقات للحاج وغير الحاج ( تعرف عليها)    بث مباشر جبل عرفات الآن لحظة بلحظة.. توافد الحجاج على عرفة لأداء ركن الحج الأعظم    «صحة مطروح» تستعد لعيد الأضحى    موعد أذان الفجر اليوم في القاهرة وجميع المحافظات للصائمين يوم عرفة    تهنئة عيد الأضحى 2025.. أجمل عبارات التهنئة لأحبائك وأصدقائك (ارسلها الآن)    غرفة عمليات ذكية لضمان أجواء آمنة.. صحة مطروح تُجهز الساحل الشمالي ل صيف 2025    ب3 أرقام.. كريستيانو رونالدو يواصل كتابة التاريخ مع البرتغال    بحضور نجوم الفن.. حماقي وبوسي يحييان حفل زفاف محمد شاهين ورشا الظنحاني    أحمد سالم: صفقة انتقال بيكهام إلى الأهلي "علامة استفهام"    رسميًا.. الهلال السعودي يعلن تعاقده مع سيموني إنزاجي خلفًا لجيسوس    «الأرصاد» تكشف عن حالة الطقس اليوم الخميس.. والعظمى بالقاهرة 35    هل تسقط مع الظهر بصلاة العيد؟.. حكم صلاة الجمعة يوم «الأضحى المبارك»    أمين مجمع البحوث الإسلامية الأسبق يكرم حفظة القرآن الكريم بمدينة طهطا    بعد ارتفاع عيار 21 لأعلى سعر.. أسعار الذهب اليوم الخميس 5 يونيو بالصاغة محليًا وعالميًا    نجاح أول جراحة لاستبدال الشريان الأورطي بمستشفى المقطم للتأمين الصحي    نصائح مهمة يجب اتباعها على السحور لصيام يوم عرفة بدون مشاكل    صحة الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى خلال إجازة عيد الأضحى    نجاة السيناريست وليد يوسف وأفراد أسرته من حادث سير مروع    أغانى الحج.. رحلة من الشوق والإيمان إلى البيت الحرام    أيمن بهجت قمر يحتفل بتخرج ابنه: أخيرا بهجت عملها (صور)    القائد العام للقوات المسلحة ووزير خارجية بنين يبحثان التعاون فى المجالات الدفاعية    مطار العاصمة الإدارية يستقبل أولى الرحلات القادمة من سلوفاكيا على متنها 152 راكبا (صور)    محافظ الدقهلية يتابع عمليات نظافة الحدائق والميادين استعدادا للعيد    الرسوم الجمركية «مقامرة» ترامب لانتشال الصناعة الأمريكية من التدهور    حدث ليلًا| استرداد قطعًا أثرية من أمريكا وتفعيل شبكات الجيل الخامس    دعاء من القلب بصوت الدكتور علي جمعة على قناة الناس.. فيديو    الوزير: "لدينا مصنع بيفتح كل ساعتين صحيح وعندنا قائمة بالأسماء"    قبل صدام بيراميدز.. كم مرة توج الزمالك ببطولة كأس مصر بالألفية الجديدة؟    التعليم العالى تعتزم إنشاء أكبر مجمع صناعي للأجهزة التعويضية    مسابقة لتعيين 21 ألف معلم مساعد    مصادر مطلعة: حماس توافق على مقترح «ويتكوف» مع 4 تعديلات    قمة مصرية - إماراتية تطالب بالوقف الفوري للحرب في غزة    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم عزون شرق قلقيلية بالضفة الغربية    حفروا على مسافة 300 متر من طريق الكباش.. و«اللجنة»: سيقود لكشف أثري كبير    نجل سميحة أيوب يكشف موعد ومكان عزاء والدته الراحلة    "عصام" يطلب تطليق زوجته: "فضحتني ومحبوسة في قضية مُخلة بالشرف"    دبلوماسية روسية: أمريكا أكبر مدين للأمم المتحدة بأكثر من 3 مليارات دولار    فوائد اليانسون يخفف أعراض سن اليأس ويقوي المناعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رائحة "الحلوة ".. جزء من ميثولوجيا وجودها
نشر في صوت البلد يوم 29 - 06 - 2017

تشهد الرواية العراقية نموا لافتا وحركة تطور كبرى، حيث انخرطت أكثر في الواقع دون أن تتخلى عن عجائبيتها في بلد مليء بالأساطير والحكايات وحتى واقعه عجيب، زاخر بالأحداث والشخوص والأمكنة المشحونة بصدى التاريخ.
وتنفتح رواية “الحلوة” للروائي العراقي وارد بدر السالم على فضاءات سردية شتى، تتقصى من خلالها مراثي الجسد، وعجائب الحرب، فهي تلامس خفايا الواقع العراقي وفنطازيته، مثلما تستعير من المُتخيّل السردي تقاناته البنائية، وتمثلاته التعبيرية.
هذه المزاوجة تكشف عما هو مضمر في تلك الفضاءات، عبر تسجيل الوقائع، وتقصّي مفارقات الزمن السياسي، والزمن النفسي للشخصيات، وكأنّ الروائي حاول أنْ يختار هذه الشخصيات المُعذّبة ليرسم من خلالها ملامح ذلك الزمن، وتحولاته الصاعقة.
بقدر ما اشتغلت الرواية على ثيمة واحدة ذات علاقة مع تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق والحرب الأهلية، ذهبت مستويات بنائها السردي وتمثلاتها بعيدا باتجاه الكشف عن "احتلالات" نفسية وسياسية مجاورة، لكنها أكثر رعبا، وأكثر تمثّلا لمحنة الوجود والهوية والجسد التي عاشت تداعيات شخصيات الرواية، الصادرة مؤخرا عن دار سطور للنشر والتوزيع.
ثيمة "زنا المحارم" هي واحدة من حوافز استثارة الفواعل السردية في الرواية، إذ وضعت شخصية الحلوة/ ريحانة أمام رهابها الأخلاقي والإنساني، مثلما وضعت شخصية الخال طارق/ مارك الأميركي أمام زيف وتشوه أنموذجه المخلوط بالوهم الأميركي، وبأفكاره الغرائبية عن الحرية والعائلة والحب.
مثلما نجد ثيمة "الفقد" في الرواية وقد استغرقت وصف الأحداث والشخصيات، باتت هي الأقرب إلى تكوين بؤرة التصوير السردي، لما هو عميق في دواخل الشخصيات، ولما تعانيه من تشوهات غائرة، حيث نجد كل شخصيات الرواية تعاني من الإحساس بهذه العاهة، وكأن حدث الاحتلال، بوصفه فقدا وجوديا مهيمنا، يتعمّق من خلال سلسلة تلك "الفقدانات" التي تعيشها الشخصيات، عبر فقدان شروط وجودها العائلي والأخلاقي وحتى "الوطني"، وعبر تشوه وجودها في السياق الاجتماعي، وهو ما يجعلها أكثر تصادما مع الواقع، وأكثر إحساسا برغبات التمرد عليه.
هذه التمثلات لا تعني فقط وجود الشخصية الروائية المُستلبة إزاء الآخر، بقدر ما تعني تشظيها أيضا، إلى حدّ أنها تقاطع ذاتها، فالحلوة تفقد أباها في الحرب الطائفية وتفقد عذريتها لتعيش رعب تقاطعها الداخلي، والأم تفقد زوجها لتعيش رعب وحدتها، وأزهار تفقد حلمتها، والخال طارق يفقد وجوده القيمي من خلال ارتكابه زنا المحارم مع ابنة أخته، ليعيش أيضا محنة تقاطعه مع تاريخه القروي، ومع أقنعة هويته الأميركية المضللة، والتي جعلته شخصية مشبوهة، تُدير صفقات مع سياسيي الحرب، وتؤدي وظائف قذرة، وكذلك عادل العاشق لريحانة، يعيش هو الآخر رعب فقدان ساقيه خلال المواجهة مع الجماعات الإرهابية.
الرواية اعتمدت على تعدد الأصوات للتعبير عن هواجس الشخصيات، من خلال مونولوجات داخلية تكشف أعماقها.
رائحة الحلوة المثيرة هي جزء من ميثولوجيا وجودها، ومن حكايات المكان العراقي ومورثاته عن الجدّات، وعن المشط السحري الذي يبعث رائحة غريبة. هذه الرائحة تحولت إلى وظيفة توصيلية، وإلى عنصر مهم في تشكيل ملامح بناء الشخصية، في رمزيتها، وفي علامتها اللغوية داخل مجرى الرواية، إذ تحولت إلى مفارقة في الكشف عن علاقة الفعل بغيابه، والشخصية بضدها، والمكان بمحوه، فالرائحة تقود الجميع إلى ريحانة، لكن ريحانة تهرب منها وتعيش رهابها، حتى أنّ المكان يفقد ألفته ورمزيته تحت الشغف المدوِخ للرائحة، ليتحول إلى مكانٍ للغواية والإثم، فهي تفقد عذريتها من الخال تحت هاجس الرائحة في "جونيه"، وتتعرض لانتهاك المرأة المثلية بسبب الرائحة في بيتها، وتعيش قصة حبها المُجهضة بفعل تأثير الرائحة على أم عادل في دائرتها.
تعدد الأصوات
اعتمدت الرواية تقانة تعدد الأصوات للتعبير عن هواجس الشخصيات، فالأصوات هي مونولوجات داخلية لها، فضلا عن كونها عنصرا سرديا في الكشف عن المواقف إزاء الذوات المحيطة بالشخصية الرئيسة، وتمثّلها لمفارقات الحدث الرئيس، إذ نطالع في الرواية أجواء عاصفة، ورغبات ممجوجة بالخطيئة والانتظار، وباعترافات تتسرب منها أحاسيس شوهاء تجسّد ما تعانيه الشخصيات من اضطرابات وفقدان.
لا يوجد في الرواية سارد عليم بالمعنى الواضح، فالأحداث لها ساردوها، لأنها أحداث/ هواجس داخلية، وحتى استهلال البداية لا يعدو أن يكون صوتا للشخصية الرئيسة وهي تصِفُ في مونولوج طويل عالمها الخاص، الطفولي المرعب، وعلاقتها بصفير النايات، وعلاقاته الصامتة بأمها، مثلما تصف علاقتها بالخال المتأمرك، الذي يعادل اغتصابه الجسدي لها، اغتصاب أميركا للعراق، حيث قادها هذا الاغتصاب إلى اكتشاف جسدها وضآلته وحرمانه، واكتشاف ما حولها أيضا من عالم تغمره الخيانات والأوهام.
لعبة الاكتشاف هي حافز لتوسيع فاعلية الصوت السردي، فهي تتحدث عن كل التفاصيل التي تحوطها، وعن علاقتها بالآخرين، بدءا من علاقتها الاستعادية مع الأب الغائب، وعلاقتها بالأم المسكونة بالانتظار، والخال المصاب بلعنة الخطيئة، والمرأة المثلية، والمرأة المُنَقّبة، وعلاقاتها الاغترابية مع عادل، وانتهاء بعلاقتها بالكلب روني بدلالته الرمزية المؤنسنة أيضا.
أصوات الآخرين تتموضع كلّها حول الشخصية الرئيسة، وحتى تشوّه مصائرها يرتبط بسردية اضطرابها، فرغم تناوب الأصوات في تعدد الروي، فإنّ فعلها في التناوب يقوم على فضح سرِّ علاقتها بالرائحة، وبالشخصية.
تعدد الأصوات أخذ الرواية - في جانب معين منها - إلى بعض الترهل، لا سيما في المونولوجات الطويلة للخال، وهو يستعيد لحظاته الشبقية مع ريحانة، إذ بدت وكأنها خرجت عن الاكتفاء بفكرتها إلى الاستغراق في المشهدية الإيروسية، وحتى حكاية ميثولوجيا المشط ذي الرائحة كان يمكن اختصارها.
تقانة الترقيم التي اعتمدها الروائي السالم أسبغت على الرواية مفارقة في بناء المشهد السردي، فبقدر توالي الحوارات، بدا الترقيم أكثر تعلقا بمونولوج الشخصيات، وهي تسرد استيهاماتها واعترافاتها السرية.
هذه التقانة استعارت من السيناريو صياغتها للمشهد، لكنها لم تنجر إلى تشكّلات بنائه المقطعي، إذ عمد الروائي إلى إحداث فعل المفارقة من هذا النمط الكتابي، دون الإخلال بالتسلسل السردي للأحداث، والحفاظ على وحدة الموضوع وفكرته، وربما محاولة منح القارئ مجالا أكثر يُسراً لتتبع مونولوجات الشخصيات، وتوجيهها، للتعرّف على مصائرها، أو حتى للكشف عن المزيد من خفاياها وأسرارها.
وإذا وقفنا إزاء مهارة الروائي في أن يجعلها موجّها سرديا للقراءة، فإنّه بالمقابل حمّلها وظيفة نفسية، لتسترجع من خلاله ما خبئ تحت أقنعتها.
تشهد الرواية العراقية نموا لافتا وحركة تطور كبرى، حيث انخرطت أكثر في الواقع دون أن تتخلى عن عجائبيتها في بلد مليء بالأساطير والحكايات وحتى واقعه عجيب، زاخر بالأحداث والشخوص والأمكنة المشحونة بصدى التاريخ.
وتنفتح رواية “الحلوة” للروائي العراقي وارد بدر السالم على فضاءات سردية شتى، تتقصى من خلالها مراثي الجسد، وعجائب الحرب، فهي تلامس خفايا الواقع العراقي وفنطازيته، مثلما تستعير من المُتخيّل السردي تقاناته البنائية، وتمثلاته التعبيرية.
هذه المزاوجة تكشف عما هو مضمر في تلك الفضاءات، عبر تسجيل الوقائع، وتقصّي مفارقات الزمن السياسي، والزمن النفسي للشخصيات، وكأنّ الروائي حاول أنْ يختار هذه الشخصيات المُعذّبة ليرسم من خلالها ملامح ذلك الزمن، وتحولاته الصاعقة.
بقدر ما اشتغلت الرواية على ثيمة واحدة ذات علاقة مع تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق والحرب الأهلية، ذهبت مستويات بنائها السردي وتمثلاتها بعيدا باتجاه الكشف عن "احتلالات" نفسية وسياسية مجاورة، لكنها أكثر رعبا، وأكثر تمثّلا لمحنة الوجود والهوية والجسد التي عاشت تداعيات شخصيات الرواية، الصادرة مؤخرا عن دار سطور للنشر والتوزيع.
ثيمة "زنا المحارم" هي واحدة من حوافز استثارة الفواعل السردية في الرواية، إذ وضعت شخصية الحلوة/ ريحانة أمام رهابها الأخلاقي والإنساني، مثلما وضعت شخصية الخال طارق/ مارك الأميركي أمام زيف وتشوه أنموذجه المخلوط بالوهم الأميركي، وبأفكاره الغرائبية عن الحرية والعائلة والحب.
مثلما نجد ثيمة "الفقد" في الرواية وقد استغرقت وصف الأحداث والشخصيات، باتت هي الأقرب إلى تكوين بؤرة التصوير السردي، لما هو عميق في دواخل الشخصيات، ولما تعانيه من تشوهات غائرة، حيث نجد كل شخصيات الرواية تعاني من الإحساس بهذه العاهة، وكأن حدث الاحتلال، بوصفه فقدا وجوديا مهيمنا، يتعمّق من خلال سلسلة تلك "الفقدانات" التي تعيشها الشخصيات، عبر فقدان شروط وجودها العائلي والأخلاقي وحتى "الوطني"، وعبر تشوه وجودها في السياق الاجتماعي، وهو ما يجعلها أكثر تصادما مع الواقع، وأكثر إحساسا برغبات التمرد عليه.
هذه التمثلات لا تعني فقط وجود الشخصية الروائية المُستلبة إزاء الآخر، بقدر ما تعني تشظيها أيضا، إلى حدّ أنها تقاطع ذاتها، فالحلوة تفقد أباها في الحرب الطائفية وتفقد عذريتها لتعيش رعب تقاطعها الداخلي، والأم تفقد زوجها لتعيش رعب وحدتها، وأزهار تفقد حلمتها، والخال طارق يفقد وجوده القيمي من خلال ارتكابه زنا المحارم مع ابنة أخته، ليعيش أيضا محنة تقاطعه مع تاريخه القروي، ومع أقنعة هويته الأميركية المضللة، والتي جعلته شخصية مشبوهة، تُدير صفقات مع سياسيي الحرب، وتؤدي وظائف قذرة، وكذلك عادل العاشق لريحانة، يعيش هو الآخر رعب فقدان ساقيه خلال المواجهة مع الجماعات الإرهابية.
الرواية اعتمدت على تعدد الأصوات للتعبير عن هواجس الشخصيات، من خلال مونولوجات داخلية تكشف أعماقها.
رائحة الحلوة المثيرة هي جزء من ميثولوجيا وجودها، ومن حكايات المكان العراقي ومورثاته عن الجدّات، وعن المشط السحري الذي يبعث رائحة غريبة. هذه الرائحة تحولت إلى وظيفة توصيلية، وإلى عنصر مهم في تشكيل ملامح بناء الشخصية، في رمزيتها، وفي علامتها اللغوية داخل مجرى الرواية، إذ تحولت إلى مفارقة في الكشف عن علاقة الفعل بغيابه، والشخصية بضدها، والمكان بمحوه، فالرائحة تقود الجميع إلى ريحانة، لكن ريحانة تهرب منها وتعيش رهابها، حتى أنّ المكان يفقد ألفته ورمزيته تحت الشغف المدوِخ للرائحة، ليتحول إلى مكانٍ للغواية والإثم، فهي تفقد عذريتها من الخال تحت هاجس الرائحة في "جونيه"، وتتعرض لانتهاك المرأة المثلية بسبب الرائحة في بيتها، وتعيش قصة حبها المُجهضة بفعل تأثير الرائحة على أم عادل في دائرتها.
تعدد الأصوات
اعتمدت الرواية تقانة تعدد الأصوات للتعبير عن هواجس الشخصيات، فالأصوات هي مونولوجات داخلية لها، فضلا عن كونها عنصرا سرديا في الكشف عن المواقف إزاء الذوات المحيطة بالشخصية الرئيسة، وتمثّلها لمفارقات الحدث الرئيس، إذ نطالع في الرواية أجواء عاصفة، ورغبات ممجوجة بالخطيئة والانتظار، وباعترافات تتسرب منها أحاسيس شوهاء تجسّد ما تعانيه الشخصيات من اضطرابات وفقدان.
لا يوجد في الرواية سارد عليم بالمعنى الواضح، فالأحداث لها ساردوها، لأنها أحداث/ هواجس داخلية، وحتى استهلال البداية لا يعدو أن يكون صوتا للشخصية الرئيسة وهي تصِفُ في مونولوج طويل عالمها الخاص، الطفولي المرعب، وعلاقتها بصفير النايات، وعلاقاته الصامتة بأمها، مثلما تصف علاقتها بالخال المتأمرك، الذي يعادل اغتصابه الجسدي لها، اغتصاب أميركا للعراق، حيث قادها هذا الاغتصاب إلى اكتشاف جسدها وضآلته وحرمانه، واكتشاف ما حولها أيضا من عالم تغمره الخيانات والأوهام.
لعبة الاكتشاف هي حافز لتوسيع فاعلية الصوت السردي، فهي تتحدث عن كل التفاصيل التي تحوطها، وعن علاقتها بالآخرين، بدءا من علاقتها الاستعادية مع الأب الغائب، وعلاقتها بالأم المسكونة بالانتظار، والخال المصاب بلعنة الخطيئة، والمرأة المثلية، والمرأة المُنَقّبة، وعلاقاتها الاغترابية مع عادل، وانتهاء بعلاقتها بالكلب روني بدلالته الرمزية المؤنسنة أيضا.
أصوات الآخرين تتموضع كلّها حول الشخصية الرئيسة، وحتى تشوّه مصائرها يرتبط بسردية اضطرابها، فرغم تناوب الأصوات في تعدد الروي، فإنّ فعلها في التناوب يقوم على فضح سرِّ علاقتها بالرائحة، وبالشخصية.
تعدد الأصوات أخذ الرواية - في جانب معين منها - إلى بعض الترهل، لا سيما في المونولوجات الطويلة للخال، وهو يستعيد لحظاته الشبقية مع ريحانة، إذ بدت وكأنها خرجت عن الاكتفاء بفكرتها إلى الاستغراق في المشهدية الإيروسية، وحتى حكاية ميثولوجيا المشط ذي الرائحة كان يمكن اختصارها.
تقانة الترقيم التي اعتمدها الروائي السالم أسبغت على الرواية مفارقة في بناء المشهد السردي، فبقدر توالي الحوارات، بدا الترقيم أكثر تعلقا بمونولوج الشخصيات، وهي تسرد استيهاماتها واعترافاتها السرية.
هذه التقانة استعارت من السيناريو صياغتها للمشهد، لكنها لم تنجر إلى تشكّلات بنائه المقطعي، إذ عمد الروائي إلى إحداث فعل المفارقة من هذا النمط الكتابي، دون الإخلال بالتسلسل السردي للأحداث، والحفاظ على وحدة الموضوع وفكرته، وربما محاولة منح القارئ مجالا أكثر يُسراً لتتبع مونولوجات الشخصيات، وتوجيهها، للتعرّف على مصائرها، أو حتى للكشف عن المزيد من خفاياها وأسرارها.
وإذا وقفنا إزاء مهارة الروائي في أن يجعلها موجّها سرديا للقراءة، فإنّه بالمقابل حمّلها وظيفة نفسية، لتسترجع من خلاله ما خبئ تحت أقنعتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.