تعرف على اختصاصات الهيئة الوطنية للانتخابات    ميتا تعتزم زيادة استثماراتها في الذكاء الاصطناعي بعدما فاقت نتائج الربع الثاني التوقعات    روسيا تعلن السيطرة على بلدة شازوف يار شرقي أوكرانيا    موعد مباراة آرسنال وتوتنهام والقنوات الناقلة    دون إصابات.. خروج قطار عن القضبان بعد الاصطدام برصيف محطة السنطة بالغربية    طقس اليوم الخميس 31-7-2025.. انخفاض درجات الحرارة واضطراب بالملاحة    المهرجان القومي للمسرح يكرّم الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    أستراليا وبريطانيا تدعوان لوقف إطلاق النار في غزة وتشددان على حل الدولتين    أسعار الدولار اليوم الخميس 31 يوليو 2025 بعد تثبيت الفائدة الأمريكية    اليوم.. المصري يلاقي هلال مساكن في ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    ارتفاع أسعار الذهب الفورية اليوم الخميس 31-7-2025    فورد تتوقع خسائر بقيمة ملياري دولار هذا العام نتيجة رسوم ترامب    هاريس ستدلي بشهادتها في الكونجرس بشأن الحالة العقلية لبايدن والعفو عن 2500 شخص    أمير غزة الصغير.. قصّة طفل قبّل يد من قدم له الطعام وقتله الجيش الإسرائيلي بدم بارد    إصابة 4 أشخاص في حادث انقلاب سيارة بشمال سيناء    20 شاحنة مساعدات إماراتية تستعد للدخول إلى قطاع غزة    ملعب الإسكندرية يتحول إلى منصة فنية ضمن فعاليات "صيف الأوبرا 2025"    دعمًا لمرشح «الجبهة الوطنية».. مؤتمر حاشد للسيدات بالقليوبية    معتقل من ذوي الهمم يقود "الإخوان".. داخلية السيسي تقتل فريد شلبي المعلم بالأزهر بمقر أمني بكفر الشيخ    الرئيس الفلسطيني يرحب ب"الموقف التاريخي والشجاع" لكندا    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    قناة السويس حكاية وطنl القناة الجديدة.. 10 سنوات من التحدى والإنجاز    قناة السويس حكاية وطن l حُفرت بأيادٍ مصرية وسُرقت ب«امتياز فرنسى»    الطب الشرعى يحل لغز وفاة أب وابنائه الستة فى المنيا.. تفاصيل    مواعيد مباريات اليوم الخميس 31 يوليو 2025 والقنوات الناقلة    نحن ضحايا «عك»    سلاح النفط العربي    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    «النفط ولع».. ارتفاع هائل في أسعار الذهب الأسود اليوم الخميس 31 يوليو 2025 (تفاصيل)    طريقة عمل سلطة الفتوش على الطريقة الأصلية    المهرجان القومي للمسرح يحتفي بالفائزين في مسابقة التأليف المسرحي    بينهم طفل.. إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق فايد بالإسماعيلية (أسماء)    رامي رضوان ودنيا سمير غانم وابنتهما كايلا يتألقون بالعرض الخاص ل «روكي الغلابة»    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"رقة القتل" ودروس ال (ق ق ج)
نشر في صوت البلد يوم 29 - 10 - 2016

على الرغم من صدور العمل الإبداعي "رقة القتل" للمبدع أحمد طوسون العام 2015 فإن دراسة نقدية عنها لم تقدم حتى تاريخه، رغم ما فيها من قيمة أدبية جادة، تستحق الانتباه والتنويه.
صدّر أحمد طوسون عمله بغلاف يحمل مع عنوان العمل كلمة "رواية" حيث تتناول حياة أربعة من مثقفي الفيوم، يعانون من تسلط أشكال السلطة عليهم فيقول {أي عذر يسمح للإنسان أن تسلب بإرادته، سواء كان السلب لصالح المجتمع أو الأب أو العائلة، أم كان لصلح السلطة. سلطة القبيلة التي تسكننا أم سلطة الدولة الطاغية} حيث يؤدي هذا التدخل السلطوي، إما للتقوقع، أو الوصولية للتحايل عليها، أو الهروب، داخليا أو خارجيا.
وقد أدى هذا التدخل لتحديد مسارات حياة الأربعة (الشخوص الرئيسية في العمل)، حيث يصبح لكل منهم حياتان، حياة يعيشها في الظاهر تمثل حياة (الجبر) وحياة يمكن أن نسميها تحتية، تمثل حياة الاختيار. حيث نجد علي سبيل المثال "حاتم فهمي" الذي يهوى الرسم والفنون {حاتم الذي كان يحلم أن يصبح فنانا أو شاعرا مثله مثل أصحابه سيف ناصر وشوقي وأنور شفيع. وجد نفسه مطالبا أن يصبح جلادا يمسك بيديه عددا من الكلابشات التي يقيد بها كل من حوله}.
فنزولا علي رغبة الوالد (الحاج فهمي)، الذي يعيش فكرة أسياد البلد، ويرغب في استمرار أن تظل السلطة في العائلة، يصبح حاتم ضابط شرطة. فيقرر أن تكون له شقة مستقلة في بني سويف، يمارس فيها هوايته في الرسم. وتحديدا رسم العاريات، حيث يري فيهن، الظهور علي الحقيقة، دون زيف ودون قناع.
أثناء نوبتجية فهمي بالقسم، يدخل عليه أحد أفراد القسم ليخبره بأن شيئا يحدث في الحجز. يذهب حاتم ليجد أحد المحتجزين يحترق، مرددا أن أفراد القسم هم الذين حرقوه.
يرتعب حاتم، بينما يضحك أفراد القسم على هذا الضابط الذي يرونه ليس كالضابط "عمر زاهر" الذي لم يكن يطرف له جفن في مثل هذه المواقف، والذي اشتهر باستطاعه استخراج الاعتراف من أفواه المدانين.
يعلن حاتم التمرد على سلطة الأب، حين يُكلف بالإشراف علي الانتخابات في بلدته، بعد أن فشل في تقديم الاعتذار لرئيسه "عمر زاهر". حيث كان والده يسعي لإنجاح الشيخ إخلاص ممثل جماعة الإخوان، انتقاما من الحزب الوطني الذي يسعي لإنجاح مرشح من خارج بلدته. فلا يتدخل حاتم في عملية التصويت، ليدخل الشيخ إخلاص الإعادة، ليتدخل الحزب بعدها فينجح مرشح الحزب.
أما الآخر "سيف ناصر، الذي يسوقه صديقة شوقي والصدفة للعمل بإحدى المؤسسات الثقافية، كنوع من إدخال المثقفين الحظيرة، فيلتحق بالعمل بها ويتدرج في وظائفها، بعد أن استخدم كل الوسائل التي تصل به لهذا المنصب دون وجه حق، ومتخطيا كل المستحقين، إلا أنه يعلن عن عزله وتولية أحد الناشرين المغمورين في المنصب بناء على تعليمات الهانم.
والثالث "أنور شفيع" الذي يتفق مع حبيبته على الزواج، غير أن والدها يرفض، تحاول إقناع الوالد الذي كان يريد تزويجها لأغراض مالية، فتنجح المحبوبة بمساعدة الأم على إقناع الوالد بعدم الوقوف في وجه سعادتها.
تطير المحبوبة لأنور محملة بكل آيات الفرح والبهجة والأمل، لتفاجأ، باستقبال أنور للخبر بكل برود، وبرغبته في السفر. ويسافر للخليج ويتزوج هناك من مصرية، زواج مصلحة. وبعد أن يجد أن سعادته لن تكون إلا مع الحبيبة، يتفق معها أنه سيعود، وبالفعل يعود لحبه ليجد المحبوبة إنسانة أخرى، ولتخبره بأنها قررت العودة لزوجها.
أما شوقي، الذي لم يشأ أن يغادر بلدته (الفيوم) والذي لم يجد له عملا إلا في المحليات، ولتصبح زوجته هي رب البيت الفعلي بما تصرفه عليه. وبعد أن تسرق روايته دون أن يستطيع إثبات حقه، ويصبح بقايا إنسان، حين يفشل في ترك زوجته والارتباط بمن أحب. وينتظر زيارات صديقه سيف للفيوم كل فترة، يسترجع معه الذكريات.
وإذا كان بعض من قرأ العمل رأى فيه مؤسسة ثقافيىة بعينها، وهي بالفعل كذلك إذا ما تأملنا مسيرة سيف ناصر فيها وبعض الإشارات التي تشير إلى ذلك. فإن أحمد طوسون نجح في ألا تقتصر الرؤية على هذه الرؤية التي تضيق من أفق العمل، حيث استطاع أن يلبس الخاص عباء العام.
عديد الإشارات والإيحاءات تجعلنا ننظر إلى الوطن كله، خاصة فيما قبل 25 يناير. مثل تلك الإشارات لما يحدث في أقسام الشرطة، ومثل موقف الانتخابات وبالتحديد إنتخابات 2005 التي تخيلت الدولة فيها أنها تستطيع الوصول لنفس النتيجة التي تريدها إن هي تركت الانتخابات دون تدخل، وما أدى إليه من دخول عدد كبير من الإخوان في جولة الإعادة. فسارعت بالتدخل لتعيد الميزان لما تهواه. ومثل تدخل (الهانم) في تعيينات بعض المناصب العليا، وغيرها من الإشارات.
أيضا يمكن توسعة مجال الرؤية ليتسع أفقها وليشمل الإنسانية كلها، خاصة إذا ما تأملنا مشهد النهاية. عندما جلس شوقي الكامن في الفيوم، يتأمل الوجود من حوله ليدرك أن الزمن قد مر، وتفرق الأصدقاء، ورحلت الزوجة، وسافر الابن إلى الخارج. في معزوفة حزينة تبدأ بأوكسترا كامل، ثم تبدأ آلات الأوركسترا تنسحب من المشهد، آلة فآلة، إلى أن يظل صوت الفلوت وحيدا، وهي الصورة التي أصبح عليها شوقي، أو يصبح عليها الإنسان عامة، حين يكون في الصغر والعالم من حوله صخاب ضاج بالعديد من الأهل والأصدقاء، ثم يتفرق كل لسبيله، ويرحل البعض إلى العالم الآخر.. حتى يجد الإنسان نفسه في الكبر وقد أصبح وحيدا.
غير أن كل تلك الرؤي، وتلك الأحداث، ومرور الزمن هذا، إلا أننا نخرج العمل في النهاية من زمرة النوع الروائي، وندخلها بامتياز في صميم القصة القصيرة، بل أدعو كتّاب القصة القصيرة لتدارس هذا العمل، وبحث إمكانياته الهائلة، وعلى وجه التحديد كتاب ما يسمي بالقصة القصيرة جدا، أو (ال ق ق ج)، أو ما أسميها القصة بدون قصة. وذلك لعدة أسباب:
1- القصة القصيرة، خاصة القصة الإدريسية، قوامها اللحظة، أو الموقف، أو المشهد العابر، والذي لا يستغرق أكثر من بضع دقائق.
فإذا ما تأملنا البداية والنهاية في "رقة القتل" سنجد أن العمل قد أخذ الشكل الدائري، بعني أن مشهد البداية هو ذاته مشهد النهاية. حيث جلس شوقي مع صديقه سيف في إحدي زياراته، وبينما هما جلوس يلحظ سيف أن قصر الثقافة (بالفيوم) قد تم هدمه وأقيم مباءة مكانه، وليكتشف أن ذلك قد حدث منذ خمسة عشر عاما، ورغم زياراته المتكررة، إلا أنه لم يلحظ ذلك من قبل.
إذن فقد مر الزمن ونحن في غفلة منه. وبينما هم في حديث الذكريات، يسقط شوقي من صديقه، في التفكير، لتمر عليه كل الأحداث والذكريات والشخوص. إلى أن ينبهه صديقه سائلا بما معناه (روحت فين) ليتنبه شوقي أنهما جالسان معا، فالأشخاص والأحداث كلها دارت واسترجعت داخل ذاكرة شوقي، ولم يستغرق ذلك إلا بضع دقائق. وهذا هو الفرق الجوهري بين نوعي السرد (القصة والرواية).
2- تعتمد القصة القصيرة علي التركيز والتكثيف. وعلى الرغم من أن "رقة القتل استغرقت مائة وخمسا وخمسين صفحة من القطع المتوسط، إلا ان القارئ لا يجد بها أيا من الحشو أو الزوائد، وإنما كانت كل كلمة، وكل موقف، يؤدي دورا معينا في بناء محكم أشد الإحكام، دون أي أثر لصنعة أو تدخل من الكاتب.
3- الإحساس الكلي، أو الرؤية الكلية، والتي تعطي انطباعا بوحدة الموضوع. وهو ما يمكن أن نقوله عن "رقة القتل" التي يمكن تلخيصها في (مقاومة الشباب للسلطة المتسلطة، والسعي نحو الحرية).
4- المتعة، القرائية والفكرية. أما المتعة الفكرية، فتتجلي في فتح أفق القاري ليرى في العمل تلك المستويات التي أشرنا إليها، فضلا عن التلميحات المعلوماتية والتاريخية المبثوثة في العمل دون زوائد أو نفور.
وأما المتعة القرائية، فتتجلي في قدرة الكاتب علي الإمساك بقارئه من البداية وحتى النهاية، بأساليب منها:
أ – عدم سير العمل بطريقة تصاعدية حكائية، وإنما تأرجحه بين الأزمنة، والتي تشبه حالة سباح في مياه النهر يسير بين السباحة والغطس، تجعل المتفرج/ القارئ، يشاهد ويراقب، كم من الزمن سيستغرق في هذه الغطسة، وأين سيخرج؟ وهو ما يجعل القارئ في حالة يقظة مستمرة.
ب – عملية التقطيع. حيث يلقي الكاتب بإشارة معينة ولا يبينها، إلا بعد مسافة كبيرة، وكأنه يلقي بالطُعم، ويجعل القرئ في انتظار السمكة. كأن يخبرنا في ص 21 بأن ذهب لرئيسه ليعتذر. دون أن يوضح لنا عن ماذا يعتذر. ولا نعرف خبر المبتدأ إلا في ص 123، بأنه ذهب ليعتذر عن الإشراف على الانتخابات في بلده، حتى لا يواجه والده.
وأيضا يذكر لنا أن "أحمد" سافر، ولا ندري من هو أحمد رغم أننا كنا قد قاربنا النهاية في العمل، لنعلم بعد صفحات بأن "أحمد" هو ابن شوقي الذي سافر لتكتمل صورة الوحدة بعد فراق الأصدقاء والزوجة والأب، أيضا.
ج – اللغة الشاعرة الجاذبة، والمتنوعة بتنوع الموقف، فلا تسير على وتيرة واحدة، ففي لحظات الحب، نراها ترق حد الشعر، وفي المواجهات نراها حادة قاطعة. هو ما خلق حركة في السرد فلا يشعر القارئ بالسكينة المستسلمة.
د – مخالفة أفق التوقع. فبينما حبيبة أنور، قد نجحت في اقتناص موافقة الأب، وتذهب إلي أنور لتخبره بكل فرحة البنت حين يوافق على خطبتها، يقابلها أنور بالفتور والخذلان. ويحددث العكس أيضا، عندما يتفقان وهو في الخارج على اللقاء من جديد والزواج، يفاجأ بأن سلمى لم تعد سلمى التي كانت. وترفض الزواج. وهو ذاته (أنور) يلتقي بزوجته لقاء حميما، تسعد به أيما سعادة، وبينما هي في نشوتها، يخبرها بأنه عائد للقاهرة، ليتزوج من سلمى.
فأين يمكن أن نجد كل ذلك في ال ق ق ج ، التي قد لا تتجاوز بضع كلمات، وكأنها تطرح فكرة، وتدع القارئ ينسج قصة من عندياته عليها؟
إن رقة القتل، تثبت أن القصة القصيرة، تستطيع أن تنافس الرواية في زمنها (زمن الرواية) وأوانها، وأن تعطي كل ما يمكن أن تعطيه الرواية. فقط أن يكون الكاتب مبدعا مثلما كان أحمد طوسون في "رقة القتل".
على الرغم من صدور العمل الإبداعي "رقة القتل" للمبدع أحمد طوسون العام 2015 فإن دراسة نقدية عنها لم تقدم حتى تاريخه، رغم ما فيها من قيمة أدبية جادة، تستحق الانتباه والتنويه.
صدّر أحمد طوسون عمله بغلاف يحمل مع عنوان العمل كلمة "رواية" حيث تتناول حياة أربعة من مثقفي الفيوم، يعانون من تسلط أشكال السلطة عليهم فيقول {أي عذر يسمح للإنسان أن تسلب بإرادته، سواء كان السلب لصالح المجتمع أو الأب أو العائلة، أم كان لصلح السلطة. سلطة القبيلة التي تسكننا أم سلطة الدولة الطاغية} حيث يؤدي هذا التدخل السلطوي، إما للتقوقع، أو الوصولية للتحايل عليها، أو الهروب، داخليا أو خارجيا.
وقد أدى هذا التدخل لتحديد مسارات حياة الأربعة (الشخوص الرئيسية في العمل)، حيث يصبح لكل منهم حياتان، حياة يعيشها في الظاهر تمثل حياة (الجبر) وحياة يمكن أن نسميها تحتية، تمثل حياة الاختيار. حيث نجد علي سبيل المثال "حاتم فهمي" الذي يهوى الرسم والفنون {حاتم الذي كان يحلم أن يصبح فنانا أو شاعرا مثله مثل أصحابه سيف ناصر وشوقي وأنور شفيع. وجد نفسه مطالبا أن يصبح جلادا يمسك بيديه عددا من الكلابشات التي يقيد بها كل من حوله}.
فنزولا علي رغبة الوالد (الحاج فهمي)، الذي يعيش فكرة أسياد البلد، ويرغب في استمرار أن تظل السلطة في العائلة، يصبح حاتم ضابط شرطة. فيقرر أن تكون له شقة مستقلة في بني سويف، يمارس فيها هوايته في الرسم. وتحديدا رسم العاريات، حيث يري فيهن، الظهور علي الحقيقة، دون زيف ودون قناع.
أثناء نوبتجية فهمي بالقسم، يدخل عليه أحد أفراد القسم ليخبره بأن شيئا يحدث في الحجز. يذهب حاتم ليجد أحد المحتجزين يحترق، مرددا أن أفراد القسم هم الذين حرقوه.
يرتعب حاتم، بينما يضحك أفراد القسم على هذا الضابط الذي يرونه ليس كالضابط "عمر زاهر" الذي لم يكن يطرف له جفن في مثل هذه المواقف، والذي اشتهر باستطاعه استخراج الاعتراف من أفواه المدانين.
يعلن حاتم التمرد على سلطة الأب، حين يُكلف بالإشراف علي الانتخابات في بلدته، بعد أن فشل في تقديم الاعتذار لرئيسه "عمر زاهر". حيث كان والده يسعي لإنجاح الشيخ إخلاص ممثل جماعة الإخوان، انتقاما من الحزب الوطني الذي يسعي لإنجاح مرشح من خارج بلدته. فلا يتدخل حاتم في عملية التصويت، ليدخل الشيخ إخلاص الإعادة، ليتدخل الحزب بعدها فينجح مرشح الحزب.
أما الآخر "سيف ناصر، الذي يسوقه صديقة شوقي والصدفة للعمل بإحدى المؤسسات الثقافية، كنوع من إدخال المثقفين الحظيرة، فيلتحق بالعمل بها ويتدرج في وظائفها، بعد أن استخدم كل الوسائل التي تصل به لهذا المنصب دون وجه حق، ومتخطيا كل المستحقين، إلا أنه يعلن عن عزله وتولية أحد الناشرين المغمورين في المنصب بناء على تعليمات الهانم.
والثالث "أنور شفيع" الذي يتفق مع حبيبته على الزواج، غير أن والدها يرفض، تحاول إقناع الوالد الذي كان يريد تزويجها لأغراض مالية، فتنجح المحبوبة بمساعدة الأم على إقناع الوالد بعدم الوقوف في وجه سعادتها.
تطير المحبوبة لأنور محملة بكل آيات الفرح والبهجة والأمل، لتفاجأ، باستقبال أنور للخبر بكل برود، وبرغبته في السفر. ويسافر للخليج ويتزوج هناك من مصرية، زواج مصلحة. وبعد أن يجد أن سعادته لن تكون إلا مع الحبيبة، يتفق معها أنه سيعود، وبالفعل يعود لحبه ليجد المحبوبة إنسانة أخرى، ولتخبره بأنها قررت العودة لزوجها.
أما شوقي، الذي لم يشأ أن يغادر بلدته (الفيوم) والذي لم يجد له عملا إلا في المحليات، ولتصبح زوجته هي رب البيت الفعلي بما تصرفه عليه. وبعد أن تسرق روايته دون أن يستطيع إثبات حقه، ويصبح بقايا إنسان، حين يفشل في ترك زوجته والارتباط بمن أحب. وينتظر زيارات صديقه سيف للفيوم كل فترة، يسترجع معه الذكريات.
وإذا كان بعض من قرأ العمل رأى فيه مؤسسة ثقافيىة بعينها، وهي بالفعل كذلك إذا ما تأملنا مسيرة سيف ناصر فيها وبعض الإشارات التي تشير إلى ذلك. فإن أحمد طوسون نجح في ألا تقتصر الرؤية على هذه الرؤية التي تضيق من أفق العمل، حيث استطاع أن يلبس الخاص عباء العام.
عديد الإشارات والإيحاءات تجعلنا ننظر إلى الوطن كله، خاصة فيما قبل 25 يناير. مثل تلك الإشارات لما يحدث في أقسام الشرطة، ومثل موقف الانتخابات وبالتحديد إنتخابات 2005 التي تخيلت الدولة فيها أنها تستطيع الوصول لنفس النتيجة التي تريدها إن هي تركت الانتخابات دون تدخل، وما أدى إليه من دخول عدد كبير من الإخوان في جولة الإعادة. فسارعت بالتدخل لتعيد الميزان لما تهواه. ومثل تدخل (الهانم) في تعيينات بعض المناصب العليا، وغيرها من الإشارات.
أيضا يمكن توسعة مجال الرؤية ليتسع أفقها وليشمل الإنسانية كلها، خاصة إذا ما تأملنا مشهد النهاية. عندما جلس شوقي الكامن في الفيوم، يتأمل الوجود من حوله ليدرك أن الزمن قد مر، وتفرق الأصدقاء، ورحلت الزوجة، وسافر الابن إلى الخارج. في معزوفة حزينة تبدأ بأوكسترا كامل، ثم تبدأ آلات الأوركسترا تنسحب من المشهد، آلة فآلة، إلى أن يظل صوت الفلوت وحيدا، وهي الصورة التي أصبح عليها شوقي، أو يصبح عليها الإنسان عامة، حين يكون في الصغر والعالم من حوله صخاب ضاج بالعديد من الأهل والأصدقاء، ثم يتفرق كل لسبيله، ويرحل البعض إلى العالم الآخر.. حتى يجد الإنسان نفسه في الكبر وقد أصبح وحيدا.
غير أن كل تلك الرؤي، وتلك الأحداث، ومرور الزمن هذا، إلا أننا نخرج العمل في النهاية من زمرة النوع الروائي، وندخلها بامتياز في صميم القصة القصيرة، بل أدعو كتّاب القصة القصيرة لتدارس هذا العمل، وبحث إمكانياته الهائلة، وعلى وجه التحديد كتاب ما يسمي بالقصة القصيرة جدا، أو (ال ق ق ج)، أو ما أسميها القصة بدون قصة. وذلك لعدة أسباب:
1- القصة القصيرة، خاصة القصة الإدريسية، قوامها اللحظة، أو الموقف، أو المشهد العابر، والذي لا يستغرق أكثر من بضع دقائق.
فإذا ما تأملنا البداية والنهاية في "رقة القتل" سنجد أن العمل قد أخذ الشكل الدائري، بعني أن مشهد البداية هو ذاته مشهد النهاية. حيث جلس شوقي مع صديقه سيف في إحدي زياراته، وبينما هما جلوس يلحظ سيف أن قصر الثقافة (بالفيوم) قد تم هدمه وأقيم مباءة مكانه، وليكتشف أن ذلك قد حدث منذ خمسة عشر عاما، ورغم زياراته المتكررة، إلا أنه لم يلحظ ذلك من قبل.
إذن فقد مر الزمن ونحن في غفلة منه. وبينما هم في حديث الذكريات، يسقط شوقي من صديقه، في التفكير، لتمر عليه كل الأحداث والذكريات والشخوص. إلى أن ينبهه صديقه سائلا بما معناه (روحت فين) ليتنبه شوقي أنهما جالسان معا، فالأشخاص والأحداث كلها دارت واسترجعت داخل ذاكرة شوقي، ولم يستغرق ذلك إلا بضع دقائق. وهذا هو الفرق الجوهري بين نوعي السرد (القصة والرواية).
2- تعتمد القصة القصيرة علي التركيز والتكثيف. وعلى الرغم من أن "رقة القتل استغرقت مائة وخمسا وخمسين صفحة من القطع المتوسط، إلا ان القارئ لا يجد بها أيا من الحشو أو الزوائد، وإنما كانت كل كلمة، وكل موقف، يؤدي دورا معينا في بناء محكم أشد الإحكام، دون أي أثر لصنعة أو تدخل من الكاتب.
3- الإحساس الكلي، أو الرؤية الكلية، والتي تعطي انطباعا بوحدة الموضوع. وهو ما يمكن أن نقوله عن "رقة القتل" التي يمكن تلخيصها في (مقاومة الشباب للسلطة المتسلطة، والسعي نحو الحرية).
4- المتعة، القرائية والفكرية. أما المتعة الفكرية، فتتجلي في فتح أفق القاري ليرى في العمل تلك المستويات التي أشرنا إليها، فضلا عن التلميحات المعلوماتية والتاريخية المبثوثة في العمل دون زوائد أو نفور.
وأما المتعة القرائية، فتتجلي في قدرة الكاتب علي الإمساك بقارئه من البداية وحتى النهاية، بأساليب منها:
أ – عدم سير العمل بطريقة تصاعدية حكائية، وإنما تأرجحه بين الأزمنة، والتي تشبه حالة سباح في مياه النهر يسير بين السباحة والغطس، تجعل المتفرج/ القارئ، يشاهد ويراقب، كم من الزمن سيستغرق في هذه الغطسة، وأين سيخرج؟ وهو ما يجعل القارئ في حالة يقظة مستمرة.
ب – عملية التقطيع. حيث يلقي الكاتب بإشارة معينة ولا يبينها، إلا بعد مسافة كبيرة، وكأنه يلقي بالطُعم، ويجعل القرئ في انتظار السمكة. كأن يخبرنا في ص 21 بأن ذهب لرئيسه ليعتذر. دون أن يوضح لنا عن ماذا يعتذر. ولا نعرف خبر المبتدأ إلا في ص 123، بأنه ذهب ليعتذر عن الإشراف على الانتخابات في بلده، حتى لا يواجه والده.
وأيضا يذكر لنا أن "أحمد" سافر، ولا ندري من هو أحمد رغم أننا كنا قد قاربنا النهاية في العمل، لنعلم بعد صفحات بأن "أحمد" هو ابن شوقي الذي سافر لتكتمل صورة الوحدة بعد فراق الأصدقاء والزوجة والأب، أيضا.
ج – اللغة الشاعرة الجاذبة، والمتنوعة بتنوع الموقف، فلا تسير على وتيرة واحدة، ففي لحظات الحب، نراها ترق حد الشعر، وفي المواجهات نراها حادة قاطعة. هو ما خلق حركة في السرد فلا يشعر القارئ بالسكينة المستسلمة.
د – مخالفة أفق التوقع. فبينما حبيبة أنور، قد نجحت في اقتناص موافقة الأب، وتذهب إلي أنور لتخبره بكل فرحة البنت حين يوافق على خطبتها، يقابلها أنور بالفتور والخذلان. ويحددث العكس أيضا، عندما يتفقان وهو في الخارج على اللقاء من جديد والزواج، يفاجأ بأن سلمى لم تعد سلمى التي كانت. وترفض الزواج. وهو ذاته (أنور) يلتقي بزوجته لقاء حميما، تسعد به أيما سعادة، وبينما هي في نشوتها، يخبرها بأنه عائد للقاهرة، ليتزوج من سلمى.
فأين يمكن أن نجد كل ذلك في ال ق ق ج ، التي قد لا تتجاوز بضع كلمات، وكأنها تطرح فكرة، وتدع القارئ ينسج قصة من عندياته عليها؟
إن رقة القتل، تثبت أن القصة القصيرة، تستطيع أن تنافس الرواية في زمنها (زمن الرواية) وأوانها، وأن تعطي كل ما يمكن أن تعطيه الرواية. فقط أن يكون الكاتب مبدعا مثلما كان أحمد طوسون في "رقة القتل".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.