شباب المصريين بالخارج مهنئا الأقباط: سنظل نسيجا واحدا في وجه أعداء الوطن    صوامع الشرقية تستقبل 423 ألف طن قمح    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة للإسماعيلية للعام المالي الحالي    الجيش الإسرائيلي يفرض حظر نشر على حادث كرم أبو سالم    أخبار الأهلي: موقف كولر من عودة محمد شريف    رونالدو: الهدف رقم 900؟ لا أركض وراء الأرقام القياسية ... 66 هاتريك أغلبها بعد سن الثلاثين، رونالدو يواصل إحراج ليونيل ميسي    «قطار الموت» ينهي حياة فتاة داخل مدينة ملاهي بأكتوبر    الجد الأعظم للمصريين، رحلة رمسيس الثاني من اكتشافه إلى وصوله للمتحف الكبير (فيديو)    اعرف حظك وتوقعات الأبراج الاثنين 6-5-2024، أبراج الحوت والدلو والجدي    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة بطوخ    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    وزير الإسكان: قطاع التخطيط يُعد حجر الزاوية لإقامة المشروعات وتحديد برامج التنمية بالمدن الجديدة    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    نتنياهو: إسرائيل لن توافق على مطالب حماس وسنواصل الحرب    إعلام عبري: حالة الجندي الإسرائيلي المصاب في طولكرم خطرة للغاية    روسيا تسيطر على بلدة أوتشيريتينو في دونيتسك بأوكرانيا    زعيم المعارضة البريطانية يدعو سوناك لإجراء انتخابات عامة عقب خسارة حزبه في الانتخابات المحلية    صحة غزة: ارتفاع إجمالي الشهداء إلى 34 ألفًا و683 شخصًا    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    حمدي فتحي: مستمر مع الوكرة.. وأتمنى التتويج بالمزيد من البطولات    وزير الرياضة يتفقد منتدى شباب الطور    بين القبيلة والدولة الوطنية    في إجازة شم النسيم.. مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة بالغربية    «الداخلية» في خدمة «مُسِنّة» لاستخراج بطاقة الرقم القومي بمنزلها في الجيزة    التعليم: نتائج امتحانات صفوف النقل والاعدادية مسؤلية المدارس والمديريات    رفع حالة الطوارئ بمستشفيات بنها الجامعية لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    بالصور.. صقر والدح يقدمان التهنئة لأقباط السويس    «سلامة الغذاء»: تصدير نحو 280 ألف طن من المنتجات الزراعية.. والبطاطس في الصدارة    ماري منيب تلون البيض وحسن فايق يأكله|شاهد احتفال نجوم زمن الفن الجميل بشم النسيم    أنغام تُحيي حفلاً غنائيًا في دبي اليوم الأحد    بعد انفصال شقيقه عن هنا الزاهد.. كريم فهمي: «أنا وزوجتي مش السبب»    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    الليلة.. أمسية " زيارة إلى قاهرة نجيب محفوظ.. بين الروائي والتسجيلي" بمركز الإبداع    حفل رامى صبرى ومسلم ضمن احتفالات شم النسيم وأعياد الربيع غدا    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    دعاء تثبيت الحمل وحفظ الجنين .. لكل حامل ردديه يجبر الله بخاطرك    «الإسكان» تنظم ورش عمل مكثفة للمديريات حول تطبيق التصالح بمخالفات البناء وتقنين أوضاعها    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة في طوخ    رئيس هيئة الرعاية الصحية يبحث تعزيز التعاون مع ممثل «يونيسف في مصر» لتدريب الكوادر    لتجنب التسمم.. نصائح مهمة عند تناول الرنجة والفسيخ    "الرعاية الصحية" بأسوان تنظم يوما رياضيا للتوعية بقصور عضلة القلب    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يضغط لاستبعاد قطاع الزراعة من النزاعات التجارية مع الصين    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    الاتحاد يواصل تدريباته استعدادًا لمواجهة الأهلي.. وأتوبيسات مجانية للجماهير    «التعليم»: المراجعات النهائية ل الإعدادية والثانوية تشهد إقبالا كبيرًا.. ومفاجآت «ليلة الامتحان»    «منتجي الدواجن»: انخفاضات جديدة في أسعار البيض أكتوبر المقبل    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    السيطرة على حريق شقة سكنية في منطقة أوسيم    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    «الدفاع المدني الفلسطيني»: 120 شهيدا تحت الأنقاض في محيط مجمع الشفاء بغزة    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    محمود البنا حكما لمباراة الزمالك وسموحة في الدوري    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باحث جزائري يرى أن التأويل الصوفي تأويل رحماني
نشر في صوت البلد يوم 25 - 05 - 2017

أكد الباحث الجزائري المتخصص في الفلسفة والدراسات العربية محمد شوقي زين أن نصوص ابن عربي تؤكّد عليه بلا مرية، أن التأويل الصوفي ما هو سوى "المآل إلى الرحمة الشاملة".
وقال في كتابه "الصورة واللغز: التأويل الصوفي للقرآن عند محي الدين بن عربي": "في جميع النصوص التي نقرؤها عند المتصوف الأندلسي، نجد دائماً أن كلمة مآل تصاحب الرحمة؛ والمآل هو تركيبة كامنة في التأويل بوصفه رؤيةً حدسيةً وكشفيةً لما سيأتي، الآتي، اختراق حُجُب الكوْن للتوصُّل بالكيْن، المُضي نحو الأمام للانعطاف على الخلف، فتكون الصيرورة القصوى هي النشأة الأولى، أي: النَّفَس الرحماني الذي منه ابتدأت أركيولوجيا الوجود والموجود، مدد ال: وجود وميلاد الموجود".
مفاد ذلك أن كل تأويل لا يحمل في بذوره أو طياته، في أصله الأول وفصله نحو المآل، رقائق من الرحمة، فهو تأويل بلا جُود أو جَوْدة، بلا جدوى، تفسير آلي وميكانيكي لحروف جوفاء، وحقول جرداء.
وأضاف في الكتاب الصادر عن دار مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن "التأويل بالتعريف هو الرحمة، ليس فقط من باب المرجعية التراثية التي تقول: إن (اختلاف الأمة رحمة)، ولكن من باب الرجئية الأنطولوجية التي تقول: إن التأويل، في انعطافه الدائري بين المبتدأ والمنتهى، لا بدَّ أن يحمل سمات الرحمة؛ لأن في انعطافه الدائري ثمة إحاطة، وكل إحاطة هي عناية، وكل عناية هي رحمة واسعة، مثل الضمّ الأمومي للطفولة البريئة".
يقدم الباحث الجزائري محاولة في الدراسات التأويلية تتميّز بإضافة بارزة، هي قراءة الشيخ الأكبر ابن عربي بعيون العصر، وقراءة العصر بعيون ابن عربي في تداخُل متحقق. وقد قامت المحاولة بتوظيف أدوات حددتها في التأويل الرمزي الخاص بالتصوُّر الصوفي والعرفاني للقرآن، ومجالات حددتها في التأويل الباروكي الخاص بكل رؤية ترى الوجود مثالاً قائماً، أو حلماً عابراً، يتطلب السبر الكشفي، والصبر المفهومي.
إحدى الفرضيات التي اشتغل عليها الباحث كمنت في عاملين أساسيين وجَّها تاريخ الفكر الإنساني، وهما: حب الصورة ومقت الصورة، لأن عليهما يتحدَّد، أيضاً، مفهوم التأويل، هذا التأويل الذي ينتمي إلى عشق الصورة؛ لأنه يقبل بالمجاز، والاستعارة، والمماثلة؛ ونقيض التأويل ينتمي إلى محو الصورة؛ لأنه يأخذ بحرفية النص، ويرفض القياس، والمجاز، والمماثلة... إلخ.
وتساءل الباحث الجزائري: لماذا الانطلاق من الصورة في دراسة سؤال التأويل؟ ما الصورة في هذا المضمار؟ هل هي الشاهد، أو المعيار، أو النموذج في دراسة النص، أو القيام على حقيقةٍ ما ترتبط بهذا النص، أو ترتبط بالواقع؟
وأضاف: الصورة، سواء كانت حسية أم معقولة، خيالية أم باطنية، ذهنية أم نفسية، تتحكَّم، بشكل مصيري شعوري في جانب، ولاشعوري في جانب آخر، في كل فعل بشري، أو إرادة نافذة، فهي ليست موضوع الدراسة، أو التخمين، أو التأمل؛ بقدر ماهي محفّز كل دراسة، أو تخمين، أو تأمل، أو مجرَّد لذة في النظر، تحت مفهوم ما سماه فرويد "الدافع الرؤيوي". فلأن هناك شيئاً ما ينتابنا، أو يثير اهتمامنا، أو فضولنا، أو يسحرنا ويستهوينا، فإننا نتواصل به بالصورة، سواء كان شيئاً حسياً قابلاً للإدراك والحدس أم شيئاً معقولاً قابلاً للتفكّر والاستيعاب؛ أي: إننا ندرك صورته، والأبعاد التي يتخذها في هذه الصيغة، أو تلك، في هذه الوضعية، أو تلك.
الصورة إذاً، هي الدافع؛ حتى عندما تكون موضوع الإدراك الحسي أو العقلي (صورة ما)؛ لأن كل "شيء صورة أو شكل" تبعاً لمقولة بلزاك وعندما نكون في حضرة الصور، في قبضة الصور، فإن الكل عبارة عن صور.
وأوضح أن التأويل عند ابن عربي ينخرط في حذر إبستمولوجي، يتراوح بين التبني والاحتراس، تبعاً للسياقات والعتبات، وبعد تأمُّل دقيق، وبالمقارنة مع خيار نظري انتهجته، يأخذ بالصورة بدلاً من المذهب، أو بالتأويل الثقافي بدلاً من النقد الإيديولوجي، أقول بأن ابن عربي، وبحكم الجمع بين الظاهر والباطن، كان يتأرجح بين النزوع الأيقونكلستي المناهض للصورة بمعناها "الأيدولي" أي: الصنمي أو السيمولاكري؛ وبين النزوع الأيقونوفيلي المشايع للصورة بمعناها "الأيقوني"؛ لأن ابن عربي يعدّ الوجود عبارة عن صور متكاثرة، متشاكلة، متناسلة، مسافرة، تتردد على كل الحقائق الطبيعية، والحسية، والخيالية، والروحية التي يشتمل عليها هذا الوجود.
وقال الباحث الجزائري "في اشتغالي على فكرة التأويل، سأقدم مجموعة من "التأويلات" المتراكزة التي طبعت النص الأكبري. أتوقف عند أهم هذه التأويلات، بعضها معروف كالتأويل الرمزي، والتأويل الإشاري المستنبط من النصوص الصوفية ذاتها؛ وبعضها غير معروف كالتأويل الباروكي، والتأويل الإسفاري. أميّز في هذه التأويلات بين ما له خاصية الإطار أو اللوحة، وهو التأويل الباروكي؛ وما له خاصية الممارسة أو الإنجاز، وهو التأويل الرمزي والتأويل الإسفاري، مع ضرورة التقاطع بين اللوحة والممارسة فحسب؛ لأن الممارسة التأويلية تنخرط في إطار، أو لوحة هي بمرتبة "مستوى المحايثة" كما سماه دولوز؛ أو "شكل الحياة" بنعوت فتغنشتاين.
ولفت إلى أن الصراع الخفي، التاريخي والإيديولوجي في جوهره، والذي يشكّل العائق المعرفي والإبستمولوجي في نظام اشتغاله، بين التصوف والعرفان. عمل التوجُّه الإيديولوجي على الفصل بين الترادُف الكائن بينهما، فهو ترادف كائن في القواميس، لكنه مضاد في القراطيس، وبشكل جمبازي يُمليه الإكراه المذهبي، محط نزاع بالمتاريس.
وأوضح "إذا تقيَّدتُ بالخيط الرفيع الذي يوجهني في هذه الدراسة، وهو فقه الصورة، فإن التصوف ارتبط بشيء يُسمى في الأدبيات الدينية ب: "التسنُّن"، وارتبط العرفان بشيء يُسمى "التشيُّع". إنه أكبر عائق في إدراك التصوف والعرفان بمعزل عن البطانة الإيديولوجية التي تغلَّفا بها، فضلاً عن الذرائعية السياسية التي أحكمت القبضة عليهما.
وأشار الباحث الجزائري إلى إن التصوف يندرج في الحقل الديني واللاهوتي بكل أدواته الفقهية، والكلامية، والحكمية التي شيَّدها بناءً على مرجعية أصلية (النص القرآني، والخبر النبوي) وأن العرفان يتجاوز هذا الحقل الديني واللاهوتي برؤية خاصة، وممارسة فريدة، تجعله يعانق التجربة، ويحتك بالمطلق.
يبقى السؤال في معرفة موقع ابن عربي من هذه الإزاحة الفلسفية بين التصوف والعرفان: لماذا بالضبط "تأويل صوفي للقرآن" عند ابن عربي، وليس "تأويلاً عرفانياً للقرآن"؟ هل معنى ذلك أن ابن عربي هو استمرارية للإرث الصوفي والتفسيري الذي سبقه؟ ألم تكن له رؤية عرفانية انشقت، بحكم التميُّز في اللغة والأسلوب، عن المعجم اللاهوتي، والكلامي، والحكمي المهيمن؟
لا شك أن ابن عربي كانت له تجربة عرفانية متداخلة مع التجربة الصوفية؛ التي أخذ منها المعجم والطريقة، فيمكن وضعه في برزخ بين التصوف والعرفان، له قَدَم في التصوف المنعطف على التراث المتداول، وقَدَم في العرفان المتفرّد بتجربة أنطولوجية خاصة. هذا ما دفعني إلى الإقرار بما يلي: "ينطلق العرفان من عتبة غَسقية هي مبتدأ التجربة، عندما ينحصر التصوف في عتبة نسقية هي الإحاطة الدينية بقوالبها الشرعية الموضوعة". ورأى الباحث الجزائري أن كل مصيبة في التاريخ كانت حصيلة ترجمة عبارة غير مفهومة، وقُصد بها شيء آخر، أو تأويل حُكم انجرَّ عنه إسراف أو بغي؛ كل ترجمة هي تمهيد نحو الهيمنة، كل تأويل هو مدخل إلى السلطة، وليست الترجمة سوى التأويل نفسه، وليس التأويل سوى الترجمة عينها.
إن "التأويل الرحماني"، إذا جاز لنا الحديث بهذه الصيغة في نعت التأويل الصوفي، هو التأويل الأيقونوفيلي الذي يعطي كل ذي حق حقه، يعترف بالطبيعة المركّبة والملتبسة للوجود وللغة، فيساير كل الإمكانات المحتملة، كل الصور الممكنة، ليأخذ بها كلها، دون تمييز عُنصري، أو إقصاء نظري؛ على العكس من التأويل الأيقونكلستي الذي يرتبط بدلالة أحادية للحرف هي ما يكشفه الحرف بذاته في محض ماديته اللغوية.
وأكد أن التأويل الصوفي الذي يبتغي التنوُّع الصُّوَري، والاختلاف الأيقوني، هو التأويل الحامل لرحمة واسعة؛ لأنه يؤمن أساساً بالوُسع في الدلالة والفهم تبعاً لتعدُّد القوابل، وتنوُّع القراءات. إن التأويل الذي يروم المآل؛ لأنه حامل الرحمة في الحال، هو تأويل مستقبلي لا ماضياً، هو تأويل التفاؤل والتفاعُل، لا تأويل التشاؤم والزمن المتوقف، هو تأويل الحاضر في توجُّهه الآتي، لا تأويل الماضي في وجهه العاتي.
التأويل حركة الفكر داخل النص، ارتقاء العقل في الوجود؛ فهو دائماً حركة نحو المستقبل، ولا يمكنه أن يتوقَّف عند زمان سوى بتضييق الواسع، وحصر الإمكان، فيسقط بذلك في الجلفية البغيضة. إن التأويل، بوصفه حامل الرحمة الشاملة، والرؤية الواسعة، لا يمكنه أن يكون سوى تأويل العرفان بالمعنى الخُلُقي لأخلاقيات التأويل، أي: التأويل الذي لا يكتفي بأن يعرف، لكنه يسعى أيضاً لأن يعترف، بأن يكون عمله العرفان والامتنان، أن يعترف بأن ثمَّة أفكاراً، ورؤى، وتصوُّرات لها الحق في التعبير عن الوجوه المتعدّدة، والمتشعّبة للوجود. التأويل الصوفي هو تأويل عرفاني، ليس فقط بالمعنى الحصري للمعرفة القصوى للوجود، وإنما أيضاً بالمعنى المفتوح للاعتراف بالحق في الاختلاف.
وقال الباحث الجزائري "كذلك التأويل الصوفي هو تأويل قرآني بامتياز، يحاكي نسيجه النصي، ويبتغي نموذجه الأصلي. يجاري التأويل الصوفي المبالغة التي يحملها القرآن في جسده الحرفي بالذات؛ إنه القراءة من عين الأمر "اقرأ" لأجل الخلق "المقروء". التأويل الصوفي قراءة: ليست القراءة مجرَّد تلاوة، ليست فقط الصوت، وليست تحريك الشفاه، إنها البحث فيما قرَّ في النفس واستقرَّ. تكون القراءة صامتة، أو لا تكون قراءة صامتة لأنها تتتبَّع رقائق الأفكار والصور لا خيوط الحروف والجمل، تبحث عن المعاني فيما تعاني. المعنى معاناة ومكابدة. تتبَّع السُّوَر بوصفها الصُّوَر، والكل صُوَر، فالكل سُوَر".
وخلص أيضا إلى أن "التأويل الصوفي هو تأويل وجودي، يتعدَّى مجرد التنسيق المعرفي والسيمائي، وهو تأويل يخاطب الوجدان بأدوات الاستشعار، والوُد الكوني. لا شك أن التأويل هو نشاط الفكر في حوار جدلي مع النص ومع العالم، هو إعادة تنسيق دوال النص، ومعاودة التجوال في العالم، لكن أهم ميزة في التأويل هي الارتقاء إلى صيغة المبالغة للوجود، وهي الوجدان.
التأويل الصوفي هو النظر في منتهى ما يصل إليه الوجود من رقائق متشابكة، وحقائق منعطفة على الذات. التأويل الصوفي هو تأويل وجودي؛ لأن أقصى ما يصل إليه الوجود هو الوجدان، والوجدان، قبل كل شيء، وبعد كل اعتبار، في الذات الواجدة؛ تُدرك الوجود متضايفاً لا يُفارقها، ظاهرة مستبطنة فيها، وصورة باطنة في المستظهر منها. الوجود والذات، الوجدان، إذاً، هما كالوجود والقرآن، متضايفان بالتداخُل الكياسمي، لا نعرف فيه أين يبدأ القرآن وأين ينتهي الوجود، أين يبدأ الوجود وأين تنتهي الذات.
أكد الباحث الجزائري المتخصص في الفلسفة والدراسات العربية محمد شوقي زين أن نصوص ابن عربي تؤكّد عليه بلا مرية، أن التأويل الصوفي ما هو سوى "المآل إلى الرحمة الشاملة".
وقال في كتابه "الصورة واللغز: التأويل الصوفي للقرآن عند محي الدين بن عربي": "في جميع النصوص التي نقرؤها عند المتصوف الأندلسي، نجد دائماً أن كلمة مآل تصاحب الرحمة؛ والمآل هو تركيبة كامنة في التأويل بوصفه رؤيةً حدسيةً وكشفيةً لما سيأتي، الآتي، اختراق حُجُب الكوْن للتوصُّل بالكيْن، المُضي نحو الأمام للانعطاف على الخلف، فتكون الصيرورة القصوى هي النشأة الأولى، أي: النَّفَس الرحماني الذي منه ابتدأت أركيولوجيا الوجود والموجود، مدد ال: وجود وميلاد الموجود".
مفاد ذلك أن كل تأويل لا يحمل في بذوره أو طياته، في أصله الأول وفصله نحو المآل، رقائق من الرحمة، فهو تأويل بلا جُود أو جَوْدة، بلا جدوى، تفسير آلي وميكانيكي لحروف جوفاء، وحقول جرداء.
وأضاف في الكتاب الصادر عن دار مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن "التأويل بالتعريف هو الرحمة، ليس فقط من باب المرجعية التراثية التي تقول: إن (اختلاف الأمة رحمة)، ولكن من باب الرجئية الأنطولوجية التي تقول: إن التأويل، في انعطافه الدائري بين المبتدأ والمنتهى، لا بدَّ أن يحمل سمات الرحمة؛ لأن في انعطافه الدائري ثمة إحاطة، وكل إحاطة هي عناية، وكل عناية هي رحمة واسعة، مثل الضمّ الأمومي للطفولة البريئة".
يقدم الباحث الجزائري محاولة في الدراسات التأويلية تتميّز بإضافة بارزة، هي قراءة الشيخ الأكبر ابن عربي بعيون العصر، وقراءة العصر بعيون ابن عربي في تداخُل متحقق. وقد قامت المحاولة بتوظيف أدوات حددتها في التأويل الرمزي الخاص بالتصوُّر الصوفي والعرفاني للقرآن، ومجالات حددتها في التأويل الباروكي الخاص بكل رؤية ترى الوجود مثالاً قائماً، أو حلماً عابراً، يتطلب السبر الكشفي، والصبر المفهومي.
إحدى الفرضيات التي اشتغل عليها الباحث كمنت في عاملين أساسيين وجَّها تاريخ الفكر الإنساني، وهما: حب الصورة ومقت الصورة، لأن عليهما يتحدَّد، أيضاً، مفهوم التأويل، هذا التأويل الذي ينتمي إلى عشق الصورة؛ لأنه يقبل بالمجاز، والاستعارة، والمماثلة؛ ونقيض التأويل ينتمي إلى محو الصورة؛ لأنه يأخذ بحرفية النص، ويرفض القياس، والمجاز، والمماثلة... إلخ.
وتساءل الباحث الجزائري: لماذا الانطلاق من الصورة في دراسة سؤال التأويل؟ ما الصورة في هذا المضمار؟ هل هي الشاهد، أو المعيار، أو النموذج في دراسة النص، أو القيام على حقيقةٍ ما ترتبط بهذا النص، أو ترتبط بالواقع؟
وأضاف: الصورة، سواء كانت حسية أم معقولة، خيالية أم باطنية، ذهنية أم نفسية، تتحكَّم، بشكل مصيري شعوري في جانب، ولاشعوري في جانب آخر، في كل فعل بشري، أو إرادة نافذة، فهي ليست موضوع الدراسة، أو التخمين، أو التأمل؛ بقدر ماهي محفّز كل دراسة، أو تخمين، أو تأمل، أو مجرَّد لذة في النظر، تحت مفهوم ما سماه فرويد "الدافع الرؤيوي". فلأن هناك شيئاً ما ينتابنا، أو يثير اهتمامنا، أو فضولنا، أو يسحرنا ويستهوينا، فإننا نتواصل به بالصورة، سواء كان شيئاً حسياً قابلاً للإدراك والحدس أم شيئاً معقولاً قابلاً للتفكّر والاستيعاب؛ أي: إننا ندرك صورته، والأبعاد التي يتخذها في هذه الصيغة، أو تلك، في هذه الوضعية، أو تلك.
الصورة إذاً، هي الدافع؛ حتى عندما تكون موضوع الإدراك الحسي أو العقلي (صورة ما)؛ لأن كل "شيء صورة أو شكل" تبعاً لمقولة بلزاك وعندما نكون في حضرة الصور، في قبضة الصور، فإن الكل عبارة عن صور.
وأوضح أن التأويل عند ابن عربي ينخرط في حذر إبستمولوجي، يتراوح بين التبني والاحتراس، تبعاً للسياقات والعتبات، وبعد تأمُّل دقيق، وبالمقارنة مع خيار نظري انتهجته، يأخذ بالصورة بدلاً من المذهب، أو بالتأويل الثقافي بدلاً من النقد الإيديولوجي، أقول بأن ابن عربي، وبحكم الجمع بين الظاهر والباطن، كان يتأرجح بين النزوع الأيقونكلستي المناهض للصورة بمعناها "الأيدولي" أي: الصنمي أو السيمولاكري؛ وبين النزوع الأيقونوفيلي المشايع للصورة بمعناها "الأيقوني"؛ لأن ابن عربي يعدّ الوجود عبارة عن صور متكاثرة، متشاكلة، متناسلة، مسافرة، تتردد على كل الحقائق الطبيعية، والحسية، والخيالية، والروحية التي يشتمل عليها هذا الوجود.
وقال الباحث الجزائري "في اشتغالي على فكرة التأويل، سأقدم مجموعة من "التأويلات" المتراكزة التي طبعت النص الأكبري. أتوقف عند أهم هذه التأويلات، بعضها معروف كالتأويل الرمزي، والتأويل الإشاري المستنبط من النصوص الصوفية ذاتها؛ وبعضها غير معروف كالتأويل الباروكي، والتأويل الإسفاري. أميّز في هذه التأويلات بين ما له خاصية الإطار أو اللوحة، وهو التأويل الباروكي؛ وما له خاصية الممارسة أو الإنجاز، وهو التأويل الرمزي والتأويل الإسفاري، مع ضرورة التقاطع بين اللوحة والممارسة فحسب؛ لأن الممارسة التأويلية تنخرط في إطار، أو لوحة هي بمرتبة "مستوى المحايثة" كما سماه دولوز؛ أو "شكل الحياة" بنعوت فتغنشتاين.
ولفت إلى أن الصراع الخفي، التاريخي والإيديولوجي في جوهره، والذي يشكّل العائق المعرفي والإبستمولوجي في نظام اشتغاله، بين التصوف والعرفان. عمل التوجُّه الإيديولوجي على الفصل بين الترادُف الكائن بينهما، فهو ترادف كائن في القواميس، لكنه مضاد في القراطيس، وبشكل جمبازي يُمليه الإكراه المذهبي، محط نزاع بالمتاريس.
وأوضح "إذا تقيَّدتُ بالخيط الرفيع الذي يوجهني في هذه الدراسة، وهو فقه الصورة، فإن التصوف ارتبط بشيء يُسمى في الأدبيات الدينية ب: "التسنُّن"، وارتبط العرفان بشيء يُسمى "التشيُّع". إنه أكبر عائق في إدراك التصوف والعرفان بمعزل عن البطانة الإيديولوجية التي تغلَّفا بها، فضلاً عن الذرائعية السياسية التي أحكمت القبضة عليهما.
وأشار الباحث الجزائري إلى إن التصوف يندرج في الحقل الديني واللاهوتي بكل أدواته الفقهية، والكلامية، والحكمية التي شيَّدها بناءً على مرجعية أصلية (النص القرآني، والخبر النبوي) وأن العرفان يتجاوز هذا الحقل الديني واللاهوتي برؤية خاصة، وممارسة فريدة، تجعله يعانق التجربة، ويحتك بالمطلق.
يبقى السؤال في معرفة موقع ابن عربي من هذه الإزاحة الفلسفية بين التصوف والعرفان: لماذا بالضبط "تأويل صوفي للقرآن" عند ابن عربي، وليس "تأويلاً عرفانياً للقرآن"؟ هل معنى ذلك أن ابن عربي هو استمرارية للإرث الصوفي والتفسيري الذي سبقه؟ ألم تكن له رؤية عرفانية انشقت، بحكم التميُّز في اللغة والأسلوب، عن المعجم اللاهوتي، والكلامي، والحكمي المهيمن؟
لا شك أن ابن عربي كانت له تجربة عرفانية متداخلة مع التجربة الصوفية؛ التي أخذ منها المعجم والطريقة، فيمكن وضعه في برزخ بين التصوف والعرفان، له قَدَم في التصوف المنعطف على التراث المتداول، وقَدَم في العرفان المتفرّد بتجربة أنطولوجية خاصة. هذا ما دفعني إلى الإقرار بما يلي: "ينطلق العرفان من عتبة غَسقية هي مبتدأ التجربة، عندما ينحصر التصوف في عتبة نسقية هي الإحاطة الدينية بقوالبها الشرعية الموضوعة". ورأى الباحث الجزائري أن كل مصيبة في التاريخ كانت حصيلة ترجمة عبارة غير مفهومة، وقُصد بها شيء آخر، أو تأويل حُكم انجرَّ عنه إسراف أو بغي؛ كل ترجمة هي تمهيد نحو الهيمنة، كل تأويل هو مدخل إلى السلطة، وليست الترجمة سوى التأويل نفسه، وليس التأويل سوى الترجمة عينها.
إن "التأويل الرحماني"، إذا جاز لنا الحديث بهذه الصيغة في نعت التأويل الصوفي، هو التأويل الأيقونوفيلي الذي يعطي كل ذي حق حقه، يعترف بالطبيعة المركّبة والملتبسة للوجود وللغة، فيساير كل الإمكانات المحتملة، كل الصور الممكنة، ليأخذ بها كلها، دون تمييز عُنصري، أو إقصاء نظري؛ على العكس من التأويل الأيقونكلستي الذي يرتبط بدلالة أحادية للحرف هي ما يكشفه الحرف بذاته في محض ماديته اللغوية.
وأكد أن التأويل الصوفي الذي يبتغي التنوُّع الصُّوَري، والاختلاف الأيقوني، هو التأويل الحامل لرحمة واسعة؛ لأنه يؤمن أساساً بالوُسع في الدلالة والفهم تبعاً لتعدُّد القوابل، وتنوُّع القراءات. إن التأويل الذي يروم المآل؛ لأنه حامل الرحمة في الحال، هو تأويل مستقبلي لا ماضياً، هو تأويل التفاؤل والتفاعُل، لا تأويل التشاؤم والزمن المتوقف، هو تأويل الحاضر في توجُّهه الآتي، لا تأويل الماضي في وجهه العاتي.
التأويل حركة الفكر داخل النص، ارتقاء العقل في الوجود؛ فهو دائماً حركة نحو المستقبل، ولا يمكنه أن يتوقَّف عند زمان سوى بتضييق الواسع، وحصر الإمكان، فيسقط بذلك في الجلفية البغيضة. إن التأويل، بوصفه حامل الرحمة الشاملة، والرؤية الواسعة، لا يمكنه أن يكون سوى تأويل العرفان بالمعنى الخُلُقي لأخلاقيات التأويل، أي: التأويل الذي لا يكتفي بأن يعرف، لكنه يسعى أيضاً لأن يعترف، بأن يكون عمله العرفان والامتنان، أن يعترف بأن ثمَّة أفكاراً، ورؤى، وتصوُّرات لها الحق في التعبير عن الوجوه المتعدّدة، والمتشعّبة للوجود. التأويل الصوفي هو تأويل عرفاني، ليس فقط بالمعنى الحصري للمعرفة القصوى للوجود، وإنما أيضاً بالمعنى المفتوح للاعتراف بالحق في الاختلاف.
وقال الباحث الجزائري "كذلك التأويل الصوفي هو تأويل قرآني بامتياز، يحاكي نسيجه النصي، ويبتغي نموذجه الأصلي. يجاري التأويل الصوفي المبالغة التي يحملها القرآن في جسده الحرفي بالذات؛ إنه القراءة من عين الأمر "اقرأ" لأجل الخلق "المقروء". التأويل الصوفي قراءة: ليست القراءة مجرَّد تلاوة، ليست فقط الصوت، وليست تحريك الشفاه، إنها البحث فيما قرَّ في النفس واستقرَّ. تكون القراءة صامتة، أو لا تكون قراءة صامتة لأنها تتتبَّع رقائق الأفكار والصور لا خيوط الحروف والجمل، تبحث عن المعاني فيما تعاني. المعنى معاناة ومكابدة. تتبَّع السُّوَر بوصفها الصُّوَر، والكل صُوَر، فالكل سُوَر".
وخلص أيضا إلى أن "التأويل الصوفي هو تأويل وجودي، يتعدَّى مجرد التنسيق المعرفي والسيمائي، وهو تأويل يخاطب الوجدان بأدوات الاستشعار، والوُد الكوني. لا شك أن التأويل هو نشاط الفكر في حوار جدلي مع النص ومع العالم، هو إعادة تنسيق دوال النص، ومعاودة التجوال في العالم، لكن أهم ميزة في التأويل هي الارتقاء إلى صيغة المبالغة للوجود، وهي الوجدان.
التأويل الصوفي هو النظر في منتهى ما يصل إليه الوجود من رقائق متشابكة، وحقائق منعطفة على الذات. التأويل الصوفي هو تأويل وجودي؛ لأن أقصى ما يصل إليه الوجود هو الوجدان، والوجدان، قبل كل شيء، وبعد كل اعتبار، في الذات الواجدة؛ تُدرك الوجود متضايفاً لا يُفارقها، ظاهرة مستبطنة فيها، وصورة باطنة في المستظهر منها. الوجود والذات، الوجدان، إذاً، هما كالوجود والقرآن، متضايفان بالتداخُل الكياسمي، لا نعرف فيه أين يبدأ القرآن وأين ينتهي الوجود، أين يبدأ الوجود وأين تنتهي الذات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.