أسعار حديد التسليح اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    نائب رئيس جنوب إفريقيا: القارة السمراء تحصل على 3% فقط من الاستثمارات الأجنبية المباشرة عالميًا    إزالة فورية ل 4 حالات تعدٍّ على أراضي أملاك الدولة في قنا    ارتفاع أسعار النفط وسط تفاؤل بانحسار التوتر التجاري وخفض صادرات البنزين الروسية    اسعار الدواجن والبيض اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    بكام الفراخ النهارده؟.. أسعار الدواجن والبيض في أسواق الشرقية الجمعة 25-7-2025    أسعار الأرز الشعير والأبيض اليوم الجمعة 25- 7- 2025 في أسواق الشرقية    نائب محمود عباس يرحب بقرار الرئيس الفرنسي الاعتراف بدولة فلسطين    تايلاند تعلن ارتفاع عدد القتلى جراء الاشتباكات مع كمبوديا إلى 15 شخصًا    موجة حارة شديدة تتسبب بحرائق في تونس    رفضًا لتجويع غزة| احتجاجات أمام القنصلية الإسرائيلية في شيكاغو    الأهلى يواجه البنزرتي التونسي اليوم    الزمالك يواجه وادى دجلة وديًا    نجم الزمالك السابق يوجه رسالة خاصة ل عبد الله السعيد    خلال عمله.. دفن عامل صيانة سقط من الطابق السادس بعقار بحدائق الأهرام    حالة المرور اليوم بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    تجهيزات خاصة لحفل عمرو دياب في لبنان    القنوات الناقلة مباشر لمباراة الأهلي والبنزرتي التونسي الودية اليوم.. والتردد والموعد    شديد الحرارة والعظمى 44.. حالة الطقس في السعودية اليوم الجمعة    في حادث مأساوي.. مصرع أم وابنتها وإصابة 3 من أطفالها في حادث سقوط سيارة في ترعة بالبحيرة    الموقع الرسمي ل نتيجة الثانوية الأزهرية 2025 الدور الأول عبر بوابة الأزهر الشريف (فور اعتمادها)    تراجع أسعار الذهب اليوم الجمعة 25 يوليو في بداية التعاملات    مصطفى كامل: دعمي لشيرين مش ضد أنغام.. ومكنتش أعرف بالخلاف بينهم    رسميا، مانشستر يونايتد يمنع طباعة أسماء ثلاثة من أساطير النادي على قمصان الموسم الجديد    طريقة عمل بلح الشام، باحترافية شديدة وبأقل التكاليف    إليسا تتصدر ترند جوجل بعد ليلة لا تُنسى في موسم جدة    رسميا.. قائمة بالجامعات الأهلية والخاصة 2025 في مصر (الشروط والمصاريف ونظام التقسيط)    لا ترضى بسهولة وتجد دائمًا ما يزعجها.. 3 أبراج كثيرة الشكوى    الهلال الأحمر يعلن رفع قدرات تشغيل المراكز اللوجيستية لأعلى مستوياتها    هل الجوافة تسبب الإمساك؟ الحقيقة بين الفوائد والأضرار    بعد عمي تعبان.. فتوح يوضح حقيقة جديدة مثيرة للجدل "فرح أختي"    تدهور الحالة الصحية للكاتب صنع الله إبراهيم من جديد ودخوله الرعاية المركزة    الآلاف يحيون الليلة الختامية لمولد أبي العباس المرسي بالإسكندرية.. فيديو    "الجبهة الوطنية" ينظم مؤتمراً جماهيرياً حاشداً لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ بالجيزة    استمرار استقبال طلاب الثانوية العامة لاختبارات العلوم الرياضية بالعريش    الأوقاف تفتتح اليوم الجمعة 8 مساجد في 7 محافظات    الفن السيناوي يضيء ليالي جرش بحضور وزير الثقافة    محامي أسرة ضحية حادث «الجيت سكي» بالساحل الشمالي يطالب بإعادة تحليل المخدرات للمتهمة    نقابة التشكيليين تؤكد استمرار شرعية المجلس والنقيب المنتخب    وزارة الصحة تنظم اجتماعًا لمراجعة حركة النيابات وتحسين بيئة عمل الأطباء    مصدر للبروتين.. 4 أسباب تدفعك لتناول بيضة على الإفطار يوميًا    وسيط كولومبوس كرو ل في الجول: صفقة أبو علي تمت 100%.. وهذه حقيقة عرض الأخدود    أحمد سعد: ألبوم عمرو دياب مختلف و"قررت أشتغل في حتة لوحدي"    يوسف حشيش يكشف كواليس صعبة بعد ارتباطه ب منة عدلي القيعي    سعاد صالح: القوامة ليست تشريفًا أو سيطرة وإذلال ويمكن أن تنتقل للمرأة    سعاد صالح: النقاب ليس فرضًا أو سنة والزواج بين السنة والشيعة جائز رغم اختلاف العقائد    "قلب أبيض والزمالك".. حامد حمدان يثير الجدل بصورة أرشيفية    تنسيق الجامعات 2025، شروط الالتحاق ببعض البرامج المميزة للعام الجامعي 2025/2026    تفاصيل صفقة الصواريخ التي أعلنت أمريكا عن بيعها المحتمل لمصر    العثور على رضيعة حديثة الولادة أمام مستشفى الشيخ زويد    «دعاء يوم الجمعة» للرزق وتفريج الهم وتيسير الحال.. كلمات تشرح القلب وتريح البال    دعاء يوم الجمعة.. كلمات مستجابة تفتح لك أبواب الرحمة    طارق فهمي: أكثر من 32 حركة احتجاج في تل أبيب ترفض الواقع الإسرائيلي    جريمة قتل في مصرف زراعي.. تفاصيل نهاية سائق دمياط وشهود عيان: الجاني خلص عليه وقالنا رميته في البحر    فلكيا.. مولد المولد النبوي الشريف 2025 في مصر و3 أيام إجازة رسمية للموظفين (تفاصيل)    داليا عبدالرحيم تنعى أسامة رسلان متحدث «الأوقاف» في وفاة نجل شقيقته    لتخفيف حرقان البول في الصيف.. 6 مشروبات طبيعية لتحسين صحة المثانة    الشيخ خالد الجندي: «ادخل العبادة بقلب خالٍ من المشاغل الدنيوية»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فخاخ النظريات
نشر في صوت البلد يوم 21 - 02 - 2016

من المؤكد أننا سنكون مجبرين على التحلي بنسبة عالية من السذاجة، كي نُوهِم ذواتنا، والآخرين معنا، بإمكانية بنائنا لنظرية شاملة ومتكاملة، تشمل مختلف الإشكاليات الفكرية التقنية أو الجمالية التي تستأثر باهتمامات الكائن.
وعلى الرغم من اقتناعنا المبدئي بالدور الذي تطلع به النظرية في ترويض الخطاب وتدجينه، في أفق إكسابه قوة تعميمية، تنزاح به من خصوصيته المغلقة، إلى فضاءات التشارك الرحب، إلا أنها تظل مخلصة لإطارها الأحادي البعد، والمُعَدٍّ سلفا لحل إشكال، لا يتجاوز هو أيضا نسقه الأحادي البعد. وهو ما يدعونا للتأكيد بأن نسبة مهمة من مكونات أي بناء نظري، وبصرف النظر عن صلاحيتها التداولية التي تنجح في تحقيقها وتعميمها، لا تتجاوز حدود هذا الأحادي، المتموضع في سياق مواصفات معينة، قد تكون متمتعة بسُلط إعلامية، تساهم في الارتقاء بها – ولو على سبيل تدليس مؤقت أو دائم، إلى مستوى تعميمي، وشامل، يخوِّل لها صلاحية انتحال صفة قانون، تنسحب سلطته على جميع الظواهر المشابهة، ولو في حدود إعادة تركيب تخييلي، للحالات القريبة الشبه من الحالة الأصل، والتي استمد منها هذا القانون مشروعية حضوره.
إن الشروط التي تتم فيها عملية، أو لعبة إنتاج النظرية، ومن ضمنها المنابر الصادرة عنها والمتبنية لها، تقتضي اعتماد استراتيجية جد معقدة، قائمة على تجريب مجموعة من الاقتراحات القابلة للتصديق أو التكذيب، بهدف التوصل إلى بناء مقولات، ينتهي بها المطاف إلى أن تأخذ شكل نظرية. إن الأمر يتعلق في البداية، بمطلب ذي طبيعة ذاتية، قوامه مباشرةُ حفر مسارِ طويل من الأسئلة الإشكالية والمثيرة، التي تتمكن في كل مرحلة من مراحل سيرورتها، من استقطاب اهتمام مقاربات محايثة. فعلى امتداد ما يراكمه هذا المطلب الذاتي من إثارة وفضول وتزكية، يكون وفي منعطف معين من منعطفات مساره، مهيأ لتحقيق منجزه الكبير. أي منجز الحدث، الذي هو في طريقه لأن يتحول إلى نظرية. غير أن مأساوية هذا المنجز، أو بالأحرى خطورته، تكمن في قدرته على إخفاء بعده الأحادي، وبالتالي قدرته على ممارسة فعل الاستقواء المعرفي، من خلال استقطابه للمزيد من حالات الإبهار، والمزيد من حالات الاستقطاب. إن إنجاز نظرية ما، في حقل من حقول المعرفة، يتطلب حضور هذا الحظ الوافر من السذاجة لدى صاحبه، إذ بدون هذا القدر الكبير من السذاجة الماكرة، لا يمكن أن يغامر باقتراح نظرية، ثم العمل بالتالي على تكريسها، عبر توسيع قاعدة المريدين والمشايعين. ذلك أننا لو فكرنا مليا في عمق هذا الإشكال، سننتبه إلى أن الذات المتوفرة على الحد الأدنى من المنطق والعقلانية، ستكتفي بوضع منجزها في سياق إضافة نوعية أو كمية، ضمن ما حقَّقَ تراكمه في هذا الحقل المعرفي أو ذاك، فضلا عن كون هذه الذات «العاقلة والموضوعية» لا يمكن أن يجنح بها الخيال إلى حد إغراء مرحلة تاريخية كاملة، بتبني ما تعتبره نظرية، من إبداعها الشخصي. من هنا سيظل المنطلق الساذج/الماكر، هو المؤهل للمغامرة بهذا التوجه، لأن الذات المتسلطة، هي أيضا وبطريقتها المنسجمة مع رعونتها، تعتبر نفسها مؤهلة لإخضاع الآخرين إلى إرادة تعميمها، لمشروع خطاب أو منظومة. لذلك، سيكون من المستحيل، تجاهل المكون الهيمني لدى مخترعي النظريات، ومنتجي الأفكار. إن البعد الهيمني والتسلطي، هو أحد الوسائل الأساسية والمركزية، لتسويق المنتوج، إذ بدون آلية التسويق، سيظل المنجز مركونا في زوايا النسيان، وبدون توافر سلطة وتسلط متكاملين، سيظل التسويق مراوحا مكانه، بدون أن يستجيب له أحد، إذ من طبيعة السلطة، إكراه الآخر على النظر، والإنصات، كما على الاستجابة، والدعم والتأييد. على الحضور والانسحاب، وعلى الموت أيضا إن أمكن. إن السلطة لا توظف هويتها المجسدة في العنف المادي، إلا في حالات الضرورة، ذلك أنها تمتلك الكثير من الأقنعة التي تعفيها تماما من الإعلان عن هويتها. ولعل أهم هذه الأقنعة، الإغراء، الغواية، الإبهار، وكلها ممارسات، تتكفل بتعطيل سلطة العقل، كما تقوم بتنويم سلطة الممانعة، وبالتالي تعمل على تكريس سلطة الخضوع، باعتبار أن الخضوع هو أيضا قوة سالبة متواطئة مع سلطة الاستبداد. ولكن، ألسنا دائما في حاجة ماسة إلى هذه السلط، وإلى هذا الصنف من السذاجة، كي نتوفر على منتجات /منتوجات فكرية نظرية ثقافية وحضارية؟ ثم ماذا لو لم يكن ثمة وجود لهذه السذاجة الماكرة، وهذا التسلط الأرعن؟ إن النظرية تحقق استمراريتها وبقاءها، كلما كانت نواة السذاجة أو السلطة قوية وصلبة فيها، إنها لا تتراجع، ولا تفسح المجال لغيرها من باقي النظريات، إلا إذا تآكلت هذه الأنوية، إما بفعل طول استهلاكها إلى درجة القرف والإشباع، أو بفعل انفضاض شمل المروجين لها، أو بفعل صعود توجهات سذاجات وعدوانيات جديدة.
إن تاريخ الفكر، هو تاريخ خيبات الأمل المتتالية في سيرورة النظريات، وهو أيضا تاريخ اليأس من خدعها المنكشفة في مراحل جد متأخرة من إشعاعها. إن مناورات النظرية غالبا ما تفتضح، لكن بعد فوات الأوان. والغريب في الأمر، هو أن الكثير من النظريات العلمية بمختلف اختصاصاتها، تحظى بالكثير من الجوائز الدولية، لا لشيء إلا لطرافتها، أو لكونها واعدة بإمكان تحققها، ولو بعد مئات أو آلاف السنين. إن الاكتشاف المتأخر لخدعة النظرية، هو الذي يستحثك من جديد على تبني وجهة نظر مغايرة ومضادة. إنه نوع من التخلص من فخٍّ ما، عبر الاستسلام الطوعي إلى فخ آخر، أكثر شراسة وأكثر مكرا. إن التبني والاستسلام التام للنظرية الجديدة، وبعمىً شبه مطلق، يعود إلى تلك الرغبة العارمة في التخلص من سلطة النظرية السابقة، وطي صفحتها. ولأن النظرية قد تحولت إلى قدر ومصير، فإن نسبة كبيرة من المريدين، والمصابين بحمى الاهتداء بعصا الدليل، تظل مسكونة بهاجس الخضوع لها ومناوئة أعدائها، كما لو أن النظرية ضرورية، من أجل إشباع تلك الرغبة العميقة في الشقاق والصراع، في إعلان الحرب، وفي اختلاق العدو. إنها ضرورية من أجل استحداث تلك التفرقة القاسية بين مختلف طرائق الرؤية والتفكير، من أن أجل أن تكون مع ذاتك وضدها. إنها ضرورية، من أجل تجديد خطاب الاندماج داخل كينونة جديدة. ضرورية من أجل فتح مسالك جديدة ومغايرة، تقتضي من أصحابها التزود بما يكفي من العدة لتأمين مهمة السفر، والتنصل من النظرية الآيلة إلى تلاشيها الحتمي والطبيعي. إن فعل التنصل هذا، ولو بصفة جد مؤقتة، يشير إلى ذلك الحضور الضمني لفعل الانتقام من ابتزاز تقعيدي طال أمده، بحثا عن هواء معرفي بديل، متحرر عن وصاية النظرية السابقة ومن ابتزازها. من وصاية ما هو مطالب بالاختفاء والغروب، كي ينتشي الحاضر بحضوره، وطبعا تحت مظلة نظرية، لم يحن بعد أوان الكشف عن تسلطها.
بعيدا عن كابوس النظريات، وبعيدا عن كابوس تحالف السذاجة الماكرة مع دهاء السلطة، تستمتع الكتابة الأخرى، بتكريس خفة العبور، الذي لا يمتثل إلى قداسة الألم، الناتج عن إرهاق الكاهل ببؤس تلك الصخور الثقيلة، التي ليست النظريات سوى تجل من تجلياتها. خفة العبور هاته، هي المقابل الموضوعي لتلك الشحنة الهائلة واللامحددة المقتناة من فضاء الحرية، الذي يتحلل بموجبها بَأس النظري وبُؤسه، على حساب الحضور الباذخ للإبداعي، ومع ذلك وفي المسار المقابل، وبتعبير آخر، في المسار العام والمشترك، ما من شيء إلا وهو محفوف بإطاره النظري، وما من إمكانية لتملك الشيء، خارج هذا الإطار، وفي منأى عن عملية توصيفه، حيث يمكن القول، إن تاريخ الحضارات، هو تاريخ شبكات لا محدودة من التوصيفات النظرية للشيء، وهي التوصيفات ذاتها، التي تفصل بين وجودين، أحدهما يتميز بانفلاته التام من سلطة التأطير والتنظير، فيما يكون الآخر، مقيدا كليا أو نسبيا بسلطتهما. وفي قلب هذين التوصيفين/التصنيفين/تنتظم سلسلة لامتناهية من الخطابات، ومن القناعات المراوحة بين حرية انسيابها خارج حدود النظري، أو داخله. هذه الشبكات اللانهائية، هي التي تغري الكتابة بالإعلان عن تموضعها. لكن والحالة هذه، أين يمكن أن نضع الكارثة؟ وفي أي إطار يمكن تصنيف المآتم الجماعية القائمة في عمق عتماتها المعلومة والمجهولة في آن؟ ربما كان للفكر رأي آخر، وهو يدمج المنفلت في المقيد، والمقيد في المنفلت، حيث لا أثر لعبور الكارثة، ولا أثر للصرخة، للمأتم، ولا أثر، عدا ذلك المفهوم الذي يحفل بالكم دون الكيف، مكتفيا بلغة تصنيف بارد، محايد يضع الحكاية في الحكاية، والشكل في الاسم، حيث الاهتمام منصرف تماما عن تفاصيل سيرورة حكي، يعيش فرحته الزرقاء، خارج أي تقنين رمادي، مشفوع ببؤسه النظري.
من المؤكد أننا سنكون مجبرين على التحلي بنسبة عالية من السذاجة، كي نُوهِم ذواتنا، والآخرين معنا، بإمكانية بنائنا لنظرية شاملة ومتكاملة، تشمل مختلف الإشكاليات الفكرية التقنية أو الجمالية التي تستأثر باهتمامات الكائن.
وعلى الرغم من اقتناعنا المبدئي بالدور الذي تطلع به النظرية في ترويض الخطاب وتدجينه، في أفق إكسابه قوة تعميمية، تنزاح به من خصوصيته المغلقة، إلى فضاءات التشارك الرحب، إلا أنها تظل مخلصة لإطارها الأحادي البعد، والمُعَدٍّ سلفا لحل إشكال، لا يتجاوز هو أيضا نسقه الأحادي البعد. وهو ما يدعونا للتأكيد بأن نسبة مهمة من مكونات أي بناء نظري، وبصرف النظر عن صلاحيتها التداولية التي تنجح في تحقيقها وتعميمها، لا تتجاوز حدود هذا الأحادي، المتموضع في سياق مواصفات معينة، قد تكون متمتعة بسُلط إعلامية، تساهم في الارتقاء بها – ولو على سبيل تدليس مؤقت أو دائم، إلى مستوى تعميمي، وشامل، يخوِّل لها صلاحية انتحال صفة قانون، تنسحب سلطته على جميع الظواهر المشابهة، ولو في حدود إعادة تركيب تخييلي، للحالات القريبة الشبه من الحالة الأصل، والتي استمد منها هذا القانون مشروعية حضوره.
إن الشروط التي تتم فيها عملية، أو لعبة إنتاج النظرية، ومن ضمنها المنابر الصادرة عنها والمتبنية لها، تقتضي اعتماد استراتيجية جد معقدة، قائمة على تجريب مجموعة من الاقتراحات القابلة للتصديق أو التكذيب، بهدف التوصل إلى بناء مقولات، ينتهي بها المطاف إلى أن تأخذ شكل نظرية. إن الأمر يتعلق في البداية، بمطلب ذي طبيعة ذاتية، قوامه مباشرةُ حفر مسارِ طويل من الأسئلة الإشكالية والمثيرة، التي تتمكن في كل مرحلة من مراحل سيرورتها، من استقطاب اهتمام مقاربات محايثة. فعلى امتداد ما يراكمه هذا المطلب الذاتي من إثارة وفضول وتزكية، يكون وفي منعطف معين من منعطفات مساره، مهيأ لتحقيق منجزه الكبير. أي منجز الحدث، الذي هو في طريقه لأن يتحول إلى نظرية. غير أن مأساوية هذا المنجز، أو بالأحرى خطورته، تكمن في قدرته على إخفاء بعده الأحادي، وبالتالي قدرته على ممارسة فعل الاستقواء المعرفي، من خلال استقطابه للمزيد من حالات الإبهار، والمزيد من حالات الاستقطاب. إن إنجاز نظرية ما، في حقل من حقول المعرفة، يتطلب حضور هذا الحظ الوافر من السذاجة لدى صاحبه، إذ بدون هذا القدر الكبير من السذاجة الماكرة، لا يمكن أن يغامر باقتراح نظرية، ثم العمل بالتالي على تكريسها، عبر توسيع قاعدة المريدين والمشايعين. ذلك أننا لو فكرنا مليا في عمق هذا الإشكال، سننتبه إلى أن الذات المتوفرة على الحد الأدنى من المنطق والعقلانية، ستكتفي بوضع منجزها في سياق إضافة نوعية أو كمية، ضمن ما حقَّقَ تراكمه في هذا الحقل المعرفي أو ذاك، فضلا عن كون هذه الذات «العاقلة والموضوعية» لا يمكن أن يجنح بها الخيال إلى حد إغراء مرحلة تاريخية كاملة، بتبني ما تعتبره نظرية، من إبداعها الشخصي. من هنا سيظل المنطلق الساذج/الماكر، هو المؤهل للمغامرة بهذا التوجه، لأن الذات المتسلطة، هي أيضا وبطريقتها المنسجمة مع رعونتها، تعتبر نفسها مؤهلة لإخضاع الآخرين إلى إرادة تعميمها، لمشروع خطاب أو منظومة. لذلك، سيكون من المستحيل، تجاهل المكون الهيمني لدى مخترعي النظريات، ومنتجي الأفكار. إن البعد الهيمني والتسلطي، هو أحد الوسائل الأساسية والمركزية، لتسويق المنتوج، إذ بدون آلية التسويق، سيظل المنجز مركونا في زوايا النسيان، وبدون توافر سلطة وتسلط متكاملين، سيظل التسويق مراوحا مكانه، بدون أن يستجيب له أحد، إذ من طبيعة السلطة، إكراه الآخر على النظر، والإنصات، كما على الاستجابة، والدعم والتأييد. على الحضور والانسحاب، وعلى الموت أيضا إن أمكن. إن السلطة لا توظف هويتها المجسدة في العنف المادي، إلا في حالات الضرورة، ذلك أنها تمتلك الكثير من الأقنعة التي تعفيها تماما من الإعلان عن هويتها. ولعل أهم هذه الأقنعة، الإغراء، الغواية، الإبهار، وكلها ممارسات، تتكفل بتعطيل سلطة العقل، كما تقوم بتنويم سلطة الممانعة، وبالتالي تعمل على تكريس سلطة الخضوع، باعتبار أن الخضوع هو أيضا قوة سالبة متواطئة مع سلطة الاستبداد. ولكن، ألسنا دائما في حاجة ماسة إلى هذه السلط، وإلى هذا الصنف من السذاجة، كي نتوفر على منتجات /منتوجات فكرية نظرية ثقافية وحضارية؟ ثم ماذا لو لم يكن ثمة وجود لهذه السذاجة الماكرة، وهذا التسلط الأرعن؟ إن النظرية تحقق استمراريتها وبقاءها، كلما كانت نواة السذاجة أو السلطة قوية وصلبة فيها، إنها لا تتراجع، ولا تفسح المجال لغيرها من باقي النظريات، إلا إذا تآكلت هذه الأنوية، إما بفعل طول استهلاكها إلى درجة القرف والإشباع، أو بفعل انفضاض شمل المروجين لها، أو بفعل صعود توجهات سذاجات وعدوانيات جديدة.
إن تاريخ الفكر، هو تاريخ خيبات الأمل المتتالية في سيرورة النظريات، وهو أيضا تاريخ اليأس من خدعها المنكشفة في مراحل جد متأخرة من إشعاعها. إن مناورات النظرية غالبا ما تفتضح، لكن بعد فوات الأوان. والغريب في الأمر، هو أن الكثير من النظريات العلمية بمختلف اختصاصاتها، تحظى بالكثير من الجوائز الدولية، لا لشيء إلا لطرافتها، أو لكونها واعدة بإمكان تحققها، ولو بعد مئات أو آلاف السنين. إن الاكتشاف المتأخر لخدعة النظرية، هو الذي يستحثك من جديد على تبني وجهة نظر مغايرة ومضادة. إنه نوع من التخلص من فخٍّ ما، عبر الاستسلام الطوعي إلى فخ آخر، أكثر شراسة وأكثر مكرا. إن التبني والاستسلام التام للنظرية الجديدة، وبعمىً شبه مطلق، يعود إلى تلك الرغبة العارمة في التخلص من سلطة النظرية السابقة، وطي صفحتها. ولأن النظرية قد تحولت إلى قدر ومصير، فإن نسبة كبيرة من المريدين، والمصابين بحمى الاهتداء بعصا الدليل، تظل مسكونة بهاجس الخضوع لها ومناوئة أعدائها، كما لو أن النظرية ضرورية، من أجل إشباع تلك الرغبة العميقة في الشقاق والصراع، في إعلان الحرب، وفي اختلاق العدو. إنها ضرورية من أجل استحداث تلك التفرقة القاسية بين مختلف طرائق الرؤية والتفكير، من أن أجل أن تكون مع ذاتك وضدها. إنها ضرورية، من أجل تجديد خطاب الاندماج داخل كينونة جديدة. ضرورية من أجل فتح مسالك جديدة ومغايرة، تقتضي من أصحابها التزود بما يكفي من العدة لتأمين مهمة السفر، والتنصل من النظرية الآيلة إلى تلاشيها الحتمي والطبيعي. إن فعل التنصل هذا، ولو بصفة جد مؤقتة، يشير إلى ذلك الحضور الضمني لفعل الانتقام من ابتزاز تقعيدي طال أمده، بحثا عن هواء معرفي بديل، متحرر عن وصاية النظرية السابقة ومن ابتزازها. من وصاية ما هو مطالب بالاختفاء والغروب، كي ينتشي الحاضر بحضوره، وطبعا تحت مظلة نظرية، لم يحن بعد أوان الكشف عن تسلطها.
بعيدا عن كابوس النظريات، وبعيدا عن كابوس تحالف السذاجة الماكرة مع دهاء السلطة، تستمتع الكتابة الأخرى، بتكريس خفة العبور، الذي لا يمتثل إلى قداسة الألم، الناتج عن إرهاق الكاهل ببؤس تلك الصخور الثقيلة، التي ليست النظريات سوى تجل من تجلياتها. خفة العبور هاته، هي المقابل الموضوعي لتلك الشحنة الهائلة واللامحددة المقتناة من فضاء الحرية، الذي يتحلل بموجبها بَأس النظري وبُؤسه، على حساب الحضور الباذخ للإبداعي، ومع ذلك وفي المسار المقابل، وبتعبير آخر، في المسار العام والمشترك، ما من شيء إلا وهو محفوف بإطاره النظري، وما من إمكانية لتملك الشيء، خارج هذا الإطار، وفي منأى عن عملية توصيفه، حيث يمكن القول، إن تاريخ الحضارات، هو تاريخ شبكات لا محدودة من التوصيفات النظرية للشيء، وهي التوصيفات ذاتها، التي تفصل بين وجودين، أحدهما يتميز بانفلاته التام من سلطة التأطير والتنظير، فيما يكون الآخر، مقيدا كليا أو نسبيا بسلطتهما. وفي قلب هذين التوصيفين/التصنيفين/تنتظم سلسلة لامتناهية من الخطابات، ومن القناعات المراوحة بين حرية انسيابها خارج حدود النظري، أو داخله. هذه الشبكات اللانهائية، هي التي تغري الكتابة بالإعلان عن تموضعها. لكن والحالة هذه، أين يمكن أن نضع الكارثة؟ وفي أي إطار يمكن تصنيف المآتم الجماعية القائمة في عمق عتماتها المعلومة والمجهولة في آن؟ ربما كان للفكر رأي آخر، وهو يدمج المنفلت في المقيد، والمقيد في المنفلت، حيث لا أثر لعبور الكارثة، ولا أثر للصرخة، للمأتم، ولا أثر، عدا ذلك المفهوم الذي يحفل بالكم دون الكيف، مكتفيا بلغة تصنيف بارد، محايد يضع الحكاية في الحكاية، والشكل في الاسم، حيث الاهتمام منصرف تماما عن تفاصيل سيرورة حكي، يعيش فرحته الزرقاء، خارج أي تقنين رمادي، مشفوع ببؤسه النظري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.