حزب الوفد يحيي ذكرى رحيل سعد زغلول ومصطفى النحاس (صور)    عمدة "هوداك" برومانيا يكرم طلاب جامعة سيناء الفائزين بالجائزة الذهبية في مهرجان الفلكلور الدولي    اتحاد المقاولين يطالب بوقف تصدير الأسمنت لإنقاذ القطاع من التعثر    الخارجية الجزائرية: المجاعة بقطاع غزة خيار سياسي ونتاج تخطيط وتدبير الكيان الصهيوني    نهائي السوبر السعودي، الأهلي والنصر يتعادلان 2-2 بالوقت الأصلي ويحتكمان لركلات الترجيح (صور)    بمشاركة فريق مصري.. تعرف على المشاركين في البطولة العربية للأندية لليد    محافظ سوهاج يتابع حادث غرق الطالبات ب شاطئ العجمى في الإسكندرية    نائب وزير السياحة وأمين المجلس الأعلى للآثار يتفقدان أعمال ترميم المواقع بالإسكندرية    بدون أنظمة ريجيم قاسية، 10 نصائح لإنقاص الوزن الزائد    الإتجار في السموم وحيازة خرطوش.. جنايات شبرا تقضي بسجن متهمين 6 سنوات    وزير الصحة الفلسطيني: فقدنا 1500 كادر طبي.. وأطباء غزة يعالجون المرضى وهم يعانون من الجوع والإرهاق    مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح تتضمن التعاون العلمي والأكاديمي وتبادل الخبرات    إسلام جابر: لم أتوقع انتقال إمام عاشور للأهلي.. ولا أعرف موقف مصطفى محمد من الانتقال إليه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    تفعيل البريد الموحد لموجهي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بالفيوم    مصر القومي: الاعتداء على السفارات المصرية امتداد لمخططات الإخوان لتشويه صورة الدولة    إزالة لمزرعة سمكية مخالفة بجوار "محور 30" على مساحة 10 أفدنة بمركز الحسينية    استقالات جماعية للأطباء ووفيات وهجرة الكفاءات..المنظومة الصحية تنهار فى زمن العصابة    صور.. 771 مستفيدًا من قافلة جامعة القاهرة في الحوامدية    وزير العمل يتفقد وحدتي تدريب متنقلتين قبل تشغيلهما غدا بالغربية    «المركزي لمتبقيات المبيدات» ينظم ورشة عمل لمنتجي ومصدري الطماطم بالشرقية    50 ألف مشجع لمباراة مصر وإثيوبيا في تصفيات كأس العالم    "قصص متفوتكش".. رسالة غامضة من زوجة النني الأولى.. ومقاضاة مدرب الأهلي السابق بسبب العمولات    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    وزير الدفاع الأمريكي يجيز ل2000 من الحرس الوطني حمل السلاح.. ما الهدف؟    وزارة النقل تناشد المواطنين عدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه أثناء غلقها    «لازم إشارات وتحاليل للسائقين».. تامر حسني يناشد المسؤولين بعد حادث طريق الضبعة    وزير خارجية باكستان يبدأ زيارة إلى بنجلاديش    وفاة سهير مجدي .. وفيفي عبده تنعيها    مؤسسة فاروق حسني تطلق الدورة ال7 لجوائز الفنون لعام 2026    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    غدا.. قصور الثقافة تطلق ملتقى دهب العربي الأول للرسم والتصوير بمشاركة 20 فنانا    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    تكريم الفنانة شيرين في مهرجان الإسكندرية السينمائي بدورته ال41    موعد إجازة المولد النبوي 2025.. أجندة الإجازات الرسمية المتبقية للموظفين    كيف تكون مستجابا للدعاء؟.. واعظة بالأزهر توضح    الغربية: حملات نظافة مستمرة ليلا ونهارا في 12 مركزا ومدينة لضمان بيئة نظيفة وحضارية    "التنمية المحلية": انطلاق الأسبوع الثالث من الخطة التدريبية بسقارة غدًا -تفاصيل    رئيس «الرعاية الصحية»: تقديم أكثر من 2.5 مليون خدمة طبية بمستشفيات الهيئة في جنوب سيناء    الصحة: حملة «100 يوم صحة» قدّمت 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يوما    فحص وصرف العلاج ل247 مواطنا ضمن قافلة بقرية البرث في شمال سيناء    رغم تبرئة ساحة ترامب جزئيا.. جارديان: تصريحات ماكسويل تفشل فى تهدئة مؤيديه    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    طقس الإمارات اليوم.. غيوم جزئية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    ضبط وتحرير 18 محضرا فى حملة إشغالات بمركز البلينا فى سوهاج    محافظ أسوان يتابع معدلات الإنجاز بمشروع محطة النصراب بإدفو    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل الواقع والفنتازيا في " تاكسي أبيض "
نشر في صوت البلد يوم 17 - 03 - 2016

يوظف القاص المصري شريف عبدالمجيد الدالين المألوفين «تاكسي/ أبيض» والمستخدمين بكثرة في الحياة اليومية للمصريين، عنواناً لمجموعته القصصية «تاكسي أبيض» (الدار المصرية اللبنانية)، مداعباً الوجدان الشعبي، فالمفردتان المعتادتان لدى عموم المصريين والمعبرتان عن سياق معين، يضعهما أيضاً عنواناً للقصة الأولى في القسم الثاني من المجموعة التي تتشكل من قسمين أساسيين، الأول: القبض على سمكة، والثاني: غرافيتي. ويتشكل كل قسم من قسمي المجموعة المركزيين من سبع قصص، كما أن هناك تقارباً في الحيز الكمي من متن السرد بين القسمين، وبما يعني أن ثمة استراتيجية في القص على المستوى البنائي للمجموعة. يصدر الكاتب مجموعته بتصدير دال يحيل فيه إلى الكاتب الشهير فرانز كافكا، فيورد مقطعاً من قصته «سور الصين العظيم»، ويحمل التصدير هنا إحالة مهمة إلى هذا العالم الكابوسي الذي اختطه كافكا، وبدت فيه الفنتازيا أساساً في فهم العالم وتقديمه، وبما يتصل بطريقة أو بأخرى بالعوالم الحاضرة في المجموعة والمهيمنة على فضائها القصصي، وبما يتصل أيضاً بوجود تماس ما بين العبث والفنتازيا، بخاصة في الاعتماد على التخييل من جهة والاتكاء في أحايين كثيرة على تقنية الحلم.
بين السياسي والفني
في قصته المركزية «تاكسي أبيض» ثمة تماس مع الراهن، وجدل بين السياسي والفني، حيث يرصد القاص عالماً مسكوناً بالخوف والتربص، يلتقي فيه ثلاثة أشخاص بلا اتفاق، راكبين «التاكسي الأبيض»، لتبدو التمايزات بينهم حاضرة وبقوة. واللافت أن الكاتب يعتمد في نصه على تفعيل المنطق الديموقراطي للسرد، فنرى زوايا نظر متعددة للحدث السردي، فكل من السائق والمرأة المنتقبة والرجل الليبرالي يحكي بطريقته ما يراه، ويبدي خوفاً من الآخر، لينتهي الأمر باستمرار التاكسي في سيره، في إشارة بالغة الدلالة.
تهيمن الفنتازيا على أجواء القسم الأول وسياقاته الفنية الدالة، وتلوح منذ القصة الأولى (الطرد)، حيث ثمة مسؤول حكومي يجد طرداً أمام بيته فيصيبه الهلع، خصوصاً أن الطرد عبارة عن جمجمة لشاب في العقد الثالث من عمره، ثم تتواتر الجماجم، وتنتشر في الشوارع، وعلى أبواب البيوت، وإمعاناً في الخيال صار الناس يدفنون ذويهم في أماكن سرية، خشية سرقة جماجمهم. وتبرز في نهاية القصة أصوات ثلاثة: رجل دين/ رجل أمن/ عالم اجتماع: «قال رجل دين: هذا غضب من الله. قال رجل أمن: هذا تسيُب واضح. قال عالم اجتماع: إنها ثورة الجياع. وتمثل الأصوات الثلاثة علامة على أنساق التفكير المختلفة داخل المجتمع المصري، فرجل الدين يرمز إلى نمط التفكير الديني/ الغيبي، ورجل الأمن يركز على نمط التفكير السلطوي، وعالم الاجتماع يرمز إلى نمط التفكير العلمي، وإن بدا مغرقاً في استشرافه واقعاً كابوسياً. أما المدهش حقاً فهو توالي الطرود وعدم توقفها رغم كل التغييرات السياسية التي طاولت الحكومة والبرلمان، وبما يعني أن القاص يومئ من طرف بعيد إلى حتمية التغيير الجذري. يعتمد عبدالمجيد في قصة «العمل» على توظيف «العجائبي» في الكتابة، عبر ذكر جانب من العوالم الخفية للجن والعفاريت، واستخدام تيمة شعبية تتعلق بالسحر والأعمال السفلية.
ومن ثم يبدو العنوان ذا بنية دالة قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار السردي للقصة، فهو يعبر عن أزمتها وذروة تعقدها، فثمة امرأة تعتقد أن جارتها قد صنعت لها «عملاً»، وأن هذا «العمل» كان السبب في عدم زواجها رغم جمالها وأنوثتها الطاغية، وأن الغيرة والحقد دفعا الجارة إلى فعل ذلك. يختار القاص شخصيته المركزية بعناية، فثمة سيدة تؤمن بالميتافيزيقا، وتتوقف حياتها على الخلاص من الفخ الذي نصبته لها الجارة، فضلاً عن حضور واعد للجانب السوريالي هنا، فالشخصية المركزية في قصة «العمل» تحركها الهواجس، والنزعات اللاشعورية، ويتشكل النص من مدخل يعقبه خمسة مقاطع أساسية، وتتخذ المقاطع عناوين فرعية دالة على التفصيلات المختلفة في الحكاية، وهي: (في البدء كان العداء/ الحياة من دون عدو لا طعم لها/ الغريب يدخل العمارة/ الحقيقة تظهر مهما مرَّ عليها الزمن/ الجنون لا ينهي الحكايات).
وتمنح صيغة التقسيم المقطعي للنص حرية الحراك السردي للكاتب، كما تمنح القصة نفسها بُعداً أعمق. تقدم قصة «العمل» إطاراً جمالياً للسؤال المتجدد: كيف تخلق الأسطورة؟ فالسيدة العجوز التي قبض عليها البوليس لنبشها قبر جارتها، تتواتر الحكايات بشأنها حتى تحولها إلى قديسة نبيلة لم تحتمل فراق جارتها القديمة، حتى اللَّحّاد لم يصدقوه حين ذكر ما رآه من نبش المرأة قبر جارتها. أما المرأة ذاتها، فقد هربت من المستشفى لتتطاير الشائعات حولها، فتنزلها إلى مرتبة القديسين والأولياء. أما المفارقة الساخرة حقاً والتي تصل بالبعد الفنتازي إلى منتهاه، فتتمثل في تبرك النساء الباحثات عن الزواج والإنجاب بسيدة لم تتزوج قط، ومن ثم لم تعرف معنى الإنجاب!
التخييلي والواقعي
يمتزج التخييلي بالواقعي في قصة «طير الأبابيل»، فثمة بطل لا يعرف هل هو في حلم أم في حقيقة، ففي غرفة التحقيقات تتبدل الأشياء جميعها، وتتسع مساحة الفنتازيا، فالمحقق هو ذاته الصيدلي المقتول، ونادل المكان هو عينه أحد مثيري الفوضى في الشارع. ثم تدخل القصة في أفق مختلف، يعيدها إلى المستوى الواقعي، حين تبدو مقدمة بوصفها قصة لأحد الأفلام السينمائية، لكن صانعي الفيلم لا يتورعون عن إفساد روح القصة، ومن ثم إفساد خيالها الخصب.
في «القبض على سمكة» يهيمن المنطق الفنتازي، فثمة «سمكة قرش» تظهر في البحر، وتهاجم السائحين، ويصبح حضور هذه السمكة مفجراً لعدد من الأسئلة في النص، وإبرازاً لروح فنتازية تسيطر على الحكاية من أولها إلى آخرها، حيث تصبح السمكة الشاغل الرئيسي للكل، أملاً في القبض عليها. ويوظف الكاتب آلية السخرية، كما تتسع مساحات الفنتازيا حين يتم التعامل مع السمكة بوصفها جزءاً من مؤامرة تقوم بها أطراف دولية، توظف السمكة لحسابها، خصوصاً أنه قد تمَّ في الوقت ذاته القبض على طائر.
في قصة «السيد الذي لا يحب الطيور»، يعارض شريف عبدالمجيد الموروث الشعبي، حين يجعل بطله يتشاءم من إلقاء الطيور روثها فوقه، واللافت أن الكاتب لم يطلق اسماً محدداً على شخصيته القصصية، وبما يشي بأن ثمة رغبة في إعطاء الفكرة ذاتها دوراً أكبر داخل المسار السردي للنص، وقد رسم القاص شخصيته القصصية جيداً، بأبعادها الثلاثة: الجسدية والنفسية والاجتماعية، وتأتي النهاية متسقة مع منطق النص، حيث تلوح النهاية المأسوية العبثية من جديد، فبعد أن يستبد بالرجل الجنون، حيث يخرج كل ليلة ليطلق النيران من فوق سطح منزله على الطيور التي تتحرك في السماء، يطلق الرصاص ذاته على زوجته ووالدها حين حدثاه في أمر الطيور.
في «اعترافات سارق الونش»، تتواتر الإشارات التي يسوقها السارد عن جملة من السرقات اليومية التي يعج بها راهننا المعيش، من السرقة الواقعية للوحة زهرة الخشخاش إلى السرقة المتخيلة للهرم الأكبر، في مسار سردي يشبه في جانب من القصة ما يسمى في الدراما ب «المسرحية الأوتشركية»، حيث نرى حالاً من الريبورتاج الدرامي ذي الصبغة الصحافية مستخدماً في بعض المقاطع السردية.
يهيمن المذهب الواقعي على القسم الثاني من المجموعة، حيث تتماس قصصه السبع مع الراهن المعيش من خلال كتابة تحوي نزوعاً أيديولوجياً واضحاً نراه ماثلاً في قصة «جرافيتي»، التي تحيل إلى فن الجرافيتي المرتبط بالثورة المصرية والمعبر عنها في آن، ومن ثم نرى ارتحالاً زمانياً ومكانياً إلى الأماكن الأولى للثورة، فتحضر مدينة السويس، كما يوظف الكاتب آلية التداخل الزمني في النص توظيفاً دالاً.
يوظف القاص المصري شريف عبدالمجيد الدالين المألوفين «تاكسي/ أبيض» والمستخدمين بكثرة في الحياة اليومية للمصريين، عنواناً لمجموعته القصصية «تاكسي أبيض» (الدار المصرية اللبنانية)، مداعباً الوجدان الشعبي، فالمفردتان المعتادتان لدى عموم المصريين والمعبرتان عن سياق معين، يضعهما أيضاً عنواناً للقصة الأولى في القسم الثاني من المجموعة التي تتشكل من قسمين أساسيين، الأول: القبض على سمكة، والثاني: غرافيتي. ويتشكل كل قسم من قسمي المجموعة المركزيين من سبع قصص، كما أن هناك تقارباً في الحيز الكمي من متن السرد بين القسمين، وبما يعني أن ثمة استراتيجية في القص على المستوى البنائي للمجموعة. يصدر الكاتب مجموعته بتصدير دال يحيل فيه إلى الكاتب الشهير فرانز كافكا، فيورد مقطعاً من قصته «سور الصين العظيم»، ويحمل التصدير هنا إحالة مهمة إلى هذا العالم الكابوسي الذي اختطه كافكا، وبدت فيه الفنتازيا أساساً في فهم العالم وتقديمه، وبما يتصل بطريقة أو بأخرى بالعوالم الحاضرة في المجموعة والمهيمنة على فضائها القصصي، وبما يتصل أيضاً بوجود تماس ما بين العبث والفنتازيا، بخاصة في الاعتماد على التخييل من جهة والاتكاء في أحايين كثيرة على تقنية الحلم.
بين السياسي والفني
في قصته المركزية «تاكسي أبيض» ثمة تماس مع الراهن، وجدل بين السياسي والفني، حيث يرصد القاص عالماً مسكوناً بالخوف والتربص، يلتقي فيه ثلاثة أشخاص بلا اتفاق، راكبين «التاكسي الأبيض»، لتبدو التمايزات بينهم حاضرة وبقوة. واللافت أن الكاتب يعتمد في نصه على تفعيل المنطق الديموقراطي للسرد، فنرى زوايا نظر متعددة للحدث السردي، فكل من السائق والمرأة المنتقبة والرجل الليبرالي يحكي بطريقته ما يراه، ويبدي خوفاً من الآخر، لينتهي الأمر باستمرار التاكسي في سيره، في إشارة بالغة الدلالة.
تهيمن الفنتازيا على أجواء القسم الأول وسياقاته الفنية الدالة، وتلوح منذ القصة الأولى (الطرد)، حيث ثمة مسؤول حكومي يجد طرداً أمام بيته فيصيبه الهلع، خصوصاً أن الطرد عبارة عن جمجمة لشاب في العقد الثالث من عمره، ثم تتواتر الجماجم، وتنتشر في الشوارع، وعلى أبواب البيوت، وإمعاناً في الخيال صار الناس يدفنون ذويهم في أماكن سرية، خشية سرقة جماجمهم. وتبرز في نهاية القصة أصوات ثلاثة: رجل دين/ رجل أمن/ عالم اجتماع: «قال رجل دين: هذا غضب من الله. قال رجل أمن: هذا تسيُب واضح. قال عالم اجتماع: إنها ثورة الجياع. وتمثل الأصوات الثلاثة علامة على أنساق التفكير المختلفة داخل المجتمع المصري، فرجل الدين يرمز إلى نمط التفكير الديني/ الغيبي، ورجل الأمن يركز على نمط التفكير السلطوي، وعالم الاجتماع يرمز إلى نمط التفكير العلمي، وإن بدا مغرقاً في استشرافه واقعاً كابوسياً. أما المدهش حقاً فهو توالي الطرود وعدم توقفها رغم كل التغييرات السياسية التي طاولت الحكومة والبرلمان، وبما يعني أن القاص يومئ من طرف بعيد إلى حتمية التغيير الجذري. يعتمد عبدالمجيد في قصة «العمل» على توظيف «العجائبي» في الكتابة، عبر ذكر جانب من العوالم الخفية للجن والعفاريت، واستخدام تيمة شعبية تتعلق بالسحر والأعمال السفلية.
ومن ثم يبدو العنوان ذا بنية دالة قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار السردي للقصة، فهو يعبر عن أزمتها وذروة تعقدها، فثمة امرأة تعتقد أن جارتها قد صنعت لها «عملاً»، وأن هذا «العمل» كان السبب في عدم زواجها رغم جمالها وأنوثتها الطاغية، وأن الغيرة والحقد دفعا الجارة إلى فعل ذلك. يختار القاص شخصيته المركزية بعناية، فثمة سيدة تؤمن بالميتافيزيقا، وتتوقف حياتها على الخلاص من الفخ الذي نصبته لها الجارة، فضلاً عن حضور واعد للجانب السوريالي هنا، فالشخصية المركزية في قصة «العمل» تحركها الهواجس، والنزعات اللاشعورية، ويتشكل النص من مدخل يعقبه خمسة مقاطع أساسية، وتتخذ المقاطع عناوين فرعية دالة على التفصيلات المختلفة في الحكاية، وهي: (في البدء كان العداء/ الحياة من دون عدو لا طعم لها/ الغريب يدخل العمارة/ الحقيقة تظهر مهما مرَّ عليها الزمن/ الجنون لا ينهي الحكايات).
وتمنح صيغة التقسيم المقطعي للنص حرية الحراك السردي للكاتب، كما تمنح القصة نفسها بُعداً أعمق. تقدم قصة «العمل» إطاراً جمالياً للسؤال المتجدد: كيف تخلق الأسطورة؟ فالسيدة العجوز التي قبض عليها البوليس لنبشها قبر جارتها، تتواتر الحكايات بشأنها حتى تحولها إلى قديسة نبيلة لم تحتمل فراق جارتها القديمة، حتى اللَّحّاد لم يصدقوه حين ذكر ما رآه من نبش المرأة قبر جارتها. أما المرأة ذاتها، فقد هربت من المستشفى لتتطاير الشائعات حولها، فتنزلها إلى مرتبة القديسين والأولياء. أما المفارقة الساخرة حقاً والتي تصل بالبعد الفنتازي إلى منتهاه، فتتمثل في تبرك النساء الباحثات عن الزواج والإنجاب بسيدة لم تتزوج قط، ومن ثم لم تعرف معنى الإنجاب!
التخييلي والواقعي
يمتزج التخييلي بالواقعي في قصة «طير الأبابيل»، فثمة بطل لا يعرف هل هو في حلم أم في حقيقة، ففي غرفة التحقيقات تتبدل الأشياء جميعها، وتتسع مساحة الفنتازيا، فالمحقق هو ذاته الصيدلي المقتول، ونادل المكان هو عينه أحد مثيري الفوضى في الشارع. ثم تدخل القصة في أفق مختلف، يعيدها إلى المستوى الواقعي، حين تبدو مقدمة بوصفها قصة لأحد الأفلام السينمائية، لكن صانعي الفيلم لا يتورعون عن إفساد روح القصة، ومن ثم إفساد خيالها الخصب.
في «القبض على سمكة» يهيمن المنطق الفنتازي، فثمة «سمكة قرش» تظهر في البحر، وتهاجم السائحين، ويصبح حضور هذه السمكة مفجراً لعدد من الأسئلة في النص، وإبرازاً لروح فنتازية تسيطر على الحكاية من أولها إلى آخرها، حيث تصبح السمكة الشاغل الرئيسي للكل، أملاً في القبض عليها. ويوظف الكاتب آلية السخرية، كما تتسع مساحات الفنتازيا حين يتم التعامل مع السمكة بوصفها جزءاً من مؤامرة تقوم بها أطراف دولية، توظف السمكة لحسابها، خصوصاً أنه قد تمَّ في الوقت ذاته القبض على طائر.
في قصة «السيد الذي لا يحب الطيور»، يعارض شريف عبدالمجيد الموروث الشعبي، حين يجعل بطله يتشاءم من إلقاء الطيور روثها فوقه، واللافت أن الكاتب لم يطلق اسماً محدداً على شخصيته القصصية، وبما يشي بأن ثمة رغبة في إعطاء الفكرة ذاتها دوراً أكبر داخل المسار السردي للنص، وقد رسم القاص شخصيته القصصية جيداً، بأبعادها الثلاثة: الجسدية والنفسية والاجتماعية، وتأتي النهاية متسقة مع منطق النص، حيث تلوح النهاية المأسوية العبثية من جديد، فبعد أن يستبد بالرجل الجنون، حيث يخرج كل ليلة ليطلق النيران من فوق سطح منزله على الطيور التي تتحرك في السماء، يطلق الرصاص ذاته على زوجته ووالدها حين حدثاه في أمر الطيور.
في «اعترافات سارق الونش»، تتواتر الإشارات التي يسوقها السارد عن جملة من السرقات اليومية التي يعج بها راهننا المعيش، من السرقة الواقعية للوحة زهرة الخشخاش إلى السرقة المتخيلة للهرم الأكبر، في مسار سردي يشبه في جانب من القصة ما يسمى في الدراما ب «المسرحية الأوتشركية»، حيث نرى حالاً من الريبورتاج الدرامي ذي الصبغة الصحافية مستخدماً في بعض المقاطع السردية.
يهيمن المذهب الواقعي على القسم الثاني من المجموعة، حيث تتماس قصصه السبع مع الراهن المعيش من خلال كتابة تحوي نزوعاً أيديولوجياً واضحاً نراه ماثلاً في قصة «جرافيتي»، التي تحيل إلى فن الجرافيتي المرتبط بالثورة المصرية والمعبر عنها في آن، ومن ثم نرى ارتحالاً زمانياً ومكانياً إلى الأماكن الأولى للثورة، فتحضر مدينة السويس، كما يوظف الكاتب آلية التداخل الزمني في النص توظيفاً دالاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.