ب 550 مليار دولار.. ترامب يعلن عن إبرام أكبر صفقة تجارية مع اليابان    بعد 7 سنوات من الصمت.. أوباما في مواجهة عاصفة ترامب    "مستقبل وطن" يحشد جماهير مطاي في مؤتمر لدعم مرشحيه بانتخابات الشيوخ 2025    لمدة 7 ساعات.. قطع التيار الكهربائي عن 12 منطقة في البحيرة    7 شهداء إثر استهداف شقة سكنية في منطقة تل الهوا غرب قطاع غزة    جيش الاحتلال يُحاصر مستشفيين ويقتحم بلدات في الضفة الغربية    جوتيريش: الجوع يطرق كل باب في قطاع غزة    أمريكا: مهلة ال50 يومًا التي حددها ترامب بشأن أوكرانيا غير محددة    صاحبة المركز التاسع بالثانوية: "النجاح بالمحبة والاجتهاد لا بالعبقرية" (صور)    رئيس اتحاد الخماسي يُكرم طالب بني سويف الأول على الجمهورية ب100 ألف جنيه    عيار 21 الآن يواصل الارتفاع.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 23 يوليو في الصاغة    برلماني: «ثورة يوليو» الشرارة الأولى لإرساء مبادئ العدالة الاجتماعية    تعليم البحيرة تهنئ الطالبة نوران نبيل لحصولها على المركز السادس فى الثانوية العامة    جامعة الإسكندرية تستقبل وفد المركز الإعلامي الأوزبكستاني    بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة 2025 .. نصائح لاختيار الجامعة والكلية المناسبة لك    مؤشرات تنسيق الثانوية العامة 2025 أدبي.. الحد الأدني ل كليات المرحلة الأولي 2024 (بالنسبة المئوية %)    تنسيق الثانوية العامة 2025 بالدرجات علمي علوم وأدبي كليات تقبل من 65%.. ما هي؟    كتائب القسام: قصفنا موقع قيادة وناقلة جند إسرائيلية بالقذائف والصواريخ    عبدالمنعم سعيد: المنطقة كانت تتجه نحو السلام قبل 7 أكتوبر    عصام سالم: هناك كيل بمكيالين في التعامل مع أزمة فتوح    «الأهلي بياخد الدوري كل أثنين وخميس».. نجم الزمالك السابق يتغنى ب مجلس الخطيب    تطورات الحالة الصحية ل حسن شحاتة.. فاروق جعفر يكشف    رياضة ½ الليل| وفاة لاعب فلسطيني.. صفقة الزمالك «منظورة».. رحيل «عادل» للإمارات.. وأحلام زيزو بالأهلي    سعر الزيت والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الأربعاء 23 يوليو 2025    رئيس "بنك الطعام": نقدم نموذج شمولي فريد بالتعاون مع 5 آلاف جمعية    لم تيأس بعد عامين من الرسوب.. طالبة ال 4% تحصد 70% في الثانوية العامة بقنا    حزب الجبهة الوطنية: دعم مادي بقيمة 50 ألف جنيه لأوائل الثانوية العامة    لينك نتيجة الصف الثالث الثانوي 2025 بالاسم ورقم الجلوس.. رسميًا الآن عبر الموقع الرسمي ل وزارة التربية والتعليم    الأولى على الثانوية العامة شعبة أدبي ل«المصري اليوم»: «بكيت فرحًا وسألتحق بالألسن»    بعد نجاحها في الثانوية.. سوزي الأردنية تعلن خطبتها قريبًا    النيران اشتعلت في «الهيش».. الحماية المدنية تسيطر على حريق بأسيوط    شخص مقرب منك يؤذي نفسه.. برج الجدي اليوم 23 يوليو    محمد التاجي: جدي «عبدالوارث عسر» لم يشجعني على التمثيل    محمد التاجي: فهمي الخولي اكتشف موهبتي.. ومسرح الطليعة كان بوابتي للاحتراف    الرابعة على الثانوية: تنظيم الوقت سر النجاح.. وحلمي أكون طبيبة    فرصة لإدراك تأثير جروح الماضي.. حظ برج القوس اليوم 23 يوليو    ما حكم الاعتداء على المال العام؟.. أمين الفتوى يجيب    منها السبانخ والكرنب.. أهم الأطعمة المفيدة لصحة القلب    «الإندومي» والمشروبات الغازية.. أطعمة تسبب التوتر والقلق (ابتعد عنها)    بدون أدوية.. 6 طرق طبيعية لتخفيف ألم الدورة الشهرية    الكشف عن بديل الهلال في السوبر السعودي    دروجبا: محمد شريف هداف مميز.. والأهلي لا يتوقف على أحد    أتلتيكو مدريد يتعاقد مع مارك بوبيل رسميا    وساطات بتركيا تسعى لإطلاق سراحه .. إعلام "المتحدة" يُشيع تسليم محمد عبدالحفيظ    بالصور.. صبا مبارك تستمتع بعطلتها الصيفية أمام برج إيفل    أندية سعودية تنافس بنفيكا على ضم جواو فيليكس    نشرة التوك شو| قانون الإيجار القديم ينتظر قرار الرئيس السيسي.. و"الزراعة" توفر الأسمدة رغم التحديات    ب"فستان تايجر".. أحدث جلسة تصوير جريئة ل نورهان منصور تخطف الأنظار    حدث بالفن| زفاف مخرج ونقل زوج فنانة إلى المستشفى وأحدث أزمات حفلات الساحل الشمالي    ما هي كفارة اليمين؟.. أمين الفتوى يجيب    اعتماد أولى وحدات مطروح الصحية للتأمين الشامل.. وتكامل حكومي - مجتمعي لرفع جودة الخدمات    أهم أخبار الكويت اليوم.. ضبط شبكة فساد في الجمعيات التعاونية    هل يجوز الوضوء مع ارتداء الخواتم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    محافظ شمال سيناء يفتتح "سوق اليوم الواحد" بالعريش لتوفير السلع بأسعار مخفضة    انطلاق المبادرة الوطنية للتطعيم ضد السعار من الإسماعيلية    أدعية لطلاب الثانوية العامة قبل النتيجة من الشيخ أحمد خليل    البورصة المصرية تخسر 12.5 مليار جنيه في ختام تعاملات الثلاثاء    حملة دعم حفظة القرآن الكريم.. بيت الزكاة والصدقات يصل المنوفية لدعم 5400 طفل من حفظة كتاب الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طاغور لغة الحب والزهور
نشر في صوت البلد يوم 12 - 06 - 2017

رابندراناث تاكور هو اللفظ الصحيح لاسم شاعر البنغال، العالمي الشهرة، لكن الترجمات الأولى قلبت حرف التاء إلى طاء، جرياً على عادة النقلة المتأثرين باللغة السريانية من بلاد الشام وقلب الكاف الأعجمية إلى حرف الغين، كما فعل أسلافهم في اسم غرناطة، وغريغوري، فصار الخطأ الشائع أفضل من الصحيح المهجور. ولد الشاعر في البنغال، بشرق الهند، في ما يعرف اليوم باسم «بنغلادش» في السابع من أيار/مايو 1861 لأسرة ثرية رفيعة الشأن، ودرس الآداب السنسكريتية والبنغالية والإنكليزية إلى جانب الموسيقى. وفي الثامنة من عمره نظم أول أشعاره، وبعضها باللغة المحكيّة، لكن انتاجه الشعري بعد ذلك زاد عن ألفي قصيدة تجمّعت في أربع وأربعين مجموعة، إضافة إلى 12 رواية و11 مسرحية شعرية أو موسيقية. وقد زار إنكلترا وهو في السابعة عشرة من العمر، وجلب انتباه أدباء العصر لما في شعره من جمال عاطفي وموضوعات في التصوّف لم تَعُد مألوفة في الشعر الإنكليزي في بدايات القرن العشرين. كان من أكبر المعجبين بهذا الشاعر الهندي البنغالي، القادم من أراضي الإمبراطورية البريطانية، الشاعر الإرلندي و.ب.بيتس وقد توسعت شهرة هذا البنغالي حتى بلغ جائزة «نوبل» عام 1913.
وقد طلب مني المجمع الثقافي في أبوظبي ترجمة مختارات من شعر طاغور إلى العربية، عن صيغة إنكليزية، أعدّتها عن النص البنغالي سيدة من بلاد الشاعر، تقيم في بريطانيا وتتقن الإنكليزية، إلى جانب لغتها الأم. ولهذه السيدة إبنة مولودة في بريطانيا، أتقنت اللغة الإنكليزية في مدارس بريطانيا، مما جعل الأم تحسّ أن لغة الإبنة أدق من لغة الأم في تمثيل الصور والاستعارات، فكانت تنقيحات الابنة في مصلحة ترجمة الأم براتيما باونر وفي مصلحة الصيغة الإنكليزية من الأشعار المنتقاة من النص البنغالي. وقد استمتعتُ أنا في النقل إلى العربية، وصدر الكتاب عن المجمع سنة 1995.
وترجمة الشعر مغامرة تقع تحت تهديد الجاحظ (ت 255 ه/868م) الدكتاتور الأدبي من العصر العباسي. «الشعر لا يُستطاع أن يُترجم، ولا يجوز عليه النقل… وإلاّ تقطّع وزنه وذَهب حُسنُه وسقط موضع التعجّب فيه». ولكن لدينا، ومعذرة من جدنا الجاحظ، أمثلة من ترجمة الشعر من لغة إلى غيرها لا نقدر على تجاهلها ولا إهمالها. فثمة ترجمة الشاعر الإنكليزي ألكسندر بوب (1688 1744) الذي ترجم مقاطع من الياذة هوميروس، وهو لا يعرف الإغريقية، بل كان يحضر مجلسه الأدبي صفوة من شعراء عصره وأدبائه، يتحدثون عن آداب الإغريق واللاتين، ويقرأ أحدهم مقاطع من إلياذة هوميروس ويترجمها شفوياً، فيلتقطها «بوب» الشاعر الموهوب، وفي تلك الليلة يخلو إلى نفسه وينظم بالانكليزية ما حوته ذاكرته من شعر هوميروس. صحيح، كما يرى العارفون، أن منظومات «بوب» لم تكن دقيقة، لكنها كانت مفهومة ومفيدة. وفي عصرنا الأقرب نجد إدوارد فتزجيرالد (1809 1883) أول شاعر ترجم «رباعيات الخيّام» إلى الإنكليزية عام 1859، فأحدثت أثراً كبيراً يضارع أثر «أصل الأنواع» كتاب شارلز داروين الذي نشر في العام نفسه. يرى العارفون باللغة الفارسية أن مختارات الشاعر الإنكليزي من رباعيات الخيام ليست دقيقة الترجمة، مع حُسن معرفته بلغة الأصل. لكنها ترجمة جميلة في شعريتها وصورها. ولدينا ترجمة أحمد رامي لرباعيات الخيام التي لا يجادل العارفون بلغة الأصل حول دقتها وجمال عبارتها، ولو أن كثيراً من الباحثين يرى أن ترجمة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1897 1977) هي الأفضل دقة وشاعرية. وثمة أمثلة من الترجمة، في غير مجال الشعر، تعتمد على لغة وسيطة، أبرز أمثلتها ترجمات «دار الحكمة» في عصر المأمون العباسي. ولدينا أعمال ابن المقفع (724 759) الفارسي الأصل، العربي الثقافة الذي ترجم عن لغته الأم الفارسية، إلى لغة ثقافته – العربية، ترجمات في غاية الدقة والإمتاع. لكنه ترجم عن الهندية بتوسط الفارسية روائع القصص بالعربية، بما لا يساور القارئ شك حول رحلتها من لغة إلى ثانية، إلى ثالثة. وكل هذا يعتمد على الموهبة اللغوية والأدبية عند الناقل.
وكل هذا يقودنا إلى ترجمة «أغانٍ وأشعار» من أعمال طاغور بجهود سيدة أديبة من البنغال، نقلتها إلى الإنكليزية ببراعة ودقة، كما نفهم من مقدمتها المستفيضة. وجاء نقلي إلى العربية كأني أقرأ البنغالية بلسان إنكليزي، لا يستوقفني سوى أسماء الزهور الغريبة التي زادت عن الخمسين عدداً، وأسماء الأشجار، ومواسم السنة الهندية وما إلى ذلك مما استدعاني إلى الإكثار من الهوامش والشروح، التي هي في الأصل من عمل السيدة براتيما باويز نقلتها بصورتها البنغالية، ونقلتُها أنا إلى العربية، باصطناع الحروف العربية المعجمة، بوضع ثلاث نقاط تحت حرف الباء، وفوق حرف الفاء، وتحت حرف الجيم، ووضع خط فوق حرف الكاف لرسم ألفاظ الأحرف الأعجمية.
أغلب مجموعة «أغان وأشعار» هي قصائد حب، رومانسية الهوى، صوفية المنحى، مما استطابه القراء بالانكليزية في بدايات القرن العشرين، والحياة الأوروبية تسير نحو اليباب الذي انتهى بحرب عالمية طاحنة. وما جاء بعدها يبابٌ صوّره إليوت. هذه مختارات من أغاني الحب تدور في مجال الطبيعة من نجوم وسماء وفجر وغاب وزهور، تأتي في سطور متلاحقة، رأيت أن أقدّمها سطوراً متتالية مراعاة لحدود الصفحة:
«السماء ملأى بالنجوم والشمس/ وهذي الأرض تنبض بالحياة/ وبين كل هذا أنا أيضاً لقيتُ مكاناً لي/ من هذا البهاء تولدُ أغنيتي/ على اصطفاق المد والجزر من زمان الأزل/ ينداح العالم/ ينسلُّ خفقه إلى مسيل الدم/ الذي ينساب في عروقي/ من هذا البهاء تولد أغنيتي/ وطِئتُ العشب في مروري بالغاب/ وذهني منتشٍ بالدهشة يحملها أريج الزهور/ وحولي نثار من عطايا بهيجة/ دنوتُ بسمعي، فتحتُ عينيّ/ وعلى صدر هذي الأرض سكبتُ حياتي/ بحثاً عن المجهول في كل ما أعلم/ هذا البهاء يولدّ أغنيتي».
أين نحن في هذا الزمان «اللايوصف»، من هذه الأحاسيس الروحانية الرقيقة؟ أم أن هذا كله «كلام شعراء» عن عالم لا يوجد إلا على صفحات الأوراق، أوراق الأشجار والأزهار، لا يتساوق مع عالم نلمسه كل يوم فتخدشنا خشونته؟
والحب عند طاغور الذي من بنغلادش، ليس كالحب الجسدي في «نشيد الأنشاد» الذي لسليمان. هذا حب تصوّف استهوى شعراء بواكير القرن العشرين في بريطانيا، بعيدة العهد بشعراء القرن السابع عشر من أصحاب المدرسة «الماوراطبيعية» مثل جون دَن ورهطه، بينه وبين شعر ابن الفارض ورابعة العدوية قرابة ومنها الصبابة. هذا حب يذوب في الذات الإلهية، لاحب تديّن وادّعاء.
«تقبّلني هذه المرة، يارب، تقبّلني/ لا تبتعد عني/ هاك قلبي ولتظل معي/ لا أريد تكرار تلك الأيام/ التي تخلو منك/ فخلِّها لتصير إلى تراب/ ولتتفتح حياتي الآن على نورك/ لتبقى يقظة إلى الأبد/ لا أدري ما الذي أضلّني/ وأي وعدٍ أغواني/ فرحتُ أهيم على وجهي/ في الدروب، وبين المروج/ ربِّ ادن بوجهك من قلبي/ وبلِّغني رسالة من عندك/ خطايا كثيرة، ضلالات شتى/ ما تزال تكمن/ خبيئة في قلبي/ لا تبعدني ثانية بسب ذلك/ يارب، بل طهرها بالنار/»
كم من الأرواح والأنفس، هذه الأيام، بها حاجة للتطهُّر بالنار؟
بعيداً جداً عن «إسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح، فاني مريضة حباً». صورة الحب عند طاغور أصفى اتصالاً بالطبيعة بزهورها وأشجارها:
«أقبلتِ يا فاتنة عينيّ/ أي جمال أرى إذ أفتح ناظريّ!/ تمشين على أكداس من نثار الزهور/ على العشب بلّلَه الندى/ قدماك مخضبتان باحمرار اللون/ من سنا الشمس في البكور» .
ألا يحق لنا أن نسرح قليلاً عن صور الغرقى في بحار اللجوء المستحيل والقتل بالمجان؟
رابندراناث تاكور هو اللفظ الصحيح لاسم شاعر البنغال، العالمي الشهرة، لكن الترجمات الأولى قلبت حرف التاء إلى طاء، جرياً على عادة النقلة المتأثرين باللغة السريانية من بلاد الشام وقلب الكاف الأعجمية إلى حرف الغين، كما فعل أسلافهم في اسم غرناطة، وغريغوري، فصار الخطأ الشائع أفضل من الصحيح المهجور. ولد الشاعر في البنغال، بشرق الهند، في ما يعرف اليوم باسم «بنغلادش» في السابع من أيار/مايو 1861 لأسرة ثرية رفيعة الشأن، ودرس الآداب السنسكريتية والبنغالية والإنكليزية إلى جانب الموسيقى. وفي الثامنة من عمره نظم أول أشعاره، وبعضها باللغة المحكيّة، لكن انتاجه الشعري بعد ذلك زاد عن ألفي قصيدة تجمّعت في أربع وأربعين مجموعة، إضافة إلى 12 رواية و11 مسرحية شعرية أو موسيقية. وقد زار إنكلترا وهو في السابعة عشرة من العمر، وجلب انتباه أدباء العصر لما في شعره من جمال عاطفي وموضوعات في التصوّف لم تَعُد مألوفة في الشعر الإنكليزي في بدايات القرن العشرين. كان من أكبر المعجبين بهذا الشاعر الهندي البنغالي، القادم من أراضي الإمبراطورية البريطانية، الشاعر الإرلندي و.ب.بيتس وقد توسعت شهرة هذا البنغالي حتى بلغ جائزة «نوبل» عام 1913.
وقد طلب مني المجمع الثقافي في أبوظبي ترجمة مختارات من شعر طاغور إلى العربية، عن صيغة إنكليزية، أعدّتها عن النص البنغالي سيدة من بلاد الشاعر، تقيم في بريطانيا وتتقن الإنكليزية، إلى جانب لغتها الأم. ولهذه السيدة إبنة مولودة في بريطانيا، أتقنت اللغة الإنكليزية في مدارس بريطانيا، مما جعل الأم تحسّ أن لغة الإبنة أدق من لغة الأم في تمثيل الصور والاستعارات، فكانت تنقيحات الابنة في مصلحة ترجمة الأم براتيما باونر وفي مصلحة الصيغة الإنكليزية من الأشعار المنتقاة من النص البنغالي. وقد استمتعتُ أنا في النقل إلى العربية، وصدر الكتاب عن المجمع سنة 1995.
وترجمة الشعر مغامرة تقع تحت تهديد الجاحظ (ت 255 ه/868م) الدكتاتور الأدبي من العصر العباسي. «الشعر لا يُستطاع أن يُترجم، ولا يجوز عليه النقل… وإلاّ تقطّع وزنه وذَهب حُسنُه وسقط موضع التعجّب فيه». ولكن لدينا، ومعذرة من جدنا الجاحظ، أمثلة من ترجمة الشعر من لغة إلى غيرها لا نقدر على تجاهلها ولا إهمالها. فثمة ترجمة الشاعر الإنكليزي ألكسندر بوب (1688 1744) الذي ترجم مقاطع من الياذة هوميروس، وهو لا يعرف الإغريقية، بل كان يحضر مجلسه الأدبي صفوة من شعراء عصره وأدبائه، يتحدثون عن آداب الإغريق واللاتين، ويقرأ أحدهم مقاطع من إلياذة هوميروس ويترجمها شفوياً، فيلتقطها «بوب» الشاعر الموهوب، وفي تلك الليلة يخلو إلى نفسه وينظم بالانكليزية ما حوته ذاكرته من شعر هوميروس. صحيح، كما يرى العارفون، أن منظومات «بوب» لم تكن دقيقة، لكنها كانت مفهومة ومفيدة. وفي عصرنا الأقرب نجد إدوارد فتزجيرالد (1809 1883) أول شاعر ترجم «رباعيات الخيّام» إلى الإنكليزية عام 1859، فأحدثت أثراً كبيراً يضارع أثر «أصل الأنواع» كتاب شارلز داروين الذي نشر في العام نفسه. يرى العارفون باللغة الفارسية أن مختارات الشاعر الإنكليزي من رباعيات الخيام ليست دقيقة الترجمة، مع حُسن معرفته بلغة الأصل. لكنها ترجمة جميلة في شعريتها وصورها. ولدينا ترجمة أحمد رامي لرباعيات الخيام التي لا يجادل العارفون بلغة الأصل حول دقتها وجمال عبارتها، ولو أن كثيراً من الباحثين يرى أن ترجمة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1897 1977) هي الأفضل دقة وشاعرية. وثمة أمثلة من الترجمة، في غير مجال الشعر، تعتمد على لغة وسيطة، أبرز أمثلتها ترجمات «دار الحكمة» في عصر المأمون العباسي. ولدينا أعمال ابن المقفع (724 759) الفارسي الأصل، العربي الثقافة الذي ترجم عن لغته الأم الفارسية، إلى لغة ثقافته – العربية، ترجمات في غاية الدقة والإمتاع. لكنه ترجم عن الهندية بتوسط الفارسية روائع القصص بالعربية، بما لا يساور القارئ شك حول رحلتها من لغة إلى ثانية، إلى ثالثة. وكل هذا يعتمد على الموهبة اللغوية والأدبية عند الناقل.
وكل هذا يقودنا إلى ترجمة «أغانٍ وأشعار» من أعمال طاغور بجهود سيدة أديبة من البنغال، نقلتها إلى الإنكليزية ببراعة ودقة، كما نفهم من مقدمتها المستفيضة. وجاء نقلي إلى العربية كأني أقرأ البنغالية بلسان إنكليزي، لا يستوقفني سوى أسماء الزهور الغريبة التي زادت عن الخمسين عدداً، وأسماء الأشجار، ومواسم السنة الهندية وما إلى ذلك مما استدعاني إلى الإكثار من الهوامش والشروح، التي هي في الأصل من عمل السيدة براتيما باويز نقلتها بصورتها البنغالية، ونقلتُها أنا إلى العربية، باصطناع الحروف العربية المعجمة، بوضع ثلاث نقاط تحت حرف الباء، وفوق حرف الفاء، وتحت حرف الجيم، ووضع خط فوق حرف الكاف لرسم ألفاظ الأحرف الأعجمية.
أغلب مجموعة «أغان وأشعار» هي قصائد حب، رومانسية الهوى، صوفية المنحى، مما استطابه القراء بالانكليزية في بدايات القرن العشرين، والحياة الأوروبية تسير نحو اليباب الذي انتهى بحرب عالمية طاحنة. وما جاء بعدها يبابٌ صوّره إليوت. هذه مختارات من أغاني الحب تدور في مجال الطبيعة من نجوم وسماء وفجر وغاب وزهور، تأتي في سطور متلاحقة، رأيت أن أقدّمها سطوراً متتالية مراعاة لحدود الصفحة:
«السماء ملأى بالنجوم والشمس/ وهذي الأرض تنبض بالحياة/ وبين كل هذا أنا أيضاً لقيتُ مكاناً لي/ من هذا البهاء تولدُ أغنيتي/ على اصطفاق المد والجزر من زمان الأزل/ ينداح العالم/ ينسلُّ خفقه إلى مسيل الدم/ الذي ينساب في عروقي/ من هذا البهاء تولد أغنيتي/ وطِئتُ العشب في مروري بالغاب/ وذهني منتشٍ بالدهشة يحملها أريج الزهور/ وحولي نثار من عطايا بهيجة/ دنوتُ بسمعي، فتحتُ عينيّ/ وعلى صدر هذي الأرض سكبتُ حياتي/ بحثاً عن المجهول في كل ما أعلم/ هذا البهاء يولدّ أغنيتي».
أين نحن في هذا الزمان «اللايوصف»، من هذه الأحاسيس الروحانية الرقيقة؟ أم أن هذا كله «كلام شعراء» عن عالم لا يوجد إلا على صفحات الأوراق، أوراق الأشجار والأزهار، لا يتساوق مع عالم نلمسه كل يوم فتخدشنا خشونته؟
والحب عند طاغور الذي من بنغلادش، ليس كالحب الجسدي في «نشيد الأنشاد» الذي لسليمان. هذا حب تصوّف استهوى شعراء بواكير القرن العشرين في بريطانيا، بعيدة العهد بشعراء القرن السابع عشر من أصحاب المدرسة «الماوراطبيعية» مثل جون دَن ورهطه، بينه وبين شعر ابن الفارض ورابعة العدوية قرابة ومنها الصبابة. هذا حب يذوب في الذات الإلهية، لاحب تديّن وادّعاء.
«تقبّلني هذه المرة، يارب، تقبّلني/ لا تبتعد عني/ هاك قلبي ولتظل معي/ لا أريد تكرار تلك الأيام/ التي تخلو منك/ فخلِّها لتصير إلى تراب/ ولتتفتح حياتي الآن على نورك/ لتبقى يقظة إلى الأبد/ لا أدري ما الذي أضلّني/ وأي وعدٍ أغواني/ فرحتُ أهيم على وجهي/ في الدروب، وبين المروج/ ربِّ ادن بوجهك من قلبي/ وبلِّغني رسالة من عندك/ خطايا كثيرة، ضلالات شتى/ ما تزال تكمن/ خبيئة في قلبي/ لا تبعدني ثانية بسب ذلك/ يارب، بل طهرها بالنار/»
كم من الأرواح والأنفس، هذه الأيام، بها حاجة للتطهُّر بالنار؟
بعيداً جداً عن «إسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح، فاني مريضة حباً». صورة الحب عند طاغور أصفى اتصالاً بالطبيعة بزهورها وأشجارها:
«أقبلتِ يا فاتنة عينيّ/ أي جمال أرى إذ أفتح ناظريّ!/ تمشين على أكداس من نثار الزهور/ على العشب بلّلَه الندى/ قدماك مخضبتان باحمرار اللون/ من سنا الشمس في البكور» .
ألا يحق لنا أن نسرح قليلاً عن صور الغرقى في بحار اللجوء المستحيل والقتل بالمجان؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.