موعد ظهور نتيجة الثانوية الأزهرية 2025 عبر بوابة الأزهر الإلكترونية (تصريحات خاصة)    تراجع أسعار الذهب اليوم الجمعة 25 يوليو في بداية التعاملات    أكسيوس: باريس تشهد أول مفاوضات رفيعة المستوى بين إسرائيل وسوريا منذ 25 عاما    مجلس الأمن الدولي يعقد جلسة طارئة اليوم على خلفية التصعيد بين كمبوديا وتايلاند    القنوات الناقلة مباشر لمباراة الأهلي والبنزرتي التونسي الودية اليوم.. والتردد والموعد    نجم الزمالك السابق: مصطفى شلبي رحل من الباب الكبير.. وجون إدوارد يعمل باحترافية    مصطفى كامل: دعمي لشيرين مش ضد أنغام.. ومكنتش أعرف بالخلاف بينهم    رسميا، مانشستر يونايتد يمنع طباعة أسماء ثلاثة من أساطير النادي على قمصان الموسم الجديد    طريقة عمل بلح الشام، باحترافية شديدة وبأقل التكاليف    «اللجنة الوطنية والهجرة الدولية» تطلقان حملة للتوعية بالمخاطر غير النظامية    هل بيع قطعة أرض أو طرح مشروع لمستثمر يعد استثمارا أم لا؟ محمود محيي الدين يجيب    محمود محيي الدين: مستعد لخدمة بلدي فيما أصلح له.. ولن أتردد أبدًا    قانون الإيجار القديم يحسم النقاش.. ما مصير المستأجرين بعد مرور 7 سنوات من الإقامة؟    محمود محيي الدين: نجاح الإصلاح الاقتصادي بقوة الجنيه في جيب المواطن    رسميا.. قائمة بالجامعات الأهلية والخاصة 2025 في مصر (الشروط والمصاريف ونظام التقسيط)    هل الجوافة تسبب الإمساك؟ الحقيقة بين الفوائد والأضرار    لحماية نفسك من فقر الدم.. 6 نصائح فعالة للوقاية من الأنيميا    تدهور الحالة الصحية للكاتب صنع الله إبراهيم من جديد ودخوله الرعاية المركزة    بعد عمي تعبان.. فتوح يوضح حقيقة جديدة مثيرة للجدل "فرح أختي"    "الجبهة الوطنية" ينظم مؤتمراً جماهيرياً حاشداً لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ بالجيزة    خالد الغندور يكشف مفاجأة بخصوص انتقال مصطفى محمد إلى الأهلي    إحباط محاولة تهريب 8000 لتر سولار لبيعهم في السوق السوداء بدمياط    استمرار استقبال طلاب الثانوية العامة لاختبارات العلوم الرياضية بالعريش    درجة الحرارة تصل ل48.. موجة حارة شديدة تشعل أكثر من 200 حريق في تونس    حفل تخرج دفعة جديدة من طلاب كلية العلوم الصحية بجامعة المنوفية.. صور    نقابة التشكيليين تؤكد استمرار شرعية المجلس والنقيب المنتخب    الأوقاف تفتتح اليوم الجمعة 8 مساجد في 7 محافظات    وزارة الصحة تنظم اجتماعًا لمراجعة حركة النيابات وتحسين بيئة عمل الأطباء    مصدر للبروتين.. 4 أسباب تدفعك لتناول بيضة على الإفطار يوميًا    تنسيق الجامعات 2025، شروط الالتحاق ببعض البرامج المميزة للعام الجامعي 2025/2026    بعد تغيبه عن مباراة وي.. تصرف مفاجئ من حامد حمدان بسبب الزمالك    أحمد سعد: ألبوم عمرو دياب مختلف و"قررت أشتغل في حتة لوحدي"    ميريهان حسين على البحر وابنة عمرو دياب مع صديقها .. لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    "صيفي لسه بيبدأ".. 18 صورة ل محمد رمضان على البحر وبصحبة ابنته    سعاد صالح: القوامة ليست تشريفًا أو سيطرة وإذلال ويمكن أن تنتقل للمرأة    بعد ارتباطه بالانتقال ل الزمالك.. الرجاء المغربي يعلن تعاقده مع بلال ولد الشيخ    الخارجية الأردنية: نرحب بإعلان الرئيس الفرنسي عزمه الاعتراف بالدولة الفلسطينية    العظمى في القاهرة 40 مئوية.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    جوجل تعوّض رجلًا التقط عاريًا على "ستريت فيو"    القبض على طرفي مشاجرة بالأسلحة البيضاء في الجيزة    «كان سهل منمشهوش».. تعليق مثير من خالد بيبو بشأن تصرف الأهلي مع وسام أبو علي    الخارجية الأمريكية توافق على مبيعات عسكرية لمصر ب4.67 مليار دولار (محدث)    حزب "المصريين": جهود مصر لإعادة إدخال المساعدات إلى غزة استكمال لدورها التاريخي تجاه الأمة    الهلال الأحمر المصري يرفع قدرات تشغيل مراكزه اللوجيستية لنقل الإمدادات إلى غزة    بدأت بفحوصات بسيطة وتطورت ل«الموضوع محتاج صبر».. ملامح من أزمة أنغام الصحية    4 أبراج «بيشتغلوا على نفسهم».. منضبطون يهتمون بالتفاصيل ويسعون دائما للنجاح    الثقافة المصرية تضيء مسارح جرش.. ووزير الثقافة يشيد بروح سيناء (صور)    سعر الدولار اليوم أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية الجمعة 25 يوليو 2025    «دعاء يوم الجمعة» للرزق وتفريج الهم وتيسير الحال.. كلمات تشرح القلب وتريح البال    دعاء يوم الجمعة.. كلمات مستجابة تفتح لك أبواب الرحمة    "كنت فرحان ب94%".. صدمة طالب بالفيوم بعد اختفاء درجاته في يوم واحد    مصرع شقيقين غرقًا في مياه ترعة كاسل بأسوان    ادى لوفاة طفل وإصابة 4 آخرين.. النيابة تتسلم نتيجة تحليل المخدرات للمتهمة في واقعة «جيت سكي» الساحل الشمالي    إصابة 6 أفراد في مشاجرتين بالعريش والشيخ زويد    سعر الفراخ البلدي والبيضاء وكرتونة البيض بالأسواق اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    نتنياهو يزعم أن إعلان فرنسا اعترافها بدولة فلسطين «يكافئ الإرهاب»    هل لمبروك عطية حق الفتوى؟.. د. سعد الهلالي: هؤلاء هم المتخصصون فقط    خالد الجندي: مساعدة الناس عبادة.. والدنيا ثمَن للآخرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فخاخ النظريات
نشر في صوت البلد يوم 21 - 02 - 2016

من المؤكد أننا سنكون مجبرين على التحلي بنسبة عالية من السذاجة، كي نُوهِم ذواتنا، والآخرين معنا، بإمكانية بنائنا لنظرية شاملة ومتكاملة، تشمل مختلف الإشكاليات الفكرية التقنية أو الجمالية التي تستأثر باهتمامات الكائن.
وعلى الرغم من اقتناعنا المبدئي بالدور الذي تطلع به النظرية في ترويض الخطاب وتدجينه، في أفق إكسابه قوة تعميمية، تنزاح به من خصوصيته المغلقة، إلى فضاءات التشارك الرحب، إلا أنها تظل مخلصة لإطارها الأحادي البعد، والمُعَدٍّ سلفا لحل إشكال، لا يتجاوز هو أيضا نسقه الأحادي البعد. وهو ما يدعونا للتأكيد بأن نسبة مهمة من مكونات أي بناء نظري، وبصرف النظر عن صلاحيتها التداولية التي تنجح في تحقيقها وتعميمها، لا تتجاوز حدود هذا الأحادي، المتموضع في سياق مواصفات معينة، قد تكون متمتعة بسُلط إعلامية، تساهم في الارتقاء بها – ولو على سبيل تدليس مؤقت أو دائم، إلى مستوى تعميمي، وشامل، يخوِّل لها صلاحية انتحال صفة قانون، تنسحب سلطته على جميع الظواهر المشابهة، ولو في حدود إعادة تركيب تخييلي، للحالات القريبة الشبه من الحالة الأصل، والتي استمد منها هذا القانون مشروعية حضوره.
إن الشروط التي تتم فيها عملية، أو لعبة إنتاج النظرية، ومن ضمنها المنابر الصادرة عنها والمتبنية لها، تقتضي اعتماد استراتيجية جد معقدة، قائمة على تجريب مجموعة من الاقتراحات القابلة للتصديق أو التكذيب، بهدف التوصل إلى بناء مقولات، ينتهي بها المطاف إلى أن تأخذ شكل نظرية. إن الأمر يتعلق في البداية، بمطلب ذي طبيعة ذاتية، قوامه مباشرةُ حفر مسارِ طويل من الأسئلة الإشكالية والمثيرة، التي تتمكن في كل مرحلة من مراحل سيرورتها، من استقطاب اهتمام مقاربات محايثة. فعلى امتداد ما يراكمه هذا المطلب الذاتي من إثارة وفضول وتزكية، يكون وفي منعطف معين من منعطفات مساره، مهيأ لتحقيق منجزه الكبير. أي منجز الحدث، الذي هو في طريقه لأن يتحول إلى نظرية. غير أن مأساوية هذا المنجز، أو بالأحرى خطورته، تكمن في قدرته على إخفاء بعده الأحادي، وبالتالي قدرته على ممارسة فعل الاستقواء المعرفي، من خلال استقطابه للمزيد من حالات الإبهار، والمزيد من حالات الاستقطاب. إن إنجاز نظرية ما، في حقل من حقول المعرفة، يتطلب حضور هذا الحظ الوافر من السذاجة لدى صاحبه، إذ بدون هذا القدر الكبير من السذاجة الماكرة، لا يمكن أن يغامر باقتراح نظرية، ثم العمل بالتالي على تكريسها، عبر توسيع قاعدة المريدين والمشايعين. ذلك أننا لو فكرنا مليا في عمق هذا الإشكال، سننتبه إلى أن الذات المتوفرة على الحد الأدنى من المنطق والعقلانية، ستكتفي بوضع منجزها في سياق إضافة نوعية أو كمية، ضمن ما حقَّقَ تراكمه في هذا الحقل المعرفي أو ذاك، فضلا عن كون هذه الذات «العاقلة والموضوعية» لا يمكن أن يجنح بها الخيال إلى حد إغراء مرحلة تاريخية كاملة، بتبني ما تعتبره نظرية، من إبداعها الشخصي. من هنا سيظل المنطلق الساذج/الماكر، هو المؤهل للمغامرة بهذا التوجه، لأن الذات المتسلطة، هي أيضا وبطريقتها المنسجمة مع رعونتها، تعتبر نفسها مؤهلة لإخضاع الآخرين إلى إرادة تعميمها، لمشروع خطاب أو منظومة. لذلك، سيكون من المستحيل، تجاهل المكون الهيمني لدى مخترعي النظريات، ومنتجي الأفكار. إن البعد الهيمني والتسلطي، هو أحد الوسائل الأساسية والمركزية، لتسويق المنتوج، إذ بدون آلية التسويق، سيظل المنجز مركونا في زوايا النسيان، وبدون توافر سلطة وتسلط متكاملين، سيظل التسويق مراوحا مكانه، بدون أن يستجيب له أحد، إذ من طبيعة السلطة، إكراه الآخر على النظر، والإنصات، كما على الاستجابة، والدعم والتأييد. على الحضور والانسحاب، وعلى الموت أيضا إن أمكن. إن السلطة لا توظف هويتها المجسدة في العنف المادي، إلا في حالات الضرورة، ذلك أنها تمتلك الكثير من الأقنعة التي تعفيها تماما من الإعلان عن هويتها. ولعل أهم هذه الأقنعة، الإغراء، الغواية، الإبهار، وكلها ممارسات، تتكفل بتعطيل سلطة العقل، كما تقوم بتنويم سلطة الممانعة، وبالتالي تعمل على تكريس سلطة الخضوع، باعتبار أن الخضوع هو أيضا قوة سالبة متواطئة مع سلطة الاستبداد. ولكن، ألسنا دائما في حاجة ماسة إلى هذه السلط، وإلى هذا الصنف من السذاجة، كي نتوفر على منتجات /منتوجات فكرية نظرية ثقافية وحضارية؟ ثم ماذا لو لم يكن ثمة وجود لهذه السذاجة الماكرة، وهذا التسلط الأرعن؟ إن النظرية تحقق استمراريتها وبقاءها، كلما كانت نواة السذاجة أو السلطة قوية وصلبة فيها، إنها لا تتراجع، ولا تفسح المجال لغيرها من باقي النظريات، إلا إذا تآكلت هذه الأنوية، إما بفعل طول استهلاكها إلى درجة القرف والإشباع، أو بفعل انفضاض شمل المروجين لها، أو بفعل صعود توجهات سذاجات وعدوانيات جديدة.
إن تاريخ الفكر، هو تاريخ خيبات الأمل المتتالية في سيرورة النظريات، وهو أيضا تاريخ اليأس من خدعها المنكشفة في مراحل جد متأخرة من إشعاعها. إن مناورات النظرية غالبا ما تفتضح، لكن بعد فوات الأوان. والغريب في الأمر، هو أن الكثير من النظريات العلمية بمختلف اختصاصاتها، تحظى بالكثير من الجوائز الدولية، لا لشيء إلا لطرافتها، أو لكونها واعدة بإمكان تحققها، ولو بعد مئات أو آلاف السنين. إن الاكتشاف المتأخر لخدعة النظرية، هو الذي يستحثك من جديد على تبني وجهة نظر مغايرة ومضادة. إنه نوع من التخلص من فخٍّ ما، عبر الاستسلام الطوعي إلى فخ آخر، أكثر شراسة وأكثر مكرا. إن التبني والاستسلام التام للنظرية الجديدة، وبعمىً شبه مطلق، يعود إلى تلك الرغبة العارمة في التخلص من سلطة النظرية السابقة، وطي صفحتها. ولأن النظرية قد تحولت إلى قدر ومصير، فإن نسبة كبيرة من المريدين، والمصابين بحمى الاهتداء بعصا الدليل، تظل مسكونة بهاجس الخضوع لها ومناوئة أعدائها، كما لو أن النظرية ضرورية، من أجل إشباع تلك الرغبة العميقة في الشقاق والصراع، في إعلان الحرب، وفي اختلاق العدو. إنها ضرورية من أجل استحداث تلك التفرقة القاسية بين مختلف طرائق الرؤية والتفكير، من أن أجل أن تكون مع ذاتك وضدها. إنها ضرورية، من أجل تجديد خطاب الاندماج داخل كينونة جديدة. ضرورية من أجل فتح مسالك جديدة ومغايرة، تقتضي من أصحابها التزود بما يكفي من العدة لتأمين مهمة السفر، والتنصل من النظرية الآيلة إلى تلاشيها الحتمي والطبيعي. إن فعل التنصل هذا، ولو بصفة جد مؤقتة، يشير إلى ذلك الحضور الضمني لفعل الانتقام من ابتزاز تقعيدي طال أمده، بحثا عن هواء معرفي بديل، متحرر عن وصاية النظرية السابقة ومن ابتزازها. من وصاية ما هو مطالب بالاختفاء والغروب، كي ينتشي الحاضر بحضوره، وطبعا تحت مظلة نظرية، لم يحن بعد أوان الكشف عن تسلطها.
بعيدا عن كابوس النظريات، وبعيدا عن كابوس تحالف السذاجة الماكرة مع دهاء السلطة، تستمتع الكتابة الأخرى، بتكريس خفة العبور، الذي لا يمتثل إلى قداسة الألم، الناتج عن إرهاق الكاهل ببؤس تلك الصخور الثقيلة، التي ليست النظريات سوى تجل من تجلياتها. خفة العبور هاته، هي المقابل الموضوعي لتلك الشحنة الهائلة واللامحددة المقتناة من فضاء الحرية، الذي يتحلل بموجبها بَأس النظري وبُؤسه، على حساب الحضور الباذخ للإبداعي، ومع ذلك وفي المسار المقابل، وبتعبير آخر، في المسار العام والمشترك، ما من شيء إلا وهو محفوف بإطاره النظري، وما من إمكانية لتملك الشيء، خارج هذا الإطار، وفي منأى عن عملية توصيفه، حيث يمكن القول، إن تاريخ الحضارات، هو تاريخ شبكات لا محدودة من التوصيفات النظرية للشيء، وهي التوصيفات ذاتها، التي تفصل بين وجودين، أحدهما يتميز بانفلاته التام من سلطة التأطير والتنظير، فيما يكون الآخر، مقيدا كليا أو نسبيا بسلطتهما. وفي قلب هذين التوصيفين/التصنيفين/تنتظم سلسلة لامتناهية من الخطابات، ومن القناعات المراوحة بين حرية انسيابها خارج حدود النظري، أو داخله. هذه الشبكات اللانهائية، هي التي تغري الكتابة بالإعلان عن تموضعها. لكن والحالة هذه، أين يمكن أن نضع الكارثة؟ وفي أي إطار يمكن تصنيف المآتم الجماعية القائمة في عمق عتماتها المعلومة والمجهولة في آن؟ ربما كان للفكر رأي آخر، وهو يدمج المنفلت في المقيد، والمقيد في المنفلت، حيث لا أثر لعبور الكارثة، ولا أثر للصرخة، للمأتم، ولا أثر، عدا ذلك المفهوم الذي يحفل بالكم دون الكيف، مكتفيا بلغة تصنيف بارد، محايد يضع الحكاية في الحكاية، والشكل في الاسم، حيث الاهتمام منصرف تماما عن تفاصيل سيرورة حكي، يعيش فرحته الزرقاء، خارج أي تقنين رمادي، مشفوع ببؤسه النظري.
من المؤكد أننا سنكون مجبرين على التحلي بنسبة عالية من السذاجة، كي نُوهِم ذواتنا، والآخرين معنا، بإمكانية بنائنا لنظرية شاملة ومتكاملة، تشمل مختلف الإشكاليات الفكرية التقنية أو الجمالية التي تستأثر باهتمامات الكائن.
وعلى الرغم من اقتناعنا المبدئي بالدور الذي تطلع به النظرية في ترويض الخطاب وتدجينه، في أفق إكسابه قوة تعميمية، تنزاح به من خصوصيته المغلقة، إلى فضاءات التشارك الرحب، إلا أنها تظل مخلصة لإطارها الأحادي البعد، والمُعَدٍّ سلفا لحل إشكال، لا يتجاوز هو أيضا نسقه الأحادي البعد. وهو ما يدعونا للتأكيد بأن نسبة مهمة من مكونات أي بناء نظري، وبصرف النظر عن صلاحيتها التداولية التي تنجح في تحقيقها وتعميمها، لا تتجاوز حدود هذا الأحادي، المتموضع في سياق مواصفات معينة، قد تكون متمتعة بسُلط إعلامية، تساهم في الارتقاء بها – ولو على سبيل تدليس مؤقت أو دائم، إلى مستوى تعميمي، وشامل، يخوِّل لها صلاحية انتحال صفة قانون، تنسحب سلطته على جميع الظواهر المشابهة، ولو في حدود إعادة تركيب تخييلي، للحالات القريبة الشبه من الحالة الأصل، والتي استمد منها هذا القانون مشروعية حضوره.
إن الشروط التي تتم فيها عملية، أو لعبة إنتاج النظرية، ومن ضمنها المنابر الصادرة عنها والمتبنية لها، تقتضي اعتماد استراتيجية جد معقدة، قائمة على تجريب مجموعة من الاقتراحات القابلة للتصديق أو التكذيب، بهدف التوصل إلى بناء مقولات، ينتهي بها المطاف إلى أن تأخذ شكل نظرية. إن الأمر يتعلق في البداية، بمطلب ذي طبيعة ذاتية، قوامه مباشرةُ حفر مسارِ طويل من الأسئلة الإشكالية والمثيرة، التي تتمكن في كل مرحلة من مراحل سيرورتها، من استقطاب اهتمام مقاربات محايثة. فعلى امتداد ما يراكمه هذا المطلب الذاتي من إثارة وفضول وتزكية، يكون وفي منعطف معين من منعطفات مساره، مهيأ لتحقيق منجزه الكبير. أي منجز الحدث، الذي هو في طريقه لأن يتحول إلى نظرية. غير أن مأساوية هذا المنجز، أو بالأحرى خطورته، تكمن في قدرته على إخفاء بعده الأحادي، وبالتالي قدرته على ممارسة فعل الاستقواء المعرفي، من خلال استقطابه للمزيد من حالات الإبهار، والمزيد من حالات الاستقطاب. إن إنجاز نظرية ما، في حقل من حقول المعرفة، يتطلب حضور هذا الحظ الوافر من السذاجة لدى صاحبه، إذ بدون هذا القدر الكبير من السذاجة الماكرة، لا يمكن أن يغامر باقتراح نظرية، ثم العمل بالتالي على تكريسها، عبر توسيع قاعدة المريدين والمشايعين. ذلك أننا لو فكرنا مليا في عمق هذا الإشكال، سننتبه إلى أن الذات المتوفرة على الحد الأدنى من المنطق والعقلانية، ستكتفي بوضع منجزها في سياق إضافة نوعية أو كمية، ضمن ما حقَّقَ تراكمه في هذا الحقل المعرفي أو ذاك، فضلا عن كون هذه الذات «العاقلة والموضوعية» لا يمكن أن يجنح بها الخيال إلى حد إغراء مرحلة تاريخية كاملة، بتبني ما تعتبره نظرية، من إبداعها الشخصي. من هنا سيظل المنطلق الساذج/الماكر، هو المؤهل للمغامرة بهذا التوجه، لأن الذات المتسلطة، هي أيضا وبطريقتها المنسجمة مع رعونتها، تعتبر نفسها مؤهلة لإخضاع الآخرين إلى إرادة تعميمها، لمشروع خطاب أو منظومة. لذلك، سيكون من المستحيل، تجاهل المكون الهيمني لدى مخترعي النظريات، ومنتجي الأفكار. إن البعد الهيمني والتسلطي، هو أحد الوسائل الأساسية والمركزية، لتسويق المنتوج، إذ بدون آلية التسويق، سيظل المنجز مركونا في زوايا النسيان، وبدون توافر سلطة وتسلط متكاملين، سيظل التسويق مراوحا مكانه، بدون أن يستجيب له أحد، إذ من طبيعة السلطة، إكراه الآخر على النظر، والإنصات، كما على الاستجابة، والدعم والتأييد. على الحضور والانسحاب، وعلى الموت أيضا إن أمكن. إن السلطة لا توظف هويتها المجسدة في العنف المادي، إلا في حالات الضرورة، ذلك أنها تمتلك الكثير من الأقنعة التي تعفيها تماما من الإعلان عن هويتها. ولعل أهم هذه الأقنعة، الإغراء، الغواية، الإبهار، وكلها ممارسات، تتكفل بتعطيل سلطة العقل، كما تقوم بتنويم سلطة الممانعة، وبالتالي تعمل على تكريس سلطة الخضوع، باعتبار أن الخضوع هو أيضا قوة سالبة متواطئة مع سلطة الاستبداد. ولكن، ألسنا دائما في حاجة ماسة إلى هذه السلط، وإلى هذا الصنف من السذاجة، كي نتوفر على منتجات /منتوجات فكرية نظرية ثقافية وحضارية؟ ثم ماذا لو لم يكن ثمة وجود لهذه السذاجة الماكرة، وهذا التسلط الأرعن؟ إن النظرية تحقق استمراريتها وبقاءها، كلما كانت نواة السذاجة أو السلطة قوية وصلبة فيها، إنها لا تتراجع، ولا تفسح المجال لغيرها من باقي النظريات، إلا إذا تآكلت هذه الأنوية، إما بفعل طول استهلاكها إلى درجة القرف والإشباع، أو بفعل انفضاض شمل المروجين لها، أو بفعل صعود توجهات سذاجات وعدوانيات جديدة.
إن تاريخ الفكر، هو تاريخ خيبات الأمل المتتالية في سيرورة النظريات، وهو أيضا تاريخ اليأس من خدعها المنكشفة في مراحل جد متأخرة من إشعاعها. إن مناورات النظرية غالبا ما تفتضح، لكن بعد فوات الأوان. والغريب في الأمر، هو أن الكثير من النظريات العلمية بمختلف اختصاصاتها، تحظى بالكثير من الجوائز الدولية، لا لشيء إلا لطرافتها، أو لكونها واعدة بإمكان تحققها، ولو بعد مئات أو آلاف السنين. إن الاكتشاف المتأخر لخدعة النظرية، هو الذي يستحثك من جديد على تبني وجهة نظر مغايرة ومضادة. إنه نوع من التخلص من فخٍّ ما، عبر الاستسلام الطوعي إلى فخ آخر، أكثر شراسة وأكثر مكرا. إن التبني والاستسلام التام للنظرية الجديدة، وبعمىً شبه مطلق، يعود إلى تلك الرغبة العارمة في التخلص من سلطة النظرية السابقة، وطي صفحتها. ولأن النظرية قد تحولت إلى قدر ومصير، فإن نسبة كبيرة من المريدين، والمصابين بحمى الاهتداء بعصا الدليل، تظل مسكونة بهاجس الخضوع لها ومناوئة أعدائها، كما لو أن النظرية ضرورية، من أجل إشباع تلك الرغبة العميقة في الشقاق والصراع، في إعلان الحرب، وفي اختلاق العدو. إنها ضرورية من أجل استحداث تلك التفرقة القاسية بين مختلف طرائق الرؤية والتفكير، من أن أجل أن تكون مع ذاتك وضدها. إنها ضرورية، من أجل تجديد خطاب الاندماج داخل كينونة جديدة. ضرورية من أجل فتح مسالك جديدة ومغايرة، تقتضي من أصحابها التزود بما يكفي من العدة لتأمين مهمة السفر، والتنصل من النظرية الآيلة إلى تلاشيها الحتمي والطبيعي. إن فعل التنصل هذا، ولو بصفة جد مؤقتة، يشير إلى ذلك الحضور الضمني لفعل الانتقام من ابتزاز تقعيدي طال أمده، بحثا عن هواء معرفي بديل، متحرر عن وصاية النظرية السابقة ومن ابتزازها. من وصاية ما هو مطالب بالاختفاء والغروب، كي ينتشي الحاضر بحضوره، وطبعا تحت مظلة نظرية، لم يحن بعد أوان الكشف عن تسلطها.
بعيدا عن كابوس النظريات، وبعيدا عن كابوس تحالف السذاجة الماكرة مع دهاء السلطة، تستمتع الكتابة الأخرى، بتكريس خفة العبور، الذي لا يمتثل إلى قداسة الألم، الناتج عن إرهاق الكاهل ببؤس تلك الصخور الثقيلة، التي ليست النظريات سوى تجل من تجلياتها. خفة العبور هاته، هي المقابل الموضوعي لتلك الشحنة الهائلة واللامحددة المقتناة من فضاء الحرية، الذي يتحلل بموجبها بَأس النظري وبُؤسه، على حساب الحضور الباذخ للإبداعي، ومع ذلك وفي المسار المقابل، وبتعبير آخر، في المسار العام والمشترك، ما من شيء إلا وهو محفوف بإطاره النظري، وما من إمكانية لتملك الشيء، خارج هذا الإطار، وفي منأى عن عملية توصيفه، حيث يمكن القول، إن تاريخ الحضارات، هو تاريخ شبكات لا محدودة من التوصيفات النظرية للشيء، وهي التوصيفات ذاتها، التي تفصل بين وجودين، أحدهما يتميز بانفلاته التام من سلطة التأطير والتنظير، فيما يكون الآخر، مقيدا كليا أو نسبيا بسلطتهما. وفي قلب هذين التوصيفين/التصنيفين/تنتظم سلسلة لامتناهية من الخطابات، ومن القناعات المراوحة بين حرية انسيابها خارج حدود النظري، أو داخله. هذه الشبكات اللانهائية، هي التي تغري الكتابة بالإعلان عن تموضعها. لكن والحالة هذه، أين يمكن أن نضع الكارثة؟ وفي أي إطار يمكن تصنيف المآتم الجماعية القائمة في عمق عتماتها المعلومة والمجهولة في آن؟ ربما كان للفكر رأي آخر، وهو يدمج المنفلت في المقيد، والمقيد في المنفلت، حيث لا أثر لعبور الكارثة، ولا أثر للصرخة، للمأتم، ولا أثر، عدا ذلك المفهوم الذي يحفل بالكم دون الكيف، مكتفيا بلغة تصنيف بارد، محايد يضع الحكاية في الحكاية، والشكل في الاسم، حيث الاهتمام منصرف تماما عن تفاصيل سيرورة حكي، يعيش فرحته الزرقاء، خارج أي تقنين رمادي، مشفوع ببؤسه النظري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.