عودة انقطاع الكهرباء في مناطق بالجيزة وخروج كابل محطة محولات جزيرة الذهب عن الخدمة    هآرتس: ترامب يعطي الضوء الأخضر لإسرائيل لضم أجزاء من غزة    200 مليون دولار، ليفربول يجهز عرضا خرافيا لحسم صفقة مهاجم نيوكاسل    رابطة الأندية: بدء عقوبة "سب الدين والعنصرية" فى الدوري بالموسم الجديد    السيسي يوجه بتوفير الرعاية الصحية اللازمة والاهتمام الطبي الفوري للكابتن حسن شحاتة    المعمل الجنائي يعاين حريق شقة في المريوطية    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    الكشف الطبي على 540 مواطنًا بقرية جلبانة ضمن القافلة الطبية لجامعة الإسماعيلية    بمناسبة اليوم العالمي.. التهاب الكبد خطر صامت يمكن تفاديه    نقيب الإعلاميين: كلمة الرئيس السيسي بشأن غزة رد عملي على حملات التضليل    سميرة صدقي: عبلة كامل أفضل فنانة قدمت دور المرأة الشعبية    بدء الدراسة بجامعة الأقصر الأهلية.. رئيس الجامعة والمحافظ يعلنان تفاصيل البرامج الدراسية بالكليات الأربع    «ما تراه ليس كما يبدو».. شيري عادل تستعد لتصوير حكاية "ديجافو"    قبل عرضه.. تفاصيل فيلم بيج رامى بطولة رامز جلال    علاج الحموضة بالأعشاب الطبيعية في أسرع وقت    الداخلية: لا توجد تجمعات بالمحافظات والإخوان وراء هذه الشائعات    برومو تشويقى ل مسلسل "ما تراه ليس كما يبدو".. سبع حكايات ومفاجآت غير متوقعة    محافظ جنوب سيناء يتابع تطوير محطة معالجة دهب والغابة الشجرية (صور)    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    رفقة العراق والبحرين .. منتخب مصر في المجموعة الثانية بكأس الخليج للشباب    «المصري اليوم» داخل قطار العودة إلى السودان.. مشرفو الرحلة: «لا رجوع قبل أن نُسلّم أهلنا إلى حضن الوطن»    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    حزب الجيل: السيسي يعيد التأكيد على ثوابت مصر في دعم فلسطين    أمانة الشؤون القانونية المركزية ب"مستقبل وطن" تبحث مع أمنائها بالمحافظات الاستعدادات لانتخابات مجلس الشيوخ 2025    كم سنويا؟.. طريقة حساب عائد مبلغ 200 ألف جنيه من شهادة ادخار البنك الأهلي    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    تنفيذي الشرقية يكرم أبطال حرب أكتوبر والمتبرعين للصالح العام    ديفيز: سعيد بالعودة للأهلي.. وهذه رسالتي للجماهير    هندسة المنوفية الأولى عالميًا في المحاكاة بمسابقة Formula Student UK 2025    نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض وضوءها؟.. أمينة الفتوى توضح    السفارة الأمريكية: كتائب حزب الله تقف وراء اقتحام مبنى حكومي ببغداد    قنا: القبض على شاب متهم بالاعتداء على طفل داخل منزل أسرته في قرية الدرب بنجع حمادي    محافظ القاهرة يكرم 30 طالبا وطالبة من أوائل الثانوية العامة والمكفوفين والدبلومات الفنية    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    12 راحلا عن الأهلي في الانتقالات الصيفية    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    تصعيد خطير ضد الوجود المسيحي بفلسطين.. مستوطنون يعتدون على دير للروم الأرثوذكس    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي لأكثر من مليون فرد    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    منال عوض تتابع ملفات وزارة البيئة وتبحث تطوير منظومة إدارة المخلفات    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    إطلاق حملة لتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة بمدينة العاشر من رمضان (صور)    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    في مستهل زيارته لنيويورك.. وزير الخارجية يلتقي بالجالية المصرية    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    تعرف على مواعيد مباريات المصري بالدوري خلال الموسم الكروي الجديد    بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ .. لماذا لم يقيل السيسي محافظ الجيزة ورؤساء الأحياء كما فعل مع قيادات الداخلية ؟    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فخاخ النظريات
نشر في صوت البلد يوم 21 - 02 - 2016

من المؤكد أننا سنكون مجبرين على التحلي بنسبة عالية من السذاجة، كي نُوهِم ذواتنا، والآخرين معنا، بإمكانية بنائنا لنظرية شاملة ومتكاملة، تشمل مختلف الإشكاليات الفكرية التقنية أو الجمالية التي تستأثر باهتمامات الكائن.
وعلى الرغم من اقتناعنا المبدئي بالدور الذي تطلع به النظرية في ترويض الخطاب وتدجينه، في أفق إكسابه قوة تعميمية، تنزاح به من خصوصيته المغلقة، إلى فضاءات التشارك الرحب، إلا أنها تظل مخلصة لإطارها الأحادي البعد، والمُعَدٍّ سلفا لحل إشكال، لا يتجاوز هو أيضا نسقه الأحادي البعد. وهو ما يدعونا للتأكيد بأن نسبة مهمة من مكونات أي بناء نظري، وبصرف النظر عن صلاحيتها التداولية التي تنجح في تحقيقها وتعميمها، لا تتجاوز حدود هذا الأحادي، المتموضع في سياق مواصفات معينة، قد تكون متمتعة بسُلط إعلامية، تساهم في الارتقاء بها – ولو على سبيل تدليس مؤقت أو دائم، إلى مستوى تعميمي، وشامل، يخوِّل لها صلاحية انتحال صفة قانون، تنسحب سلطته على جميع الظواهر المشابهة، ولو في حدود إعادة تركيب تخييلي، للحالات القريبة الشبه من الحالة الأصل، والتي استمد منها هذا القانون مشروعية حضوره.
إن الشروط التي تتم فيها عملية، أو لعبة إنتاج النظرية، ومن ضمنها المنابر الصادرة عنها والمتبنية لها، تقتضي اعتماد استراتيجية جد معقدة، قائمة على تجريب مجموعة من الاقتراحات القابلة للتصديق أو التكذيب، بهدف التوصل إلى بناء مقولات، ينتهي بها المطاف إلى أن تأخذ شكل نظرية. إن الأمر يتعلق في البداية، بمطلب ذي طبيعة ذاتية، قوامه مباشرةُ حفر مسارِ طويل من الأسئلة الإشكالية والمثيرة، التي تتمكن في كل مرحلة من مراحل سيرورتها، من استقطاب اهتمام مقاربات محايثة. فعلى امتداد ما يراكمه هذا المطلب الذاتي من إثارة وفضول وتزكية، يكون وفي منعطف معين من منعطفات مساره، مهيأ لتحقيق منجزه الكبير. أي منجز الحدث، الذي هو في طريقه لأن يتحول إلى نظرية. غير أن مأساوية هذا المنجز، أو بالأحرى خطورته، تكمن في قدرته على إخفاء بعده الأحادي، وبالتالي قدرته على ممارسة فعل الاستقواء المعرفي، من خلال استقطابه للمزيد من حالات الإبهار، والمزيد من حالات الاستقطاب. إن إنجاز نظرية ما، في حقل من حقول المعرفة، يتطلب حضور هذا الحظ الوافر من السذاجة لدى صاحبه، إذ بدون هذا القدر الكبير من السذاجة الماكرة، لا يمكن أن يغامر باقتراح نظرية، ثم العمل بالتالي على تكريسها، عبر توسيع قاعدة المريدين والمشايعين. ذلك أننا لو فكرنا مليا في عمق هذا الإشكال، سننتبه إلى أن الذات المتوفرة على الحد الأدنى من المنطق والعقلانية، ستكتفي بوضع منجزها في سياق إضافة نوعية أو كمية، ضمن ما حقَّقَ تراكمه في هذا الحقل المعرفي أو ذاك، فضلا عن كون هذه الذات «العاقلة والموضوعية» لا يمكن أن يجنح بها الخيال إلى حد إغراء مرحلة تاريخية كاملة، بتبني ما تعتبره نظرية، من إبداعها الشخصي. من هنا سيظل المنطلق الساذج/الماكر، هو المؤهل للمغامرة بهذا التوجه، لأن الذات المتسلطة، هي أيضا وبطريقتها المنسجمة مع رعونتها، تعتبر نفسها مؤهلة لإخضاع الآخرين إلى إرادة تعميمها، لمشروع خطاب أو منظومة. لذلك، سيكون من المستحيل، تجاهل المكون الهيمني لدى مخترعي النظريات، ومنتجي الأفكار. إن البعد الهيمني والتسلطي، هو أحد الوسائل الأساسية والمركزية، لتسويق المنتوج، إذ بدون آلية التسويق، سيظل المنجز مركونا في زوايا النسيان، وبدون توافر سلطة وتسلط متكاملين، سيظل التسويق مراوحا مكانه، بدون أن يستجيب له أحد، إذ من طبيعة السلطة، إكراه الآخر على النظر، والإنصات، كما على الاستجابة، والدعم والتأييد. على الحضور والانسحاب، وعلى الموت أيضا إن أمكن. إن السلطة لا توظف هويتها المجسدة في العنف المادي، إلا في حالات الضرورة، ذلك أنها تمتلك الكثير من الأقنعة التي تعفيها تماما من الإعلان عن هويتها. ولعل أهم هذه الأقنعة، الإغراء، الغواية، الإبهار، وكلها ممارسات، تتكفل بتعطيل سلطة العقل، كما تقوم بتنويم سلطة الممانعة، وبالتالي تعمل على تكريس سلطة الخضوع، باعتبار أن الخضوع هو أيضا قوة سالبة متواطئة مع سلطة الاستبداد. ولكن، ألسنا دائما في حاجة ماسة إلى هذه السلط، وإلى هذا الصنف من السذاجة، كي نتوفر على منتجات /منتوجات فكرية نظرية ثقافية وحضارية؟ ثم ماذا لو لم يكن ثمة وجود لهذه السذاجة الماكرة، وهذا التسلط الأرعن؟ إن النظرية تحقق استمراريتها وبقاءها، كلما كانت نواة السذاجة أو السلطة قوية وصلبة فيها، إنها لا تتراجع، ولا تفسح المجال لغيرها من باقي النظريات، إلا إذا تآكلت هذه الأنوية، إما بفعل طول استهلاكها إلى درجة القرف والإشباع، أو بفعل انفضاض شمل المروجين لها، أو بفعل صعود توجهات سذاجات وعدوانيات جديدة.
إن تاريخ الفكر، هو تاريخ خيبات الأمل المتتالية في سيرورة النظريات، وهو أيضا تاريخ اليأس من خدعها المنكشفة في مراحل جد متأخرة من إشعاعها. إن مناورات النظرية غالبا ما تفتضح، لكن بعد فوات الأوان. والغريب في الأمر، هو أن الكثير من النظريات العلمية بمختلف اختصاصاتها، تحظى بالكثير من الجوائز الدولية، لا لشيء إلا لطرافتها، أو لكونها واعدة بإمكان تحققها، ولو بعد مئات أو آلاف السنين. إن الاكتشاف المتأخر لخدعة النظرية، هو الذي يستحثك من جديد على تبني وجهة نظر مغايرة ومضادة. إنه نوع من التخلص من فخٍّ ما، عبر الاستسلام الطوعي إلى فخ آخر، أكثر شراسة وأكثر مكرا. إن التبني والاستسلام التام للنظرية الجديدة، وبعمىً شبه مطلق، يعود إلى تلك الرغبة العارمة في التخلص من سلطة النظرية السابقة، وطي صفحتها. ولأن النظرية قد تحولت إلى قدر ومصير، فإن نسبة كبيرة من المريدين، والمصابين بحمى الاهتداء بعصا الدليل، تظل مسكونة بهاجس الخضوع لها ومناوئة أعدائها، كما لو أن النظرية ضرورية، من أجل إشباع تلك الرغبة العميقة في الشقاق والصراع، في إعلان الحرب، وفي اختلاق العدو. إنها ضرورية من أجل استحداث تلك التفرقة القاسية بين مختلف طرائق الرؤية والتفكير، من أن أجل أن تكون مع ذاتك وضدها. إنها ضرورية، من أجل تجديد خطاب الاندماج داخل كينونة جديدة. ضرورية من أجل فتح مسالك جديدة ومغايرة، تقتضي من أصحابها التزود بما يكفي من العدة لتأمين مهمة السفر، والتنصل من النظرية الآيلة إلى تلاشيها الحتمي والطبيعي. إن فعل التنصل هذا، ولو بصفة جد مؤقتة، يشير إلى ذلك الحضور الضمني لفعل الانتقام من ابتزاز تقعيدي طال أمده، بحثا عن هواء معرفي بديل، متحرر عن وصاية النظرية السابقة ومن ابتزازها. من وصاية ما هو مطالب بالاختفاء والغروب، كي ينتشي الحاضر بحضوره، وطبعا تحت مظلة نظرية، لم يحن بعد أوان الكشف عن تسلطها.
بعيدا عن كابوس النظريات، وبعيدا عن كابوس تحالف السذاجة الماكرة مع دهاء السلطة، تستمتع الكتابة الأخرى، بتكريس خفة العبور، الذي لا يمتثل إلى قداسة الألم، الناتج عن إرهاق الكاهل ببؤس تلك الصخور الثقيلة، التي ليست النظريات سوى تجل من تجلياتها. خفة العبور هاته، هي المقابل الموضوعي لتلك الشحنة الهائلة واللامحددة المقتناة من فضاء الحرية، الذي يتحلل بموجبها بَأس النظري وبُؤسه، على حساب الحضور الباذخ للإبداعي، ومع ذلك وفي المسار المقابل، وبتعبير آخر، في المسار العام والمشترك، ما من شيء إلا وهو محفوف بإطاره النظري، وما من إمكانية لتملك الشيء، خارج هذا الإطار، وفي منأى عن عملية توصيفه، حيث يمكن القول، إن تاريخ الحضارات، هو تاريخ شبكات لا محدودة من التوصيفات النظرية للشيء، وهي التوصيفات ذاتها، التي تفصل بين وجودين، أحدهما يتميز بانفلاته التام من سلطة التأطير والتنظير، فيما يكون الآخر، مقيدا كليا أو نسبيا بسلطتهما. وفي قلب هذين التوصيفين/التصنيفين/تنتظم سلسلة لامتناهية من الخطابات، ومن القناعات المراوحة بين حرية انسيابها خارج حدود النظري، أو داخله. هذه الشبكات اللانهائية، هي التي تغري الكتابة بالإعلان عن تموضعها. لكن والحالة هذه، أين يمكن أن نضع الكارثة؟ وفي أي إطار يمكن تصنيف المآتم الجماعية القائمة في عمق عتماتها المعلومة والمجهولة في آن؟ ربما كان للفكر رأي آخر، وهو يدمج المنفلت في المقيد، والمقيد في المنفلت، حيث لا أثر لعبور الكارثة، ولا أثر للصرخة، للمأتم، ولا أثر، عدا ذلك المفهوم الذي يحفل بالكم دون الكيف، مكتفيا بلغة تصنيف بارد، محايد يضع الحكاية في الحكاية، والشكل في الاسم، حيث الاهتمام منصرف تماما عن تفاصيل سيرورة حكي، يعيش فرحته الزرقاء، خارج أي تقنين رمادي، مشفوع ببؤسه النظري.
من المؤكد أننا سنكون مجبرين على التحلي بنسبة عالية من السذاجة، كي نُوهِم ذواتنا، والآخرين معنا، بإمكانية بنائنا لنظرية شاملة ومتكاملة، تشمل مختلف الإشكاليات الفكرية التقنية أو الجمالية التي تستأثر باهتمامات الكائن.
وعلى الرغم من اقتناعنا المبدئي بالدور الذي تطلع به النظرية في ترويض الخطاب وتدجينه، في أفق إكسابه قوة تعميمية، تنزاح به من خصوصيته المغلقة، إلى فضاءات التشارك الرحب، إلا أنها تظل مخلصة لإطارها الأحادي البعد، والمُعَدٍّ سلفا لحل إشكال، لا يتجاوز هو أيضا نسقه الأحادي البعد. وهو ما يدعونا للتأكيد بأن نسبة مهمة من مكونات أي بناء نظري، وبصرف النظر عن صلاحيتها التداولية التي تنجح في تحقيقها وتعميمها، لا تتجاوز حدود هذا الأحادي، المتموضع في سياق مواصفات معينة، قد تكون متمتعة بسُلط إعلامية، تساهم في الارتقاء بها – ولو على سبيل تدليس مؤقت أو دائم، إلى مستوى تعميمي، وشامل، يخوِّل لها صلاحية انتحال صفة قانون، تنسحب سلطته على جميع الظواهر المشابهة، ولو في حدود إعادة تركيب تخييلي، للحالات القريبة الشبه من الحالة الأصل، والتي استمد منها هذا القانون مشروعية حضوره.
إن الشروط التي تتم فيها عملية، أو لعبة إنتاج النظرية، ومن ضمنها المنابر الصادرة عنها والمتبنية لها، تقتضي اعتماد استراتيجية جد معقدة، قائمة على تجريب مجموعة من الاقتراحات القابلة للتصديق أو التكذيب، بهدف التوصل إلى بناء مقولات، ينتهي بها المطاف إلى أن تأخذ شكل نظرية. إن الأمر يتعلق في البداية، بمطلب ذي طبيعة ذاتية، قوامه مباشرةُ حفر مسارِ طويل من الأسئلة الإشكالية والمثيرة، التي تتمكن في كل مرحلة من مراحل سيرورتها، من استقطاب اهتمام مقاربات محايثة. فعلى امتداد ما يراكمه هذا المطلب الذاتي من إثارة وفضول وتزكية، يكون وفي منعطف معين من منعطفات مساره، مهيأ لتحقيق منجزه الكبير. أي منجز الحدث، الذي هو في طريقه لأن يتحول إلى نظرية. غير أن مأساوية هذا المنجز، أو بالأحرى خطورته، تكمن في قدرته على إخفاء بعده الأحادي، وبالتالي قدرته على ممارسة فعل الاستقواء المعرفي، من خلال استقطابه للمزيد من حالات الإبهار، والمزيد من حالات الاستقطاب. إن إنجاز نظرية ما، في حقل من حقول المعرفة، يتطلب حضور هذا الحظ الوافر من السذاجة لدى صاحبه، إذ بدون هذا القدر الكبير من السذاجة الماكرة، لا يمكن أن يغامر باقتراح نظرية، ثم العمل بالتالي على تكريسها، عبر توسيع قاعدة المريدين والمشايعين. ذلك أننا لو فكرنا مليا في عمق هذا الإشكال، سننتبه إلى أن الذات المتوفرة على الحد الأدنى من المنطق والعقلانية، ستكتفي بوضع منجزها في سياق إضافة نوعية أو كمية، ضمن ما حقَّقَ تراكمه في هذا الحقل المعرفي أو ذاك، فضلا عن كون هذه الذات «العاقلة والموضوعية» لا يمكن أن يجنح بها الخيال إلى حد إغراء مرحلة تاريخية كاملة، بتبني ما تعتبره نظرية، من إبداعها الشخصي. من هنا سيظل المنطلق الساذج/الماكر، هو المؤهل للمغامرة بهذا التوجه، لأن الذات المتسلطة، هي أيضا وبطريقتها المنسجمة مع رعونتها، تعتبر نفسها مؤهلة لإخضاع الآخرين إلى إرادة تعميمها، لمشروع خطاب أو منظومة. لذلك، سيكون من المستحيل، تجاهل المكون الهيمني لدى مخترعي النظريات، ومنتجي الأفكار. إن البعد الهيمني والتسلطي، هو أحد الوسائل الأساسية والمركزية، لتسويق المنتوج، إذ بدون آلية التسويق، سيظل المنجز مركونا في زوايا النسيان، وبدون توافر سلطة وتسلط متكاملين، سيظل التسويق مراوحا مكانه، بدون أن يستجيب له أحد، إذ من طبيعة السلطة، إكراه الآخر على النظر، والإنصات، كما على الاستجابة، والدعم والتأييد. على الحضور والانسحاب، وعلى الموت أيضا إن أمكن. إن السلطة لا توظف هويتها المجسدة في العنف المادي، إلا في حالات الضرورة، ذلك أنها تمتلك الكثير من الأقنعة التي تعفيها تماما من الإعلان عن هويتها. ولعل أهم هذه الأقنعة، الإغراء، الغواية، الإبهار، وكلها ممارسات، تتكفل بتعطيل سلطة العقل، كما تقوم بتنويم سلطة الممانعة، وبالتالي تعمل على تكريس سلطة الخضوع، باعتبار أن الخضوع هو أيضا قوة سالبة متواطئة مع سلطة الاستبداد. ولكن، ألسنا دائما في حاجة ماسة إلى هذه السلط، وإلى هذا الصنف من السذاجة، كي نتوفر على منتجات /منتوجات فكرية نظرية ثقافية وحضارية؟ ثم ماذا لو لم يكن ثمة وجود لهذه السذاجة الماكرة، وهذا التسلط الأرعن؟ إن النظرية تحقق استمراريتها وبقاءها، كلما كانت نواة السذاجة أو السلطة قوية وصلبة فيها، إنها لا تتراجع، ولا تفسح المجال لغيرها من باقي النظريات، إلا إذا تآكلت هذه الأنوية، إما بفعل طول استهلاكها إلى درجة القرف والإشباع، أو بفعل انفضاض شمل المروجين لها، أو بفعل صعود توجهات سذاجات وعدوانيات جديدة.
إن تاريخ الفكر، هو تاريخ خيبات الأمل المتتالية في سيرورة النظريات، وهو أيضا تاريخ اليأس من خدعها المنكشفة في مراحل جد متأخرة من إشعاعها. إن مناورات النظرية غالبا ما تفتضح، لكن بعد فوات الأوان. والغريب في الأمر، هو أن الكثير من النظريات العلمية بمختلف اختصاصاتها، تحظى بالكثير من الجوائز الدولية، لا لشيء إلا لطرافتها، أو لكونها واعدة بإمكان تحققها، ولو بعد مئات أو آلاف السنين. إن الاكتشاف المتأخر لخدعة النظرية، هو الذي يستحثك من جديد على تبني وجهة نظر مغايرة ومضادة. إنه نوع من التخلص من فخٍّ ما، عبر الاستسلام الطوعي إلى فخ آخر، أكثر شراسة وأكثر مكرا. إن التبني والاستسلام التام للنظرية الجديدة، وبعمىً شبه مطلق، يعود إلى تلك الرغبة العارمة في التخلص من سلطة النظرية السابقة، وطي صفحتها. ولأن النظرية قد تحولت إلى قدر ومصير، فإن نسبة كبيرة من المريدين، والمصابين بحمى الاهتداء بعصا الدليل، تظل مسكونة بهاجس الخضوع لها ومناوئة أعدائها، كما لو أن النظرية ضرورية، من أجل إشباع تلك الرغبة العميقة في الشقاق والصراع، في إعلان الحرب، وفي اختلاق العدو. إنها ضرورية من أجل استحداث تلك التفرقة القاسية بين مختلف طرائق الرؤية والتفكير، من أن أجل أن تكون مع ذاتك وضدها. إنها ضرورية، من أجل تجديد خطاب الاندماج داخل كينونة جديدة. ضرورية من أجل فتح مسالك جديدة ومغايرة، تقتضي من أصحابها التزود بما يكفي من العدة لتأمين مهمة السفر، والتنصل من النظرية الآيلة إلى تلاشيها الحتمي والطبيعي. إن فعل التنصل هذا، ولو بصفة جد مؤقتة، يشير إلى ذلك الحضور الضمني لفعل الانتقام من ابتزاز تقعيدي طال أمده، بحثا عن هواء معرفي بديل، متحرر عن وصاية النظرية السابقة ومن ابتزازها. من وصاية ما هو مطالب بالاختفاء والغروب، كي ينتشي الحاضر بحضوره، وطبعا تحت مظلة نظرية، لم يحن بعد أوان الكشف عن تسلطها.
بعيدا عن كابوس النظريات، وبعيدا عن كابوس تحالف السذاجة الماكرة مع دهاء السلطة، تستمتع الكتابة الأخرى، بتكريس خفة العبور، الذي لا يمتثل إلى قداسة الألم، الناتج عن إرهاق الكاهل ببؤس تلك الصخور الثقيلة، التي ليست النظريات سوى تجل من تجلياتها. خفة العبور هاته، هي المقابل الموضوعي لتلك الشحنة الهائلة واللامحددة المقتناة من فضاء الحرية، الذي يتحلل بموجبها بَأس النظري وبُؤسه، على حساب الحضور الباذخ للإبداعي، ومع ذلك وفي المسار المقابل، وبتعبير آخر، في المسار العام والمشترك، ما من شيء إلا وهو محفوف بإطاره النظري، وما من إمكانية لتملك الشيء، خارج هذا الإطار، وفي منأى عن عملية توصيفه، حيث يمكن القول، إن تاريخ الحضارات، هو تاريخ شبكات لا محدودة من التوصيفات النظرية للشيء، وهي التوصيفات ذاتها، التي تفصل بين وجودين، أحدهما يتميز بانفلاته التام من سلطة التأطير والتنظير، فيما يكون الآخر، مقيدا كليا أو نسبيا بسلطتهما. وفي قلب هذين التوصيفين/التصنيفين/تنتظم سلسلة لامتناهية من الخطابات، ومن القناعات المراوحة بين حرية انسيابها خارج حدود النظري، أو داخله. هذه الشبكات اللانهائية، هي التي تغري الكتابة بالإعلان عن تموضعها. لكن والحالة هذه، أين يمكن أن نضع الكارثة؟ وفي أي إطار يمكن تصنيف المآتم الجماعية القائمة في عمق عتماتها المعلومة والمجهولة في آن؟ ربما كان للفكر رأي آخر، وهو يدمج المنفلت في المقيد، والمقيد في المنفلت، حيث لا أثر لعبور الكارثة، ولا أثر للصرخة، للمأتم، ولا أثر، عدا ذلك المفهوم الذي يحفل بالكم دون الكيف، مكتفيا بلغة تصنيف بارد، محايد يضع الحكاية في الحكاية، والشكل في الاسم، حيث الاهتمام منصرف تماما عن تفاصيل سيرورة حكي، يعيش فرحته الزرقاء، خارج أي تقنين رمادي، مشفوع ببؤسه النظري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.