الجميلة تنزل إلى النهر" ديوان شعر للشاعر الكبير فاروق شوشة الذي رحل عن عالمنا منذ أيام قليلة صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهو يعد إضافة مهمة إلى مسيرته الشعرية، التي بدأت عام 1966 بديوانه الأول "إلى مسافرة"، وإلى مسيرة الشعر العربي المعاصر بعامة. احتوى الديوان على عشر قصائد طويلة نوعا ما، يتضح فيها بجلاء صوت الوطن، وأزمة الشاعر النفسية، إزاء ما يحدث في فلسطينالمحتلة، وفي العراق الشقيق، وفي أماكن شتى من الوطن العربي والإسلامي الكبير. وقد تغلغلت هذه الأحداث في ضمير الشاعر، وفي إبداعه، فصار الكلام عنها يأتي بطريقة عفوية تماما، وانحراف المسار الذي قد نلاحظه في بعض القصائد، مثل قصيدة "أيها الصيف الذي ولى سريعا"، يدل على تغلغل هذه الأحداث في لا وعي الشاعر، أو في كيانه، بحيث إنه عندما يتحدث عن الصيف الذي ولى سريعا، فيرحل العشاق وينفض السامر ويشحب الضوء في الأفق، ويصطخب الموج على الشاطئ.. إلى آخر هذه اللوحات المستقاة من الطبيعة، فإن هذا الكلام لا يبشر بحديث عن الانتفاضة الفلسطينية وعن شهداء الأرض المحتلة، ولا عن مآسي بغداد، وتشظي قمر الكرخ على جسر الرصافة .. إلخ. ولكنها خبرة الشاعر الطويلة وتمكنه من أدوات التعبير، تجعله ينجح في إدارة القصيدة على هذا النحو غير المتوقع. فكل المقدمة التي كتبها الشاعر عن الصيف، والتي قال في جزء منها: كم تمنينا لو انهلت علينا بنثارات من الأنس الذي تحمل كي يشرق فينا والتجاريب التي تدفنها كفاك ما بين الرمال بعد أن داس عليها العابرون يطمس الرمل الخطى والناسَ، والصبوةَ والأحلامَ والفتكةَ واللهو البرئ ثم لا يترك فينا غير إحساس غريب ودوار كل هذه المقدمة لم تكن سوى استعطاف لفصول الطبيعة، كي تُبقي على فصل الصيف، أو تجعله يمتد طويلا. لماذا؟ لأن في القدس شتاءً قادما أثقل من كل شتاء، أو كما يقول الشاعر مخاطبا فصل الصيف: قفْ تمهلْ إن في القدس شتاء قادما أثقل من كل شتاء وعيونا رغم عصف اليأس فيها ومضة من كبرياء ترقب اللعبة في الأيدي بلا أي انتهاء وترى الباغين أقزاما وما يبنونه تلا على الرمل هواءً في هواء هكذا ينطلق الشاعر من موقف معين إزاء الطبيعة، فنحس أننا أمام شاعر رومانسي، ولكنه سرعان ما يتخلص منه، ليقدم لنا مشاهد شعرية أخرى من مشاهد المعاناة اليومية المتتالية في فلسطينوالعراق، وفي شتى فجاج الأرض، فتكتسي القصيدة بلحم المعاناة الإنسانية، بعد أن كساها الشاعر من عظام الرومانسية. *** ولتأزم الوضع العربي وترديه على هذا النحو الذي عبرت عنه غير قصيدة من قصائد الديوان، فإن الشاعر يُشفق تماما على السيد / عمرو موسى (الأمين العام لجامعة الدول العربية أثناء كتابة القصيدة) وهي مهمة من أشق المهام في هذا الزمان العربي الذي نعيشه. يواسيه الشاعر في قصيدة طويلة بعنوان "قلبي معك" فيقول له: قلبي معك في "بيتنا العربي" حين تجوس فيه وأنت تقصد موقعك حاذرْ فآلاف العقارب والأفاعي كامنات واحترسْ فالسوس ينخر في العمائم والشوارب واللحى والإخوة الأعداء يخفون الخناجر في الجيوب نصالها تهتز في وقت العناق وتنتشي بعد الفراق تطلعا لدم يراق فلا تُرعْ القصيدة كما نرى ليست تهنئة بمنصب، وليست تفخيما أو مدحا لشخصية عامة من شخوص المجتمع العربي، كما يفعل شعراء الأخوانيات والمناسبات، ولكنها مشاركة في الهم، وتعاطف مع الموقف، وتحذير من مساوئ الوضع العربي، وإشارات غير مباشرة لما يمكن أن يتحقق من نجاح على يد الأمين الجديد. وكما انحرف المسار في قصيدة "أيها الصيف الذي ولى سريعا" ليتحول الخطاب الشعري، إلى القدسوبغداد، ينحرف مسار قصيدة "قلبي معك" ليكون الخطاب الشعري عن السفلة الأوغاد. من الممكن أن نضع أيدينا على ملامح أسلوبية ولغوية تجلت في الكثير من قصائد هذا الديوان، من أهم هذه الملامح استخدام الشاعر لتركيبة لغوية معينة تتمثل في عطف الكلمة على نفسها عن طريق أدوات عطف أو أدوات وصل أو أدوات جر وإضافة، مثل الباء في قوله: (حين تلتحم الساق بالساق)، أو استخدام اللام في قوله (ما تضج به الريح للريح) وقوله (حين انحنى النخل للنخل) و(الغاب للغاب) أو قوله (وما عاد الصحاب همو الصحاب) و(ولا الوجوه هي الوجوه) أو قوله (تبدل قوما بقوم) و(وجها بوجه) أو قوله (قطرة من بعد قطرة) و(هواء في هواء) أو (جدار إثر جدار) و(خيام بعد خيام) .. إلخ. لقد بلغت مثل هذه الأساليب والتراكيب أكثر من عشرين تركيبا على مستوى قصائد الديوان، الأمر الذي يؤكد على خصوصية ما في لغة الشاعر، ليست هي الموسيقى الناتجة عن تكرار اللفظ نفسه أكثر من مرة في سطر واحد، فحسب، وعموما فهذا الأمر يحتاج إلى البحث في كل أعمال الشاعر السابقة، للوقوف على الدلالة العلمية والفنية لهذه التراكيب الشعرية. إن الوطن هو الشغل الشاغل للشاعر فاروق شوشة في ديوانه "الجميلة تنزل إلى النهر" هذا الوطن الذي يخشى عليه من عولمة الفاتحين، ومن هيمنةٍ لصهيون لا ترد، لذا نجده بعد أن هجا نهر النيل في دواوين سابقة، يصالحه في هذا الديوان. وهو إذا كان يصالح نهر النيل، في هذا الديوان، فإنه يحاول أن يفر من الموت الذي تجلى له واضحا في قصيدة "رؤيا"، (كيف تضعضعت حين أتى ذكر هذا الذي ليس منه مفر). وعلى الرغم من هذا الموقف الميتافيزيقي الذي يحياه الشاعر ويتنفسه في هذه القصيدة، فإنه لم ينس أيضا الأوغاد أو حثالة البشر، فيقول عنهم في تلك القصيدة: وماذا أريد من العصبة الفاتكين وقد أمسكوا برقاب العباد ولكنهم في ختام المطاف حثالة هذا البشر وماذا إذا بحت بالسر؟ هل يقتلوني؟ لاشك في أن ديوان "الجميلة تنزل إلى النهر" لفاروق شوشة، علامة مهمة في حياته الشعرية، رحمه الله وجعل الجنة مثواه، لما أسداه للغتنا العربية الجميلة، وللشعر العربي على مدى عقود عدة. الجميلة تنزل إلى النهر" ديوان شعر للشاعر الكبير فاروق شوشة الذي رحل عن عالمنا منذ أيام قليلة صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهو يعد إضافة مهمة إلى مسيرته الشعرية، التي بدأت عام 1966 بديوانه الأول "إلى مسافرة"، وإلى مسيرة الشعر العربي المعاصر بعامة. احتوى الديوان على عشر قصائد طويلة نوعا ما، يتضح فيها بجلاء صوت الوطن، وأزمة الشاعر النفسية، إزاء ما يحدث في فلسطينالمحتلة، وفي العراق الشقيق، وفي أماكن شتى من الوطن العربي والإسلامي الكبير. وقد تغلغلت هذه الأحداث في ضمير الشاعر، وفي إبداعه، فصار الكلام عنها يأتي بطريقة عفوية تماما، وانحراف المسار الذي قد نلاحظه في بعض القصائد، مثل قصيدة "أيها الصيف الذي ولى سريعا"، يدل على تغلغل هذه الأحداث في لا وعي الشاعر، أو في كيانه، بحيث إنه عندما يتحدث عن الصيف الذي ولى سريعا، فيرحل العشاق وينفض السامر ويشحب الضوء في الأفق، ويصطخب الموج على الشاطئ.. إلى آخر هذه اللوحات المستقاة من الطبيعة، فإن هذا الكلام لا يبشر بحديث عن الانتفاضة الفلسطينية وعن شهداء الأرض المحتلة، ولا عن مآسي بغداد، وتشظي قمر الكرخ على جسر الرصافة .. إلخ. ولكنها خبرة الشاعر الطويلة وتمكنه من أدوات التعبير، تجعله ينجح في إدارة القصيدة على هذا النحو غير المتوقع. فكل المقدمة التي كتبها الشاعر عن الصيف، والتي قال في جزء منها: كم تمنينا لو انهلت علينا بنثارات من الأنس الذي تحمل كي يشرق فينا والتجاريب التي تدفنها كفاك ما بين الرمال بعد أن داس عليها العابرون يطمس الرمل الخطى والناسَ، والصبوةَ والأحلامَ والفتكةَ واللهو البرئ ثم لا يترك فينا غير إحساس غريب ودوار كل هذه المقدمة لم تكن سوى استعطاف لفصول الطبيعة، كي تُبقي على فصل الصيف، أو تجعله يمتد طويلا. لماذا؟ لأن في القدس شتاءً قادما أثقل من كل شتاء، أو كما يقول الشاعر مخاطبا فصل الصيف: قفْ تمهلْ إن في القدس شتاء قادما أثقل من كل شتاء وعيونا رغم عصف اليأس فيها ومضة من كبرياء ترقب اللعبة في الأيدي بلا أي انتهاء وترى الباغين أقزاما وما يبنونه تلا على الرمل هواءً في هواء هكذا ينطلق الشاعر من موقف معين إزاء الطبيعة، فنحس أننا أمام شاعر رومانسي، ولكنه سرعان ما يتخلص منه، ليقدم لنا مشاهد شعرية أخرى من مشاهد المعاناة اليومية المتتالية في فلسطينوالعراق، وفي شتى فجاج الأرض، فتكتسي القصيدة بلحم المعاناة الإنسانية، بعد أن كساها الشاعر من عظام الرومانسية. *** ولتأزم الوضع العربي وترديه على هذا النحو الذي عبرت عنه غير قصيدة من قصائد الديوان، فإن الشاعر يُشفق تماما على السيد / عمرو موسى (الأمين العام لجامعة الدول العربية أثناء كتابة القصيدة) وهي مهمة من أشق المهام في هذا الزمان العربي الذي نعيشه. يواسيه الشاعر في قصيدة طويلة بعنوان "قلبي معك" فيقول له: قلبي معك في "بيتنا العربي" حين تجوس فيه وأنت تقصد موقعك حاذرْ فآلاف العقارب والأفاعي كامنات واحترسْ فالسوس ينخر في العمائم والشوارب واللحى والإخوة الأعداء يخفون الخناجر في الجيوب نصالها تهتز في وقت العناق وتنتشي بعد الفراق تطلعا لدم يراق فلا تُرعْ القصيدة كما نرى ليست تهنئة بمنصب، وليست تفخيما أو مدحا لشخصية عامة من شخوص المجتمع العربي، كما يفعل شعراء الأخوانيات والمناسبات، ولكنها مشاركة في الهم، وتعاطف مع الموقف، وتحذير من مساوئ الوضع العربي، وإشارات غير مباشرة لما يمكن أن يتحقق من نجاح على يد الأمين الجديد. وكما انحرف المسار في قصيدة "أيها الصيف الذي ولى سريعا" ليتحول الخطاب الشعري، إلى القدسوبغداد، ينحرف مسار قصيدة "قلبي معك" ليكون الخطاب الشعري عن السفلة الأوغاد. من الممكن أن نضع أيدينا على ملامح أسلوبية ولغوية تجلت في الكثير من قصائد هذا الديوان، من أهم هذه الملامح استخدام الشاعر لتركيبة لغوية معينة تتمثل في عطف الكلمة على نفسها عن طريق أدوات عطف أو أدوات وصل أو أدوات جر وإضافة، مثل الباء في قوله: (حين تلتحم الساق بالساق)، أو استخدام اللام في قوله (ما تضج به الريح للريح) وقوله (حين انحنى النخل للنخل) و(الغاب للغاب) أو قوله (وما عاد الصحاب همو الصحاب) و(ولا الوجوه هي الوجوه) أو قوله (تبدل قوما بقوم) و(وجها بوجه) أو قوله (قطرة من بعد قطرة) و(هواء في هواء) أو (جدار إثر جدار) و(خيام بعد خيام) .. إلخ. لقد بلغت مثل هذه الأساليب والتراكيب أكثر من عشرين تركيبا على مستوى قصائد الديوان، الأمر الذي يؤكد على خصوصية ما في لغة الشاعر، ليست هي الموسيقى الناتجة عن تكرار اللفظ نفسه أكثر من مرة في سطر واحد، فحسب، وعموما فهذا الأمر يحتاج إلى البحث في كل أعمال الشاعر السابقة، للوقوف على الدلالة العلمية والفنية لهذه التراكيب الشعرية. إن الوطن هو الشغل الشاغل للشاعر فاروق شوشة في ديوانه "الجميلة تنزل إلى النهر" هذا الوطن الذي يخشى عليه من عولمة الفاتحين، ومن هيمنةٍ لصهيون لا ترد، لذا نجده بعد أن هجا نهر النيل في دواوين سابقة، يصالحه في هذا الديوان. وهو إذا كان يصالح نهر النيل، في هذا الديوان، فإنه يحاول أن يفر من الموت الذي تجلى له واضحا في قصيدة "رؤيا"، (كيف تضعضعت حين أتى ذكر هذا الذي ليس منه مفر). وعلى الرغم من هذا الموقف الميتافيزيقي الذي يحياه الشاعر ويتنفسه في هذه القصيدة، فإنه لم ينس أيضا الأوغاد أو حثالة البشر، فيقول عنهم في تلك القصيدة: وماذا أريد من العصبة الفاتكين وقد أمسكوا برقاب العباد ولكنهم في ختام المطاف حثالة هذا البشر وماذا إذا بحت بالسر؟ هل يقتلوني؟ لاشك في أن ديوان "الجميلة تنزل إلى النهر" لفاروق شوشة، علامة مهمة في حياته الشعرية، رحمه الله وجعل الجنة مثواه، لما أسداه للغتنا العربية الجميلة، وللشعر العربي على مدى عقود عدة.