التعليم العالي: 35 ألف طالب يسجلون في تنسيق المرحلة الأولى للقبول بالجامعات    حماة الوطن يدعو أبناء مصر بالخارج بالمشاركة الإيجابية في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    رئيس جامعة سوهاج يشهد حفل تخرج 643 طالبا وطالبة بكلية التربية النوعية    وظائف خالية اليوم.. فرص عمل ب 300 دينارًا بالأردن    وزير المالية: نعمل مع الشركاء الدوليين على تحقيق أهداف التنمية الشاملة    ارتفاع معظم مؤشرات البورصة بمنتصف تعاملات اليوم    وزير الإسكان: بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع سكن مصر بالقاهرة الجديدة    بسبب زلزال روسيا، إخلاء محطة فوكوشيما النووية في اليابان    رئيس الإمارات يؤكد أولوية التوصل إلى وقف عاجل لإطلاق النار في غزة    عمّان تسير قافلة مساعدات إغاثية للمستشفى الميداني الأردني جنوب غزة/7    الداخلية السورية: مزاعم حصار الحكومة لمحافظة السويداء محض كذب وتضليل    بعد مغادرته معسكر تركيا، موعد عودة الكرتي إلى تدريبات بيراميدز    تشكيل ليفربول - صلاح أساسي ضد يوكوهاما.. وظهور أول ل إيكيتيكي    مصر ترفع رصيدها إلى 42 ميدالية متنوعة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    المسكوت عنه فى أزمة الجيزة    مصرع شخص في حريق شقة سكنية بأرض اللواء    أمن المنافذ يضبط 40 قضية متنوعة خلال 24 ساعة    كل ما تريد معرفته عن برنامج النقوش والبرديات والمخطوطات بكلية الآداب جامعة حلوان    وزير الصحة ومحافظ الإسكندرية يبحثان تنفيذ مشروع شبكة الرعاية الصحية    خالد عبد الغفار يتابع تنفيذ مشروع إنشاء شبكة رعاية صحية بالإسكندرية    محافظ أسوان يوجه بالانتهاء من تجهيز مبني الغسيل الكلوي الجديد بمستشفى كوم أمبو    طريقة عمل الجاتوه شاتوه، لحفلاتك وعزوماتك بأقل التكاليف    في حوار خاص ل"الفجر الرياضي".. مكتشف كاظم إبراهيما: شوقي حسم الصفقة ووليد رشحه لريبيرو    أبو مسلم: جراديشار "مش نافع" ولن يعوض رحيل وسام ابو علي.. وديانج يمتلك عرضين    محافظ الفيوم يكرّم طالبة من ذوي الهمم تقديرًا لتفوقها بالثانوية العامة    وزارة الأوقاف: تدعو لترسيخ القيم الإنسانية التي دعي إليها ديننا الحنيف بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالبشر    جو شو: التحول الرقمي يبدأ من الإنسان.. والتكنولوجيا وسيلتنا لتحقيق تنمية عادلة    القبض على 5 أشخاص بتهمة التنقيب عن الآثار في القاهرة    انكسار الموجة الحارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة    إصابة 5 أشخاص فى حادث انقلاب سيارة ميكروباص بكفر الشيخ    برابط التقديم.. إنشاء أول مدرسة تكنولوجية متخصصة بالغردقة (تفاصيل)    السكة الحديد تُعلن مواعيد قطارات خط "القاهرة الإسماعيلية بورسعيد" والعكس    زيارة تبون لإيطاليا.. اتفاقيات مع روما وانزعاج في باريس    وزارة التضامن: التعامل مع حالات لسيدات وأطفالهن بلا مأوى تعرضن لمشاكل أسرية    مبيعات فيلم أحمد وأحمد تصل ل402 ألف تذكرة في 4 أسابيع    صفية القبانى: فوز نازلى مدكور وعبد الوهاب عبد المحسن تقدير لمسيرتهم الطويلة    لمسات فنية لريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقي العربية ترتدي قفاز الإجادة بإستاد الأسكندرية    ما حكم كشف وجه الميت لتقبيله وتوديعه.. وهل يصح ذلك بعد التكفين؟.. الإفتاء تجيب    معلومات الوزراء: مصر في المركز 44 عالميًا والثالث عربيا بمؤشر حقوق الطفل    مصر تُصدر أول شحنة تقاوي بطاطس ميني تيوبر إلى أوزبكستان    215 مدرسة بالفيوم تستعد لاستقبال انتخابات مجلس الشيوخ 2025    خسارة شباب الطائرة أمام بورتريكو في تحديد مراكز بطولة العالم    تحرير (145) مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    هل التفاوت بين المساجد في وقت ما بين الأذان والإقامة فيه مخالفة شرعية؟.. أمين الفتوى يجيب    ما معنى (ورابطوا) في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)؟.. عالم أزهري يوضح    علي جمعة يكشف عن حقيقة إيمانية مهمة وكيف نحولها إلى منهج حياة    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    نجاح 37 حكمًا و51 مساعدًا في اختبارات اللياقة البدنية    رابطة الأندية: لن نلغي الهبوط في الموسم الجديد    الخارجية الأمريكية: قمنا بتقييم عواقب العقوبات الجديدة ضد روسيا علينا    ليلى علوي تعيد ذكريات «حب البنات» بصور نادرة من الكواليس    الدفاع الروسية: السيطرة على بلدتين في دونيتسك وزابوريجيا    قبول دفعة جديدة من الأطباء البشريين الحاصلين على الماجستير والدكتوراه للعمل كضباط مكلفين بالقوات المسلحة    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    حظك اليوم الأربعاء 30 يوليو وتوقعات الأبراج    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    عاجل- ترمب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات    سعر الفول والسكر والسلع الأساسية بالأسواق اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باحث جزائري يرى أن التأويل الصوفي تأويل رحماني
نشر في صوت البلد يوم 25 - 05 - 2017

أكد الباحث الجزائري المتخصص في الفلسفة والدراسات العربية محمد شوقي زين أن نصوص ابن عربي تؤكّد عليه بلا مرية، أن التأويل الصوفي ما هو سوى "المآل إلى الرحمة الشاملة".
وقال في كتابه "الصورة واللغز: التأويل الصوفي للقرآن عند محي الدين بن عربي": "في جميع النصوص التي نقرؤها عند المتصوف الأندلسي، نجد دائماً أن كلمة مآل تصاحب الرحمة؛ والمآل هو تركيبة كامنة في التأويل بوصفه رؤيةً حدسيةً وكشفيةً لما سيأتي، الآتي، اختراق حُجُب الكوْن للتوصُّل بالكيْن، المُضي نحو الأمام للانعطاف على الخلف، فتكون الصيرورة القصوى هي النشأة الأولى، أي: النَّفَس الرحماني الذي منه ابتدأت أركيولوجيا الوجود والموجود، مدد ال: وجود وميلاد الموجود".
مفاد ذلك أن كل تأويل لا يحمل في بذوره أو طياته، في أصله الأول وفصله نحو المآل، رقائق من الرحمة، فهو تأويل بلا جُود أو جَوْدة، بلا جدوى، تفسير آلي وميكانيكي لحروف جوفاء، وحقول جرداء.
وأضاف في الكتاب الصادر عن دار مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن "التأويل بالتعريف هو الرحمة، ليس فقط من باب المرجعية التراثية التي تقول: إن (اختلاف الأمة رحمة)، ولكن من باب الرجئية الأنطولوجية التي تقول: إن التأويل، في انعطافه الدائري بين المبتدأ والمنتهى، لا بدَّ أن يحمل سمات الرحمة؛ لأن في انعطافه الدائري ثمة إحاطة، وكل إحاطة هي عناية، وكل عناية هي رحمة واسعة، مثل الضمّ الأمومي للطفولة البريئة".
يقدم الباحث الجزائري محاولة في الدراسات التأويلية تتميّز بإضافة بارزة، هي قراءة الشيخ الأكبر ابن عربي بعيون العصر، وقراءة العصر بعيون ابن عربي في تداخُل متحقق. وقد قامت المحاولة بتوظيف أدوات حددتها في التأويل الرمزي الخاص بالتصوُّر الصوفي والعرفاني للقرآن، ومجالات حددتها في التأويل الباروكي الخاص بكل رؤية ترى الوجود مثالاً قائماً، أو حلماً عابراً، يتطلب السبر الكشفي، والصبر المفهومي.
إحدى الفرضيات التي اشتغل عليها الباحث كمنت في عاملين أساسيين وجَّها تاريخ الفكر الإنساني، وهما: حب الصورة ومقت الصورة، لأن عليهما يتحدَّد، أيضاً، مفهوم التأويل، هذا التأويل الذي ينتمي إلى عشق الصورة؛ لأنه يقبل بالمجاز، والاستعارة، والمماثلة؛ ونقيض التأويل ينتمي إلى محو الصورة؛ لأنه يأخذ بحرفية النص، ويرفض القياس، والمجاز، والمماثلة... إلخ.
وتساءل الباحث الجزائري: لماذا الانطلاق من الصورة في دراسة سؤال التأويل؟ ما الصورة في هذا المضمار؟ هل هي الشاهد، أو المعيار، أو النموذج في دراسة النص، أو القيام على حقيقةٍ ما ترتبط بهذا النص، أو ترتبط بالواقع؟
وأضاف: الصورة، سواء كانت حسية أم معقولة، خيالية أم باطنية، ذهنية أم نفسية، تتحكَّم، بشكل مصيري شعوري في جانب، ولاشعوري في جانب آخر، في كل فعل بشري، أو إرادة نافذة، فهي ليست موضوع الدراسة، أو التخمين، أو التأمل؛ بقدر ماهي محفّز كل دراسة، أو تخمين، أو تأمل، أو مجرَّد لذة في النظر، تحت مفهوم ما سماه فرويد "الدافع الرؤيوي". فلأن هناك شيئاً ما ينتابنا، أو يثير اهتمامنا، أو فضولنا، أو يسحرنا ويستهوينا، فإننا نتواصل به بالصورة، سواء كان شيئاً حسياً قابلاً للإدراك والحدس أم شيئاً معقولاً قابلاً للتفكّر والاستيعاب؛ أي: إننا ندرك صورته، والأبعاد التي يتخذها في هذه الصيغة، أو تلك، في هذه الوضعية، أو تلك.
الصورة إذاً، هي الدافع؛ حتى عندما تكون موضوع الإدراك الحسي أو العقلي (صورة ما)؛ لأن كل "شيء صورة أو شكل" تبعاً لمقولة بلزاك وعندما نكون في حضرة الصور، في قبضة الصور، فإن الكل عبارة عن صور.
وأوضح أن التأويل عند ابن عربي ينخرط في حذر إبستمولوجي، يتراوح بين التبني والاحتراس، تبعاً للسياقات والعتبات، وبعد تأمُّل دقيق، وبالمقارنة مع خيار نظري انتهجته، يأخذ بالصورة بدلاً من المذهب، أو بالتأويل الثقافي بدلاً من النقد الإيديولوجي، أقول بأن ابن عربي، وبحكم الجمع بين الظاهر والباطن، كان يتأرجح بين النزوع الأيقونكلستي المناهض للصورة بمعناها "الأيدولي" أي: الصنمي أو السيمولاكري؛ وبين النزوع الأيقونوفيلي المشايع للصورة بمعناها "الأيقوني"؛ لأن ابن عربي يعدّ الوجود عبارة عن صور متكاثرة، متشاكلة، متناسلة، مسافرة، تتردد على كل الحقائق الطبيعية، والحسية، والخيالية، والروحية التي يشتمل عليها هذا الوجود.
وقال الباحث الجزائري "في اشتغالي على فكرة التأويل، سأقدم مجموعة من "التأويلات" المتراكزة التي طبعت النص الأكبري. أتوقف عند أهم هذه التأويلات، بعضها معروف كالتأويل الرمزي، والتأويل الإشاري المستنبط من النصوص الصوفية ذاتها؛ وبعضها غير معروف كالتأويل الباروكي، والتأويل الإسفاري. أميّز في هذه التأويلات بين ما له خاصية الإطار أو اللوحة، وهو التأويل الباروكي؛ وما له خاصية الممارسة أو الإنجاز، وهو التأويل الرمزي والتأويل الإسفاري، مع ضرورة التقاطع بين اللوحة والممارسة فحسب؛ لأن الممارسة التأويلية تنخرط في إطار، أو لوحة هي بمرتبة "مستوى المحايثة" كما سماه دولوز؛ أو "شكل الحياة" بنعوت فتغنشتاين.
ولفت إلى أن الصراع الخفي، التاريخي والإيديولوجي في جوهره، والذي يشكّل العائق المعرفي والإبستمولوجي في نظام اشتغاله، بين التصوف والعرفان. عمل التوجُّه الإيديولوجي على الفصل بين الترادُف الكائن بينهما، فهو ترادف كائن في القواميس، لكنه مضاد في القراطيس، وبشكل جمبازي يُمليه الإكراه المذهبي، محط نزاع بالمتاريس.
وأوضح "إذا تقيَّدتُ بالخيط الرفيع الذي يوجهني في هذه الدراسة، وهو فقه الصورة، فإن التصوف ارتبط بشيء يُسمى في الأدبيات الدينية ب: "التسنُّن"، وارتبط العرفان بشيء يُسمى "التشيُّع". إنه أكبر عائق في إدراك التصوف والعرفان بمعزل عن البطانة الإيديولوجية التي تغلَّفا بها، فضلاً عن الذرائعية السياسية التي أحكمت القبضة عليهما.
وأشار الباحث الجزائري إلى إن التصوف يندرج في الحقل الديني واللاهوتي بكل أدواته الفقهية، والكلامية، والحكمية التي شيَّدها بناءً على مرجعية أصلية (النص القرآني، والخبر النبوي) وأن العرفان يتجاوز هذا الحقل الديني واللاهوتي برؤية خاصة، وممارسة فريدة، تجعله يعانق التجربة، ويحتك بالمطلق.
يبقى السؤال في معرفة موقع ابن عربي من هذه الإزاحة الفلسفية بين التصوف والعرفان: لماذا بالضبط "تأويل صوفي للقرآن" عند ابن عربي، وليس "تأويلاً عرفانياً للقرآن"؟ هل معنى ذلك أن ابن عربي هو استمرارية للإرث الصوفي والتفسيري الذي سبقه؟ ألم تكن له رؤية عرفانية انشقت، بحكم التميُّز في اللغة والأسلوب، عن المعجم اللاهوتي، والكلامي، والحكمي المهيمن؟
لا شك أن ابن عربي كانت له تجربة عرفانية متداخلة مع التجربة الصوفية؛ التي أخذ منها المعجم والطريقة، فيمكن وضعه في برزخ بين التصوف والعرفان، له قَدَم في التصوف المنعطف على التراث المتداول، وقَدَم في العرفان المتفرّد بتجربة أنطولوجية خاصة. هذا ما دفعني إلى الإقرار بما يلي: "ينطلق العرفان من عتبة غَسقية هي مبتدأ التجربة، عندما ينحصر التصوف في عتبة نسقية هي الإحاطة الدينية بقوالبها الشرعية الموضوعة". ورأى الباحث الجزائري أن كل مصيبة في التاريخ كانت حصيلة ترجمة عبارة غير مفهومة، وقُصد بها شيء آخر، أو تأويل حُكم انجرَّ عنه إسراف أو بغي؛ كل ترجمة هي تمهيد نحو الهيمنة، كل تأويل هو مدخل إلى السلطة، وليست الترجمة سوى التأويل نفسه، وليس التأويل سوى الترجمة عينها.
إن "التأويل الرحماني"، إذا جاز لنا الحديث بهذه الصيغة في نعت التأويل الصوفي، هو التأويل الأيقونوفيلي الذي يعطي كل ذي حق حقه، يعترف بالطبيعة المركّبة والملتبسة للوجود وللغة، فيساير كل الإمكانات المحتملة، كل الصور الممكنة، ليأخذ بها كلها، دون تمييز عُنصري، أو إقصاء نظري؛ على العكس من التأويل الأيقونكلستي الذي يرتبط بدلالة أحادية للحرف هي ما يكشفه الحرف بذاته في محض ماديته اللغوية.
وأكد أن التأويل الصوفي الذي يبتغي التنوُّع الصُّوَري، والاختلاف الأيقوني، هو التأويل الحامل لرحمة واسعة؛ لأنه يؤمن أساساً بالوُسع في الدلالة والفهم تبعاً لتعدُّد القوابل، وتنوُّع القراءات. إن التأويل الذي يروم المآل؛ لأنه حامل الرحمة في الحال، هو تأويل مستقبلي لا ماضياً، هو تأويل التفاؤل والتفاعُل، لا تأويل التشاؤم والزمن المتوقف، هو تأويل الحاضر في توجُّهه الآتي، لا تأويل الماضي في وجهه العاتي.
التأويل حركة الفكر داخل النص، ارتقاء العقل في الوجود؛ فهو دائماً حركة نحو المستقبل، ولا يمكنه أن يتوقَّف عند زمان سوى بتضييق الواسع، وحصر الإمكان، فيسقط بذلك في الجلفية البغيضة. إن التأويل، بوصفه حامل الرحمة الشاملة، والرؤية الواسعة، لا يمكنه أن يكون سوى تأويل العرفان بالمعنى الخُلُقي لأخلاقيات التأويل، أي: التأويل الذي لا يكتفي بأن يعرف، لكنه يسعى أيضاً لأن يعترف، بأن يكون عمله العرفان والامتنان، أن يعترف بأن ثمَّة أفكاراً، ورؤى، وتصوُّرات لها الحق في التعبير عن الوجوه المتعدّدة، والمتشعّبة للوجود. التأويل الصوفي هو تأويل عرفاني، ليس فقط بالمعنى الحصري للمعرفة القصوى للوجود، وإنما أيضاً بالمعنى المفتوح للاعتراف بالحق في الاختلاف.
وقال الباحث الجزائري "كذلك التأويل الصوفي هو تأويل قرآني بامتياز، يحاكي نسيجه النصي، ويبتغي نموذجه الأصلي. يجاري التأويل الصوفي المبالغة التي يحملها القرآن في جسده الحرفي بالذات؛ إنه القراءة من عين الأمر "اقرأ" لأجل الخلق "المقروء". التأويل الصوفي قراءة: ليست القراءة مجرَّد تلاوة، ليست فقط الصوت، وليست تحريك الشفاه، إنها البحث فيما قرَّ في النفس واستقرَّ. تكون القراءة صامتة، أو لا تكون قراءة صامتة لأنها تتتبَّع رقائق الأفكار والصور لا خيوط الحروف والجمل، تبحث عن المعاني فيما تعاني. المعنى معاناة ومكابدة. تتبَّع السُّوَر بوصفها الصُّوَر، والكل صُوَر، فالكل سُوَر".
وخلص أيضا إلى أن "التأويل الصوفي هو تأويل وجودي، يتعدَّى مجرد التنسيق المعرفي والسيمائي، وهو تأويل يخاطب الوجدان بأدوات الاستشعار، والوُد الكوني. لا شك أن التأويل هو نشاط الفكر في حوار جدلي مع النص ومع العالم، هو إعادة تنسيق دوال النص، ومعاودة التجوال في العالم، لكن أهم ميزة في التأويل هي الارتقاء إلى صيغة المبالغة للوجود، وهي الوجدان.
التأويل الصوفي هو النظر في منتهى ما يصل إليه الوجود من رقائق متشابكة، وحقائق منعطفة على الذات. التأويل الصوفي هو تأويل وجودي؛ لأن أقصى ما يصل إليه الوجود هو الوجدان، والوجدان، قبل كل شيء، وبعد كل اعتبار، في الذات الواجدة؛ تُدرك الوجود متضايفاً لا يُفارقها، ظاهرة مستبطنة فيها، وصورة باطنة في المستظهر منها. الوجود والذات، الوجدان، إذاً، هما كالوجود والقرآن، متضايفان بالتداخُل الكياسمي، لا نعرف فيه أين يبدأ القرآن وأين ينتهي الوجود، أين يبدأ الوجود وأين تنتهي الذات.
أكد الباحث الجزائري المتخصص في الفلسفة والدراسات العربية محمد شوقي زين أن نصوص ابن عربي تؤكّد عليه بلا مرية، أن التأويل الصوفي ما هو سوى "المآل إلى الرحمة الشاملة".
وقال في كتابه "الصورة واللغز: التأويل الصوفي للقرآن عند محي الدين بن عربي": "في جميع النصوص التي نقرؤها عند المتصوف الأندلسي، نجد دائماً أن كلمة مآل تصاحب الرحمة؛ والمآل هو تركيبة كامنة في التأويل بوصفه رؤيةً حدسيةً وكشفيةً لما سيأتي، الآتي، اختراق حُجُب الكوْن للتوصُّل بالكيْن، المُضي نحو الأمام للانعطاف على الخلف، فتكون الصيرورة القصوى هي النشأة الأولى، أي: النَّفَس الرحماني الذي منه ابتدأت أركيولوجيا الوجود والموجود، مدد ال: وجود وميلاد الموجود".
مفاد ذلك أن كل تأويل لا يحمل في بذوره أو طياته، في أصله الأول وفصله نحو المآل، رقائق من الرحمة، فهو تأويل بلا جُود أو جَوْدة، بلا جدوى، تفسير آلي وميكانيكي لحروف جوفاء، وحقول جرداء.
وأضاف في الكتاب الصادر عن دار مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن "التأويل بالتعريف هو الرحمة، ليس فقط من باب المرجعية التراثية التي تقول: إن (اختلاف الأمة رحمة)، ولكن من باب الرجئية الأنطولوجية التي تقول: إن التأويل، في انعطافه الدائري بين المبتدأ والمنتهى، لا بدَّ أن يحمل سمات الرحمة؛ لأن في انعطافه الدائري ثمة إحاطة، وكل إحاطة هي عناية، وكل عناية هي رحمة واسعة، مثل الضمّ الأمومي للطفولة البريئة".
يقدم الباحث الجزائري محاولة في الدراسات التأويلية تتميّز بإضافة بارزة، هي قراءة الشيخ الأكبر ابن عربي بعيون العصر، وقراءة العصر بعيون ابن عربي في تداخُل متحقق. وقد قامت المحاولة بتوظيف أدوات حددتها في التأويل الرمزي الخاص بالتصوُّر الصوفي والعرفاني للقرآن، ومجالات حددتها في التأويل الباروكي الخاص بكل رؤية ترى الوجود مثالاً قائماً، أو حلماً عابراً، يتطلب السبر الكشفي، والصبر المفهومي.
إحدى الفرضيات التي اشتغل عليها الباحث كمنت في عاملين أساسيين وجَّها تاريخ الفكر الإنساني، وهما: حب الصورة ومقت الصورة، لأن عليهما يتحدَّد، أيضاً، مفهوم التأويل، هذا التأويل الذي ينتمي إلى عشق الصورة؛ لأنه يقبل بالمجاز، والاستعارة، والمماثلة؛ ونقيض التأويل ينتمي إلى محو الصورة؛ لأنه يأخذ بحرفية النص، ويرفض القياس، والمجاز، والمماثلة... إلخ.
وتساءل الباحث الجزائري: لماذا الانطلاق من الصورة في دراسة سؤال التأويل؟ ما الصورة في هذا المضمار؟ هل هي الشاهد، أو المعيار، أو النموذج في دراسة النص، أو القيام على حقيقةٍ ما ترتبط بهذا النص، أو ترتبط بالواقع؟
وأضاف: الصورة، سواء كانت حسية أم معقولة، خيالية أم باطنية، ذهنية أم نفسية، تتحكَّم، بشكل مصيري شعوري في جانب، ولاشعوري في جانب آخر، في كل فعل بشري، أو إرادة نافذة، فهي ليست موضوع الدراسة، أو التخمين، أو التأمل؛ بقدر ماهي محفّز كل دراسة، أو تخمين، أو تأمل، أو مجرَّد لذة في النظر، تحت مفهوم ما سماه فرويد "الدافع الرؤيوي". فلأن هناك شيئاً ما ينتابنا، أو يثير اهتمامنا، أو فضولنا، أو يسحرنا ويستهوينا، فإننا نتواصل به بالصورة، سواء كان شيئاً حسياً قابلاً للإدراك والحدس أم شيئاً معقولاً قابلاً للتفكّر والاستيعاب؛ أي: إننا ندرك صورته، والأبعاد التي يتخذها في هذه الصيغة، أو تلك، في هذه الوضعية، أو تلك.
الصورة إذاً، هي الدافع؛ حتى عندما تكون موضوع الإدراك الحسي أو العقلي (صورة ما)؛ لأن كل "شيء صورة أو شكل" تبعاً لمقولة بلزاك وعندما نكون في حضرة الصور، في قبضة الصور، فإن الكل عبارة عن صور.
وأوضح أن التأويل عند ابن عربي ينخرط في حذر إبستمولوجي، يتراوح بين التبني والاحتراس، تبعاً للسياقات والعتبات، وبعد تأمُّل دقيق، وبالمقارنة مع خيار نظري انتهجته، يأخذ بالصورة بدلاً من المذهب، أو بالتأويل الثقافي بدلاً من النقد الإيديولوجي، أقول بأن ابن عربي، وبحكم الجمع بين الظاهر والباطن، كان يتأرجح بين النزوع الأيقونكلستي المناهض للصورة بمعناها "الأيدولي" أي: الصنمي أو السيمولاكري؛ وبين النزوع الأيقونوفيلي المشايع للصورة بمعناها "الأيقوني"؛ لأن ابن عربي يعدّ الوجود عبارة عن صور متكاثرة، متشاكلة، متناسلة، مسافرة، تتردد على كل الحقائق الطبيعية، والحسية، والخيالية، والروحية التي يشتمل عليها هذا الوجود.
وقال الباحث الجزائري "في اشتغالي على فكرة التأويل، سأقدم مجموعة من "التأويلات" المتراكزة التي طبعت النص الأكبري. أتوقف عند أهم هذه التأويلات، بعضها معروف كالتأويل الرمزي، والتأويل الإشاري المستنبط من النصوص الصوفية ذاتها؛ وبعضها غير معروف كالتأويل الباروكي، والتأويل الإسفاري. أميّز في هذه التأويلات بين ما له خاصية الإطار أو اللوحة، وهو التأويل الباروكي؛ وما له خاصية الممارسة أو الإنجاز، وهو التأويل الرمزي والتأويل الإسفاري، مع ضرورة التقاطع بين اللوحة والممارسة فحسب؛ لأن الممارسة التأويلية تنخرط في إطار، أو لوحة هي بمرتبة "مستوى المحايثة" كما سماه دولوز؛ أو "شكل الحياة" بنعوت فتغنشتاين.
ولفت إلى أن الصراع الخفي، التاريخي والإيديولوجي في جوهره، والذي يشكّل العائق المعرفي والإبستمولوجي في نظام اشتغاله، بين التصوف والعرفان. عمل التوجُّه الإيديولوجي على الفصل بين الترادُف الكائن بينهما، فهو ترادف كائن في القواميس، لكنه مضاد في القراطيس، وبشكل جمبازي يُمليه الإكراه المذهبي، محط نزاع بالمتاريس.
وأوضح "إذا تقيَّدتُ بالخيط الرفيع الذي يوجهني في هذه الدراسة، وهو فقه الصورة، فإن التصوف ارتبط بشيء يُسمى في الأدبيات الدينية ب: "التسنُّن"، وارتبط العرفان بشيء يُسمى "التشيُّع". إنه أكبر عائق في إدراك التصوف والعرفان بمعزل عن البطانة الإيديولوجية التي تغلَّفا بها، فضلاً عن الذرائعية السياسية التي أحكمت القبضة عليهما.
وأشار الباحث الجزائري إلى إن التصوف يندرج في الحقل الديني واللاهوتي بكل أدواته الفقهية، والكلامية، والحكمية التي شيَّدها بناءً على مرجعية أصلية (النص القرآني، والخبر النبوي) وأن العرفان يتجاوز هذا الحقل الديني واللاهوتي برؤية خاصة، وممارسة فريدة، تجعله يعانق التجربة، ويحتك بالمطلق.
يبقى السؤال في معرفة موقع ابن عربي من هذه الإزاحة الفلسفية بين التصوف والعرفان: لماذا بالضبط "تأويل صوفي للقرآن" عند ابن عربي، وليس "تأويلاً عرفانياً للقرآن"؟ هل معنى ذلك أن ابن عربي هو استمرارية للإرث الصوفي والتفسيري الذي سبقه؟ ألم تكن له رؤية عرفانية انشقت، بحكم التميُّز في اللغة والأسلوب، عن المعجم اللاهوتي، والكلامي، والحكمي المهيمن؟
لا شك أن ابن عربي كانت له تجربة عرفانية متداخلة مع التجربة الصوفية؛ التي أخذ منها المعجم والطريقة، فيمكن وضعه في برزخ بين التصوف والعرفان، له قَدَم في التصوف المنعطف على التراث المتداول، وقَدَم في العرفان المتفرّد بتجربة أنطولوجية خاصة. هذا ما دفعني إلى الإقرار بما يلي: "ينطلق العرفان من عتبة غَسقية هي مبتدأ التجربة، عندما ينحصر التصوف في عتبة نسقية هي الإحاطة الدينية بقوالبها الشرعية الموضوعة". ورأى الباحث الجزائري أن كل مصيبة في التاريخ كانت حصيلة ترجمة عبارة غير مفهومة، وقُصد بها شيء آخر، أو تأويل حُكم انجرَّ عنه إسراف أو بغي؛ كل ترجمة هي تمهيد نحو الهيمنة، كل تأويل هو مدخل إلى السلطة، وليست الترجمة سوى التأويل نفسه، وليس التأويل سوى الترجمة عينها.
إن "التأويل الرحماني"، إذا جاز لنا الحديث بهذه الصيغة في نعت التأويل الصوفي، هو التأويل الأيقونوفيلي الذي يعطي كل ذي حق حقه، يعترف بالطبيعة المركّبة والملتبسة للوجود وللغة، فيساير كل الإمكانات المحتملة، كل الصور الممكنة، ليأخذ بها كلها، دون تمييز عُنصري، أو إقصاء نظري؛ على العكس من التأويل الأيقونكلستي الذي يرتبط بدلالة أحادية للحرف هي ما يكشفه الحرف بذاته في محض ماديته اللغوية.
وأكد أن التأويل الصوفي الذي يبتغي التنوُّع الصُّوَري، والاختلاف الأيقوني، هو التأويل الحامل لرحمة واسعة؛ لأنه يؤمن أساساً بالوُسع في الدلالة والفهم تبعاً لتعدُّد القوابل، وتنوُّع القراءات. إن التأويل الذي يروم المآل؛ لأنه حامل الرحمة في الحال، هو تأويل مستقبلي لا ماضياً، هو تأويل التفاؤل والتفاعُل، لا تأويل التشاؤم والزمن المتوقف، هو تأويل الحاضر في توجُّهه الآتي، لا تأويل الماضي في وجهه العاتي.
التأويل حركة الفكر داخل النص، ارتقاء العقل في الوجود؛ فهو دائماً حركة نحو المستقبل، ولا يمكنه أن يتوقَّف عند زمان سوى بتضييق الواسع، وحصر الإمكان، فيسقط بذلك في الجلفية البغيضة. إن التأويل، بوصفه حامل الرحمة الشاملة، والرؤية الواسعة، لا يمكنه أن يكون سوى تأويل العرفان بالمعنى الخُلُقي لأخلاقيات التأويل، أي: التأويل الذي لا يكتفي بأن يعرف، لكنه يسعى أيضاً لأن يعترف، بأن يكون عمله العرفان والامتنان، أن يعترف بأن ثمَّة أفكاراً، ورؤى، وتصوُّرات لها الحق في التعبير عن الوجوه المتعدّدة، والمتشعّبة للوجود. التأويل الصوفي هو تأويل عرفاني، ليس فقط بالمعنى الحصري للمعرفة القصوى للوجود، وإنما أيضاً بالمعنى المفتوح للاعتراف بالحق في الاختلاف.
وقال الباحث الجزائري "كذلك التأويل الصوفي هو تأويل قرآني بامتياز، يحاكي نسيجه النصي، ويبتغي نموذجه الأصلي. يجاري التأويل الصوفي المبالغة التي يحملها القرآن في جسده الحرفي بالذات؛ إنه القراءة من عين الأمر "اقرأ" لأجل الخلق "المقروء". التأويل الصوفي قراءة: ليست القراءة مجرَّد تلاوة، ليست فقط الصوت، وليست تحريك الشفاه، إنها البحث فيما قرَّ في النفس واستقرَّ. تكون القراءة صامتة، أو لا تكون قراءة صامتة لأنها تتتبَّع رقائق الأفكار والصور لا خيوط الحروف والجمل، تبحث عن المعاني فيما تعاني. المعنى معاناة ومكابدة. تتبَّع السُّوَر بوصفها الصُّوَر، والكل صُوَر، فالكل سُوَر".
وخلص أيضا إلى أن "التأويل الصوفي هو تأويل وجودي، يتعدَّى مجرد التنسيق المعرفي والسيمائي، وهو تأويل يخاطب الوجدان بأدوات الاستشعار، والوُد الكوني. لا شك أن التأويل هو نشاط الفكر في حوار جدلي مع النص ومع العالم، هو إعادة تنسيق دوال النص، ومعاودة التجوال في العالم، لكن أهم ميزة في التأويل هي الارتقاء إلى صيغة المبالغة للوجود، وهي الوجدان.
التأويل الصوفي هو النظر في منتهى ما يصل إليه الوجود من رقائق متشابكة، وحقائق منعطفة على الذات. التأويل الصوفي هو تأويل وجودي؛ لأن أقصى ما يصل إليه الوجود هو الوجدان، والوجدان، قبل كل شيء، وبعد كل اعتبار، في الذات الواجدة؛ تُدرك الوجود متضايفاً لا يُفارقها، ظاهرة مستبطنة فيها، وصورة باطنة في المستظهر منها. الوجود والذات، الوجدان، إذاً، هما كالوجود والقرآن، متضايفان بالتداخُل الكياسمي، لا نعرف فيه أين يبدأ القرآن وأين ينتهي الوجود، أين يبدأ الوجود وأين تنتهي الذات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.