بعد رحيله، 5 محطات فى حياة إبراهيم درويش «صانع الدساتير»    سها جندي: نحرص على تعزيز الانتماء في نفوس أبناء الوطن بالخارج    "التقويم الذاتى للبرامج التعليمية" دورة تدريبية بجامعة بنها    انطلاق النسخة الثالثة من مبادرة «اسمع واتكلم» لشباب الجامعات    وزير التعليم العالي يبحث مع وفد جامعة الشارقة آليات التعاون المشترك    تعرف على أسعار الدواجن اليوم 8 مايو    أسعار العملات العربية في بداية تعاملات اليوم    مواعيد القرعة العلنية لتخصيص شقق جنة والإسكان المتميز    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل تعاملات اليوم    محافظ كفر الشيخ يتابع تقديم طلبات التصالح بالمراكز التكنولوجية    شركة سيارات كهربائية أمريكية تعلن إفلاسها    ليتوانيا تستعد لإرسال جنود إلى أوكرانيا لهذا السبب    أمريكا توقف صفقة أسلحة مرسلة لإسرائيل بسبب رفح الفلسطينية.. تفاصيل    زيلينسكي: روسيا هاجمتنا ب 50 صاروخا في ذكرى الحرب العالمية الثانية    واشنطن تلوح بعقوبات ضد الجنائية الدولية حال قررت اعتقال مسؤولين إسرائيليين    صدمة لجماهير الأهلي بشأن رامي ربيعة    شوبير يوجه الشكر لوزير الشباب والرياضة لهذا السبب| تفاصيل    "لم يسبق التعامل بها".. بيان من نادي الكرخ بشأن عقوبة صالح جمعة    تعرف على قيمة المكافآة الخاصة للاعبي الزمالك من أجل التتويج بكأس الكونفدرالية (خاص)    استعجال تفريغ كاميرات المراقبة لمهندس حاول خطف فتاة بطريق الإسكندرية الصحراوي    بسبب السرعة.. إصابة 5 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ملاكي ببنها    محافظ الغربية يتفقد امتحانات التيرم الثاني لصفوف النقل بطنطا    التحقيق فى نشوب مشاجرة بين طرفين بسبب أولوية المرور بالقليوبية    غلق ذاكر حسين بمدينة نصر بسبب مونوريل العاصمة الإدارية    بعد تصدر فيديو ياسمين عبد العزيز «التريند».. هل يرد العوضي ؟    لبلبة و سلمي الشماع أبرز الحضور في ختام مهرجان بردية للسينما    في ذكراه.. اعتزال أحمد مظهر بسبب سعاد حسني وشارك بحرب فلسطين 48    اليوم العالمي للمتاحف، قطاع الفنون التشكيلة يعلن فتح أبواب متاحفه بالمجان    «بتنام مغمضة عين ومفتحه التانية».. حسن الرداد عن زوجته: «مش بعرف اتخانق مع إيمي» (فيديو)    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية    أسعار الذهب تشهد ارتفاع طفيف وسط عدم اليقين بشأن مسار الفائدة الأمريكية    توصيل المياه ل100 أسرة من الأولى بالرعاية في قرى ومراكز الشرقية مجانا    وكيل «أوقاف الإسكندرية» يشدد على الأئمة بعدم الدعوة لجمع التبرعات تحت أي مسمى    «القاهرة الإخبارية»: إطلاق نار من زوارق الاحتلال الإسرائيلي باتجاه رفح الفلسطينية    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب بالجملة من الفوز على الاتحاد السكندري    برج العذراء اليوم الأربعاء.. ماذا يخبئ شهر مايو لملك الأبراج الترابية 2024؟    "المحظورات في الحج".. دليل لحجاج بيت الله الحرام في موسم الحج 2024    متى عيد الاضحى 2024 العد التنازلي.. وحكم الوقوف على جبل عرفة    تتخلص من ابنها في نهر مليء بالتماسيح.. اعرف التفاصيل    هيئة الدواء تقدم 12 نصيحة لمرضى الربو    هل أدوية العلاج النفسي آمنة وفعالة؟.. الأمانة العامة للصحة النفسية تُجيب    انطلاق القافلة الطبية المجانية بمنطقة وادي ماجد بمرسى مطروح.. لمدة يومين    يوم مفتوح بثقافة حاجر العديسات بالأقصر    حكم حج للحامل والمرضع.. الإفتاء تجيب    "كفارة اليمين الغموس".. بين الكبيرة والتوبة الصادقة    6 مقالب .. ملخص تصريحات ياسمين عبدالعزيز في الجزء الثاني من حلقة إسعاد يونس    الخارجية: توقيت تصعيد الجانب الإسرائيلي الأحداث في رفح الفلسطينية خطير للغاية    عزت إبراهيم: تصفية الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة عملية مخطط لها    مفيد شهاب: ما قامت به إسرائيل يخالف اتفاقية السلام وتهديد غير مباشر باستخدام القوة    «إنت مبقتش حاجة كبيرة».. رسالة نارية من مجدي طلبة ل محمد عبد المنعم    المتحدث الرسمي للزمالك: مفأجات كارثية في ملف بوطيب.. ونستعد بقوة لنهضة بركان    موقع «نيوز لوك» يسلط الضوء على دور إبراهيم العرجاني وأبناء سيناء في دحر الإرهاب    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    فوز توجيه الصحافة بقنا بالمركز الرابع جمهورياً في "معرض صحف التربية الخاصة"    ضبط تاجر مخدرات ونجله وبحوزتهما 2000 جرام حشيش في قنا    أختار أمي ولا زوجي؟.. أسامة الحديدي: المقارنات تفسد العلاقات    اليوم.. دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ذي القعدة لعام 1445 هجرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السفر إلى ممالك الخيال مع اعتدال عثمان
نشر في صوت البلد يوم 27 - 03 - 2017

شدتني قراءة كتاب اعتدال عثمان «السفر إلى ممالك الخيال»، ليس لأنه كتاب شيق فحسب، بل لأسباب متعددة أخرى؛ منها ما هو عاطفي خاص بالقراءة لاعتدال، بوصفها كاتبة قصة رفيعة المستوى، وناقدة متميزة من ناحية، وأنني كنت قد قرأت معظم النصوص، التي عرضت لها اعتدال في كتابها، حين صدورها. من ناحية أخرى، وقد أثارتني فكرة الاطلاع على رؤية علمية جديدة لهذه النصوص المحببة لي، وأسعدني تقارب الذائقة الأدبية بيننا.
وقد استطاع الكتاب أن يحقق الهدف من أي كتاب نقدي يتعرض لأعمال أدبية، من حيث أنه يكشف عن جمالياتها وسلبياتها، وجوانب النضج الفني، وتميزها عما سواها، بالشرح والتحليل والتعليل والحكم، ويحقق في ظواهر أدبية من خلال دراستها علميا، واستخلاص مجموعة علاقات منطقية في ما بينها، وربطها بالملامح العامة للبنيات الكلية للمجتمع، من ناحية، وتقديم مفاتيح تنفذ إلى أسرار العمل، وتعين القارئ على الفهم، والتقدير وإدراك ما قد يخفى عليه بفتح آفاق القراءة أمامه، والوصول إلى قراءته الخاصة، أي التفاعل الحر مع ما يطرحه الكاتب من ناحية أخرى (إضاءة النص) حسب تسمية الكاتبة.
كما أن الكاتبة بما جبلت عليه من خبرة واسعة بالكتابة الأدبية، باعتبارها قاصة ، وناقدة مخضرمة ، تمتلك ثقافة عريضة، ونظرة ثاقبة، ومعرفة بالفن وعلاقته بالفنون الأخرى، ومعرفة عميقة بالثقافة المتنوعة للشعوب العربية، التي نشأ فيها الكتّاب الذين تناولت أعمالهم، ومعرفة بإنتاج هؤلاء الكتاب، ومشروعاتهم الأدبية، وبالكتّاب المجايلين لهم، بل تاريخ الأدب العربي أيضا.
وقد استطاعت ربط هذا الإنتاج في مناطق متعددة من الكتاب بالإنتاج العالمي أيضا (ماركيز وامبرتو إيكو).
قررت في عرضي لهذا الكتاب أن أسير على منهجها في التعامل مع النصوص، وأبدأ باختياراتها لمفاتيح النص، وأولها العنوان الرئيسي: «السفر إلى ممالك الخيال». هي تقر هنا – وهذا اعتراف ضمني – بأن مملكة الخيال ليست واحدة، بل هي ممالك متعددة، وأن كل كاتب يتميز بخصوصية مختلفة عن غيره من الكتاب وأنه لا يوجد بينهم ما يكون متماثلا، بحيث يمكن أن يقيم مقارنة صالحة، وبالتالي فإن الحكم عليه لن يكون وفق معايير واحدة، بل وفق تحقيق كل منهم لتميزات خاصة بمملكته.
النقطة الثانية هي أن هذه الممالك هي ممالك الخيال وليس الواقع، وهي مفارقة تصاحبنا في رحلتنا حتى آخر صفحة، إذ أن الكاتبة تربط طوال الوقت بين ما قدمه الكاتب من إعادة تصور للعالم مربوطا بالواقع الفعلي له، مستدعيا قوة ذاكرته التي تحمل تراثه وفنونه، وعاداته وتقاليده وأساطيره التي بنيت على وقائع تاريخية حقيقية ومؤكدة، وتعترف بأن الكاتب يمزج بين العالمين.
وعن طريق العنوان الفرعي «ملامح وأصوات في الرواية العربية» تبلغنا الكاتبة أنها ستقدم لنا ملامح وأصواتا في الرواية العربية تحديدا، فعرضت لروايات عبد الرحمن منيف، وجبرا إبراهيم جبرا، وإبراهيم الكوني، وعروسية النالوتي، وبثينة مكي، وسلوى بكر في دراسات مستقلة في النصف الثاني من الكتاب، وهو الجزء التطبيقي، في حين تعاملت مع عدد من الكتاب في دراسة ظواهر بعينها، أمثال جمال الغيطاني، وإبراهيم نصر الله، وسحر خليفة، ورضوى عاشور، وسامية عيسى وواسيني الأعرج، في عدة فصول، ثم كل من: خيري شلبي، وعلاء الديب، وإبراهيم أصلان، ونجيب محفوظ، وعلاء الأسواني، ويحيى حقي، وإدوار الخراط، في فصل عن الأدب المصري المعاصر، يقابله فصل عن الكتاب الإماراتيين الشبان. هناك توازن إذن بين الكتاب المصريين والعرب، حتى أن الدراسات التطبيقية ضمت كاتبة مصرية وحيدة، وكذلك ما احتله الكاتب المصري داخل دراسة الظواهر الأدبية.
يبدو على مدار الكتاب كله انحياز ذائقتها لكتاب بعينهم. تناوش أعمالهم مع كل دراسة لها. وهي في واقع الحال ميزة عمقت معرفتها بأعمالهم، ومتابعتها لكل جديد لديهم، وربطه بتحليلاتها لكل عمل. ويدعوني هذا التكرار للسؤال عن أسباب اختيارها لهؤلاء الكتاب، واختيار هذه النصوص. وقد لاحظت عدة ملامح متشابهة بينهم يأتي ذكرها في حينه. في مفاتيح النص أيضا لا تفوتني صورة الغلاف؛ وهي لفتاة متأملة لما قرأت، وبجوارها العالم المبهم الذي يحمل بعض الضوء، وكأنها تريد أن تخبرنا أن قراءة كتاب تحتاج أولا إلى تأمل عميق، وأن هذا ربما يفتح نافذة تكشف عن ضوٍء ما.
ينقسم الكتاب إلى جزءين الأول هو: في تحولات الرواية العربية ويضم عدة فصول هي: فلسطين في المخيال الروائي، والرواية العربية وملحمة البحث عن الهوية، والذاكرة الثقافية بين التفكيك والتركيب قراءة في الروايات المصرية الحديثة، ورواية العمارة وعمارة الرواية قراءة في نصوص مصرية، وأخيرا تجارب إماراتية شابة في الرواية.
الجزء الثاني المعنون أصوات وملامح يضم مقاربات نقدية لروايات: «النهايات، والبحث عن وليد مسعود، والعربة الذهبية لا تصعد إلى السماء، ومراتيج، وروح المكان عند بثينة مكي، والخصوصية السحرية عند الكوني».
كان سؤالي الأول عند انتهائي من القراءة هو: كيف تختار الناقدة كتّابها؟ وما الملامح التي تجمع جزئي الكتاب معا لتطير بهما إلى ممالك الخيال؟ وهل ما قدمته الكاتبة عن التحولات في الرواية العربية قد استمر يحكم اختياراتها في الجانب التطبيقي؟ وقد وجدت أن إجابة هذه الأسئلة الثلاثة تقود إلى بعضها، فالروايات المختارة هي بالفعل تمتلك خصائص وضعتها الناقدة كملامح للتحول في الرواية العربية، وقد لاحظت أنها تصف كتابها المختارين بعدة صفات:
أولا: بامتلاكهم للثقافة الرفيعة المتنوعة: «نصوص إبراهيم الكوني تكشف عن رؤية مثقف واسع الثقافة». وتقول عن بثينة: «التنوع الكبير الجامع بين النفري، وابن الهيثم، وأدونيس والجواهري، ومحمد المهدي المجذوب، وأبو العلاء المعري، وأبو الشيص، وإيزابيل الليندي يساعد على وضع الرواية في سياق ثقافي واسع».
ثانيا: اهتمامهم بالأسطورة والسحرية فترى أن عبد الرحمن منيف قام بأسطرة المكان الروائي وتوظيف الإبداع لتحرير الواقع من المخاوف، وقالت إن أعمال بثينة خضر مكي تنطوي على الغرائبية المستمدة من الأساطير الشعبية. وكتبت عن الخصوصية السحرية في أعمال الكوني، ووصفتها بالمعاصرة التي لها عمق وجودي وتاريخي، وبأن تقنياتها متميزة وأنها أسطورة موازية للتراث، ومرتبطة به، وذكرت أن جبرا إبراهيم جبرا قدّم أسطورة عصرية في البحث عن وليد مسعود لبطل يصارع حقيقة خارجية لا قبل له بالتغلب عليها، كما أن التصوير الأسطوري يظهر في أكثر من عمل لجبرا، وقالت إن سلوى بكر استخدمت حيلة فنية خيالية مدخلا لطراز من النقد الساخر للتناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ثالثا: إفضاء السرد في معظم الأعمال إلى مصير مأساوي ينتهي بدمار النماذج الإنسانية، كما في «العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء» التي تنتهي بموت البطلة، والسحرة، والمجوس، ونزيف الحجر، وغيرها من النصوص التي ذكرتها من أعمال الكوني، والبحث عن وليد مسعود، وموت عساف الفاجع في النهايات.
بالإضافة إلى المجتمعات المهددة بالانقراض، كما في رواية «البحث عن وليد مسعود». تقدم الرواية ذاتا جماعية مقتلعة ومهددة بالذوبان والتحلل ومقاومة في الوقت نفسه لعوامل الاندثار. وفي المجوس وفتنة الزؤان، وبر الختعور الصراع البطولي ضد لعنة الدمار الذي يلاحق نظم الحياة، ومنظومات المعرفة ذات الأفق المغلق … بتحقق النبوءة التي قضت بزوال القبيلة نفسها.
رابعا البحث عن الهوية: عند بثينة خضر مكي في روايتها «صهيل النهر» الذات العارفة في هذه الرواية تقدم إضاءة باهرة للإرث الثقافي والمكون الاجتماعي السوداني، بهدف كشف أبعاد الهوية العربية الإفريقية بثرائها النوعي . وعند إبراهيم الكوني: البحث عن الهوية الثقافية المهمشة واستعادة ذاكرة التاريخ المجهول من النسيان والمحو.
خامسا النقد واستخدام المفارقة: في «حجول من شوك» يلاحظ القارئ موقفا نقديا للصورة الذهنية الحسية النمطية للمرأة في تراثنا الممتد إلى الحاضر. وفي «العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء» تحكم الكاتبة في الخطاب القصصي يرمي إلى نقد النظرة الأحادية ونقضها.
في «مراتيج» المفارقة بالمعني الفلسفي الذي يكشف عنه النص تعني نظرة إلى العالم وموقفا من حقيقة الأشياء. كما أن المفارقة الساخرة في نص سلوى بكر تؤدي إلى رفض الجزم بالنتائج، أو تأسيس حقائق نهائية ثابتة.. المفارقة تعمل على التهوين والتهويل، بمعنى نقض وتقويض أبعاد النسب المألوفة، التي تقاس بها الأشياء.. وظهور حقائق عدة بدلا من حقيقة واحدة نهائية وثابتة.
سادسا: تقديم وعي صادم لا يجمل الحقيقة وكسر العلاقة الثابتة بين المتن والهامش
هذه السمات التي تجمع الروايات في النصف الثاني من الكتاب تحمل كلها في الوقت ذاته أول الملامح التي حددتها الكاتبة لاختيارها لنصوصها، من حيث حركة المخيال الروائي صوب التاريخ. تحت عنوان «فلسطين في المخيال الروائي»، وقد اختارت «الطنطورية» لرضوى عاشور، و«حبي الأول» لسحر خليفة، و«زمن الخيول البيضاء» لإبراهيم نصر الله، و«حليب التين» لسامية عيسى، و«سوناتا أشباح القدس» لواسيني الأعرج. وكلها أعمال تعيد إنتاج التاريخ من منظور فني واستنهاض ذاكرة المكان المسلوبة في المكان المسلوب من آلة النسيان، التي يسلطها الآخر لتمحو المكان الفلسطيني. وتعيد إنتاج الرموز، وبثها في المخيلة الاجتماعية بهدف نقل الوعي لأجيال لاحقة من ناحية، وصدمة الوعي المشكل لاستنفار فعل يواجه به الواقع المتداعي من ناحية أخرى، من خلال نص إبداعي يملك وعيا جماليا حداثيا عالميا.
وتحمل هذه النصوص أيضا ثاني الملامح وهو: البحث عن الهوية. وتقول إن سؤال الهوية هو الإجابة التي تتحدد على ضوئها خصوصية الرواية العربية، وتستعين لاثبات ذلك بروايات لجمال الغيطاني، ونجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، وإبراهيم أصلان، وإبراهيم الكوني، وتصل إلى أن الشاغل الأول للروائي العربي هو البحث عن الهوية، وحتى في قراءتها للذاكرة الثقافية بين التفكيك والتركيب، في روايات مصرية، تصل للنتائج نفسها من حيث أن الكتاب يحاولون عن طريق تفكيك البنيات السائدة إبراز متناقضاتها، والتوصل عن طريق المتخيل إلى بنيات موازية مضادة، وناقدة لأنماط الوعي القائم، وطامحة لتأسيس وعي جديد ينبع من الحاضر المعيش، ويتفاعل مع حاضر مأمول. وقد قسمت الروايات إلى نوعين: انتقادية اجتماعية وشعرية تطبيقا على أعمال بهاء طاهر، وجمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم، وإدوار الخراط ، ومحمد مستجاب، وربطتها بما قدمه الجيل السابق عليهم بعد أن حددت في الهامش أنها تناقش أعمالا صدرت كلها في الثمانينيات، وهي دقة يتطلبها تحديد أدوات الكاتب في التفكيك وفقا لزمن هذه الفترة، لأن كل فترة حملت ملامحها الخاصة، حتى في حديثها عن عمارة الرواية ورواية العمارة وصلت لنتيجة متفقة مع السياق العام، من حيث رصد العشوائية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية، واعتبرتها سببا لانبثاق الرواية الشابة الحديثة التي قوضت التقاليد الروائية السابقة. وهو ما رصدته من خلال مقاربتها لنصوص شباب من الإمارات متحررين على حد تعبيرها من قيود المعايير الجاهزة التي تفرضها الرواية التقليدية. وبهذا نعود إلى ما حددته الكاتبة من أن الروائيين العرب يجمعهم مشهد واحد تتآلف مكوناته وعناصره البنائية لتشكل لوحة شاسعة للواقع العربي الراهن المرتبك بأبعاده التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية على نحو ما ينعكس على مرايا المتخيل الأدبي في الأعمال الروائية، وقد نجحت اعتدال عثمان في أن تجوب بنا في ممالك خيال هؤلاء الكتاب لنستكشف معا أسرارها وما خفي منها. وحققت ما وعدت به في مقدمة الكتاب بأن تسافر بنا لاستجلاء الصورة الإبداعية لعدد من كتابنا العرب.. فتحية لها ولرحلاتها.
..........
٭ كاتبة مصرية
شدتني قراءة كتاب اعتدال عثمان «السفر إلى ممالك الخيال»، ليس لأنه كتاب شيق فحسب، بل لأسباب متعددة أخرى؛ منها ما هو عاطفي خاص بالقراءة لاعتدال، بوصفها كاتبة قصة رفيعة المستوى، وناقدة متميزة من ناحية، وأنني كنت قد قرأت معظم النصوص، التي عرضت لها اعتدال في كتابها، حين صدورها. من ناحية أخرى، وقد أثارتني فكرة الاطلاع على رؤية علمية جديدة لهذه النصوص المحببة لي، وأسعدني تقارب الذائقة الأدبية بيننا.
وقد استطاع الكتاب أن يحقق الهدف من أي كتاب نقدي يتعرض لأعمال أدبية، من حيث أنه يكشف عن جمالياتها وسلبياتها، وجوانب النضج الفني، وتميزها عما سواها، بالشرح والتحليل والتعليل والحكم، ويحقق في ظواهر أدبية من خلال دراستها علميا، واستخلاص مجموعة علاقات منطقية في ما بينها، وربطها بالملامح العامة للبنيات الكلية للمجتمع، من ناحية، وتقديم مفاتيح تنفذ إلى أسرار العمل، وتعين القارئ على الفهم، والتقدير وإدراك ما قد يخفى عليه بفتح آفاق القراءة أمامه، والوصول إلى قراءته الخاصة، أي التفاعل الحر مع ما يطرحه الكاتب من ناحية أخرى (إضاءة النص) حسب تسمية الكاتبة.
كما أن الكاتبة بما جبلت عليه من خبرة واسعة بالكتابة الأدبية، باعتبارها قاصة ، وناقدة مخضرمة ، تمتلك ثقافة عريضة، ونظرة ثاقبة، ومعرفة بالفن وعلاقته بالفنون الأخرى، ومعرفة عميقة بالثقافة المتنوعة للشعوب العربية، التي نشأ فيها الكتّاب الذين تناولت أعمالهم، ومعرفة بإنتاج هؤلاء الكتاب، ومشروعاتهم الأدبية، وبالكتّاب المجايلين لهم، بل تاريخ الأدب العربي أيضا.
وقد استطاعت ربط هذا الإنتاج في مناطق متعددة من الكتاب بالإنتاج العالمي أيضا (ماركيز وامبرتو إيكو).
قررت في عرضي لهذا الكتاب أن أسير على منهجها في التعامل مع النصوص، وأبدأ باختياراتها لمفاتيح النص، وأولها العنوان الرئيسي: «السفر إلى ممالك الخيال». هي تقر هنا – وهذا اعتراف ضمني – بأن مملكة الخيال ليست واحدة، بل هي ممالك متعددة، وأن كل كاتب يتميز بخصوصية مختلفة عن غيره من الكتاب وأنه لا يوجد بينهم ما يكون متماثلا، بحيث يمكن أن يقيم مقارنة صالحة، وبالتالي فإن الحكم عليه لن يكون وفق معايير واحدة، بل وفق تحقيق كل منهم لتميزات خاصة بمملكته.
النقطة الثانية هي أن هذه الممالك هي ممالك الخيال وليس الواقع، وهي مفارقة تصاحبنا في رحلتنا حتى آخر صفحة، إذ أن الكاتبة تربط طوال الوقت بين ما قدمه الكاتب من إعادة تصور للعالم مربوطا بالواقع الفعلي له، مستدعيا قوة ذاكرته التي تحمل تراثه وفنونه، وعاداته وتقاليده وأساطيره التي بنيت على وقائع تاريخية حقيقية ومؤكدة، وتعترف بأن الكاتب يمزج بين العالمين.
وعن طريق العنوان الفرعي «ملامح وأصوات في الرواية العربية» تبلغنا الكاتبة أنها ستقدم لنا ملامح وأصواتا في الرواية العربية تحديدا، فعرضت لروايات عبد الرحمن منيف، وجبرا إبراهيم جبرا، وإبراهيم الكوني، وعروسية النالوتي، وبثينة مكي، وسلوى بكر في دراسات مستقلة في النصف الثاني من الكتاب، وهو الجزء التطبيقي، في حين تعاملت مع عدد من الكتاب في دراسة ظواهر بعينها، أمثال جمال الغيطاني، وإبراهيم نصر الله، وسحر خليفة، ورضوى عاشور، وسامية عيسى وواسيني الأعرج، في عدة فصول، ثم كل من: خيري شلبي، وعلاء الديب، وإبراهيم أصلان، ونجيب محفوظ، وعلاء الأسواني، ويحيى حقي، وإدوار الخراط، في فصل عن الأدب المصري المعاصر، يقابله فصل عن الكتاب الإماراتيين الشبان. هناك توازن إذن بين الكتاب المصريين والعرب، حتى أن الدراسات التطبيقية ضمت كاتبة مصرية وحيدة، وكذلك ما احتله الكاتب المصري داخل دراسة الظواهر الأدبية.
يبدو على مدار الكتاب كله انحياز ذائقتها لكتاب بعينهم. تناوش أعمالهم مع كل دراسة لها. وهي في واقع الحال ميزة عمقت معرفتها بأعمالهم، ومتابعتها لكل جديد لديهم، وربطه بتحليلاتها لكل عمل. ويدعوني هذا التكرار للسؤال عن أسباب اختيارها لهؤلاء الكتاب، واختيار هذه النصوص. وقد لاحظت عدة ملامح متشابهة بينهم يأتي ذكرها في حينه. في مفاتيح النص أيضا لا تفوتني صورة الغلاف؛ وهي لفتاة متأملة لما قرأت، وبجوارها العالم المبهم الذي يحمل بعض الضوء، وكأنها تريد أن تخبرنا أن قراءة كتاب تحتاج أولا إلى تأمل عميق، وأن هذا ربما يفتح نافذة تكشف عن ضوٍء ما.
ينقسم الكتاب إلى جزءين الأول هو: في تحولات الرواية العربية ويضم عدة فصول هي: فلسطين في المخيال الروائي، والرواية العربية وملحمة البحث عن الهوية، والذاكرة الثقافية بين التفكيك والتركيب قراءة في الروايات المصرية الحديثة، ورواية العمارة وعمارة الرواية قراءة في نصوص مصرية، وأخيرا تجارب إماراتية شابة في الرواية.
الجزء الثاني المعنون أصوات وملامح يضم مقاربات نقدية لروايات: «النهايات، والبحث عن وليد مسعود، والعربة الذهبية لا تصعد إلى السماء، ومراتيج، وروح المكان عند بثينة مكي، والخصوصية السحرية عند الكوني».
كان سؤالي الأول عند انتهائي من القراءة هو: كيف تختار الناقدة كتّابها؟ وما الملامح التي تجمع جزئي الكتاب معا لتطير بهما إلى ممالك الخيال؟ وهل ما قدمته الكاتبة عن التحولات في الرواية العربية قد استمر يحكم اختياراتها في الجانب التطبيقي؟ وقد وجدت أن إجابة هذه الأسئلة الثلاثة تقود إلى بعضها، فالروايات المختارة هي بالفعل تمتلك خصائص وضعتها الناقدة كملامح للتحول في الرواية العربية، وقد لاحظت أنها تصف كتابها المختارين بعدة صفات:
أولا: بامتلاكهم للثقافة الرفيعة المتنوعة: «نصوص إبراهيم الكوني تكشف عن رؤية مثقف واسع الثقافة». وتقول عن بثينة: «التنوع الكبير الجامع بين النفري، وابن الهيثم، وأدونيس والجواهري، ومحمد المهدي المجذوب، وأبو العلاء المعري، وأبو الشيص، وإيزابيل الليندي يساعد على وضع الرواية في سياق ثقافي واسع».
ثانيا: اهتمامهم بالأسطورة والسحرية فترى أن عبد الرحمن منيف قام بأسطرة المكان الروائي وتوظيف الإبداع لتحرير الواقع من المخاوف، وقالت إن أعمال بثينة خضر مكي تنطوي على الغرائبية المستمدة من الأساطير الشعبية. وكتبت عن الخصوصية السحرية في أعمال الكوني، ووصفتها بالمعاصرة التي لها عمق وجودي وتاريخي، وبأن تقنياتها متميزة وأنها أسطورة موازية للتراث، ومرتبطة به، وذكرت أن جبرا إبراهيم جبرا قدّم أسطورة عصرية في البحث عن وليد مسعود لبطل يصارع حقيقة خارجية لا قبل له بالتغلب عليها، كما أن التصوير الأسطوري يظهر في أكثر من عمل لجبرا، وقالت إن سلوى بكر استخدمت حيلة فنية خيالية مدخلا لطراز من النقد الساخر للتناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ثالثا: إفضاء السرد في معظم الأعمال إلى مصير مأساوي ينتهي بدمار النماذج الإنسانية، كما في «العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء» التي تنتهي بموت البطلة، والسحرة، والمجوس، ونزيف الحجر، وغيرها من النصوص التي ذكرتها من أعمال الكوني، والبحث عن وليد مسعود، وموت عساف الفاجع في النهايات.
بالإضافة إلى المجتمعات المهددة بالانقراض، كما في رواية «البحث عن وليد مسعود». تقدم الرواية ذاتا جماعية مقتلعة ومهددة بالذوبان والتحلل ومقاومة في الوقت نفسه لعوامل الاندثار. وفي المجوس وفتنة الزؤان، وبر الختعور الصراع البطولي ضد لعنة الدمار الذي يلاحق نظم الحياة، ومنظومات المعرفة ذات الأفق المغلق … بتحقق النبوءة التي قضت بزوال القبيلة نفسها.
رابعا البحث عن الهوية: عند بثينة خضر مكي في روايتها «صهيل النهر» الذات العارفة في هذه الرواية تقدم إضاءة باهرة للإرث الثقافي والمكون الاجتماعي السوداني، بهدف كشف أبعاد الهوية العربية الإفريقية بثرائها النوعي . وعند إبراهيم الكوني: البحث عن الهوية الثقافية المهمشة واستعادة ذاكرة التاريخ المجهول من النسيان والمحو.
خامسا النقد واستخدام المفارقة: في «حجول من شوك» يلاحظ القارئ موقفا نقديا للصورة الذهنية الحسية النمطية للمرأة في تراثنا الممتد إلى الحاضر. وفي «العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء» تحكم الكاتبة في الخطاب القصصي يرمي إلى نقد النظرة الأحادية ونقضها.
في «مراتيج» المفارقة بالمعني الفلسفي الذي يكشف عنه النص تعني نظرة إلى العالم وموقفا من حقيقة الأشياء. كما أن المفارقة الساخرة في نص سلوى بكر تؤدي إلى رفض الجزم بالنتائج، أو تأسيس حقائق نهائية ثابتة.. المفارقة تعمل على التهوين والتهويل، بمعنى نقض وتقويض أبعاد النسب المألوفة، التي تقاس بها الأشياء.. وظهور حقائق عدة بدلا من حقيقة واحدة نهائية وثابتة.
سادسا: تقديم وعي صادم لا يجمل الحقيقة وكسر العلاقة الثابتة بين المتن والهامش
هذه السمات التي تجمع الروايات في النصف الثاني من الكتاب تحمل كلها في الوقت ذاته أول الملامح التي حددتها الكاتبة لاختيارها لنصوصها، من حيث حركة المخيال الروائي صوب التاريخ. تحت عنوان «فلسطين في المخيال الروائي»، وقد اختارت «الطنطورية» لرضوى عاشور، و«حبي الأول» لسحر خليفة، و«زمن الخيول البيضاء» لإبراهيم نصر الله، و«حليب التين» لسامية عيسى، و«سوناتا أشباح القدس» لواسيني الأعرج. وكلها أعمال تعيد إنتاج التاريخ من منظور فني واستنهاض ذاكرة المكان المسلوبة في المكان المسلوب من آلة النسيان، التي يسلطها الآخر لتمحو المكان الفلسطيني. وتعيد إنتاج الرموز، وبثها في المخيلة الاجتماعية بهدف نقل الوعي لأجيال لاحقة من ناحية، وصدمة الوعي المشكل لاستنفار فعل يواجه به الواقع المتداعي من ناحية أخرى، من خلال نص إبداعي يملك وعيا جماليا حداثيا عالميا.
وتحمل هذه النصوص أيضا ثاني الملامح وهو: البحث عن الهوية. وتقول إن سؤال الهوية هو الإجابة التي تتحدد على ضوئها خصوصية الرواية العربية، وتستعين لاثبات ذلك بروايات لجمال الغيطاني، ونجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، وإبراهيم أصلان، وإبراهيم الكوني، وتصل إلى أن الشاغل الأول للروائي العربي هو البحث عن الهوية، وحتى في قراءتها للذاكرة الثقافية بين التفكيك والتركيب، في روايات مصرية، تصل للنتائج نفسها من حيث أن الكتاب يحاولون عن طريق تفكيك البنيات السائدة إبراز متناقضاتها، والتوصل عن طريق المتخيل إلى بنيات موازية مضادة، وناقدة لأنماط الوعي القائم، وطامحة لتأسيس وعي جديد ينبع من الحاضر المعيش، ويتفاعل مع حاضر مأمول. وقد قسمت الروايات إلى نوعين: انتقادية اجتماعية وشعرية تطبيقا على أعمال بهاء طاهر، وجمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم، وإدوار الخراط ، ومحمد مستجاب، وربطتها بما قدمه الجيل السابق عليهم بعد أن حددت في الهامش أنها تناقش أعمالا صدرت كلها في الثمانينيات، وهي دقة يتطلبها تحديد أدوات الكاتب في التفكيك وفقا لزمن هذه الفترة، لأن كل فترة حملت ملامحها الخاصة، حتى في حديثها عن عمارة الرواية ورواية العمارة وصلت لنتيجة متفقة مع السياق العام، من حيث رصد العشوائية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية، واعتبرتها سببا لانبثاق الرواية الشابة الحديثة التي قوضت التقاليد الروائية السابقة. وهو ما رصدته من خلال مقاربتها لنصوص شباب من الإمارات متحررين على حد تعبيرها من قيود المعايير الجاهزة التي تفرضها الرواية التقليدية. وبهذا نعود إلى ما حددته الكاتبة من أن الروائيين العرب يجمعهم مشهد واحد تتآلف مكوناته وعناصره البنائية لتشكل لوحة شاسعة للواقع العربي الراهن المرتبك بأبعاده التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية على نحو ما ينعكس على مرايا المتخيل الأدبي في الأعمال الروائية، وقد نجحت اعتدال عثمان في أن تجوب بنا في ممالك خيال هؤلاء الكتاب لنستكشف معا أسرارها وما خفي منها. وحققت ما وعدت به في مقدمة الكتاب بأن تسافر بنا لاستجلاء الصورة الإبداعية لعدد من كتابنا العرب.. فتحية لها ولرحلاتها.
..........
٭ كاتبة مصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.