التعليم العالي: 35 ألف طالب يسجلون في تنسيق المرحلة الأولى للقبول بالجامعات    حماة الوطن يدعو أبناء مصر بالخارج بالمشاركة الإيجابية في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    رئيس جامعة سوهاج يشهد حفل تخرج 643 طالبا وطالبة بكلية التربية النوعية    وظائف خالية اليوم.. فرص عمل ب 300 دينارًا بالأردن    وزير المالية: نعمل مع الشركاء الدوليين على تحقيق أهداف التنمية الشاملة    ارتفاع معظم مؤشرات البورصة بمنتصف تعاملات اليوم    وزير الإسكان: بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع سكن مصر بالقاهرة الجديدة    بسبب زلزال روسيا، إخلاء محطة فوكوشيما النووية في اليابان    رئيس الإمارات يؤكد أولوية التوصل إلى وقف عاجل لإطلاق النار في غزة    عمّان تسير قافلة مساعدات إغاثية للمستشفى الميداني الأردني جنوب غزة/7    الداخلية السورية: مزاعم حصار الحكومة لمحافظة السويداء محض كذب وتضليل    بعد مغادرته معسكر تركيا، موعد عودة الكرتي إلى تدريبات بيراميدز    تشكيل ليفربول - صلاح أساسي ضد يوكوهاما.. وظهور أول ل إيكيتيكي    مصر ترفع رصيدها إلى 42 ميدالية متنوعة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    المسكوت عنه فى أزمة الجيزة    مصرع شخص في حريق شقة سكنية بأرض اللواء    أمن المنافذ يضبط 40 قضية متنوعة خلال 24 ساعة    كل ما تريد معرفته عن برنامج النقوش والبرديات والمخطوطات بكلية الآداب جامعة حلوان    وزير الصحة ومحافظ الإسكندرية يبحثان تنفيذ مشروع شبكة الرعاية الصحية    خالد عبد الغفار يتابع تنفيذ مشروع إنشاء شبكة رعاية صحية بالإسكندرية    محافظ أسوان يوجه بالانتهاء من تجهيز مبني الغسيل الكلوي الجديد بمستشفى كوم أمبو    طريقة عمل الجاتوه شاتوه، لحفلاتك وعزوماتك بأقل التكاليف    في حوار خاص ل"الفجر الرياضي".. مكتشف كاظم إبراهيما: شوقي حسم الصفقة ووليد رشحه لريبيرو    أبو مسلم: جراديشار "مش نافع" ولن يعوض رحيل وسام ابو علي.. وديانج يمتلك عرضين    محافظ الفيوم يكرّم طالبة من ذوي الهمم تقديرًا لتفوقها بالثانوية العامة    وزارة الأوقاف: تدعو لترسيخ القيم الإنسانية التي دعي إليها ديننا الحنيف بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالبشر    جو شو: التحول الرقمي يبدأ من الإنسان.. والتكنولوجيا وسيلتنا لتحقيق تنمية عادلة    القبض على 5 أشخاص بتهمة التنقيب عن الآثار في القاهرة    انكسار الموجة الحارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة    إصابة 5 أشخاص فى حادث انقلاب سيارة ميكروباص بكفر الشيخ    برابط التقديم.. إنشاء أول مدرسة تكنولوجية متخصصة بالغردقة (تفاصيل)    السكة الحديد تُعلن مواعيد قطارات خط "القاهرة الإسماعيلية بورسعيد" والعكس    زيارة تبون لإيطاليا.. اتفاقيات مع روما وانزعاج في باريس    وزارة التضامن: التعامل مع حالات لسيدات وأطفالهن بلا مأوى تعرضن لمشاكل أسرية    مبيعات فيلم أحمد وأحمد تصل ل402 ألف تذكرة في 4 أسابيع    صفية القبانى: فوز نازلى مدكور وعبد الوهاب عبد المحسن تقدير لمسيرتهم الطويلة    لمسات فنية لريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقي العربية ترتدي قفاز الإجادة بإستاد الأسكندرية    ما حكم كشف وجه الميت لتقبيله وتوديعه.. وهل يصح ذلك بعد التكفين؟.. الإفتاء تجيب    معلومات الوزراء: مصر في المركز 44 عالميًا والثالث عربيا بمؤشر حقوق الطفل    مصر تُصدر أول شحنة تقاوي بطاطس ميني تيوبر إلى أوزبكستان    215 مدرسة بالفيوم تستعد لاستقبال انتخابات مجلس الشيوخ 2025    خسارة شباب الطائرة أمام بورتريكو في تحديد مراكز بطولة العالم    تحرير (145) مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    هل التفاوت بين المساجد في وقت ما بين الأذان والإقامة فيه مخالفة شرعية؟.. أمين الفتوى يجيب    ما معنى (ورابطوا) في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)؟.. عالم أزهري يوضح    علي جمعة يكشف عن حقيقة إيمانية مهمة وكيف نحولها إلى منهج حياة    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    نجاح 37 حكمًا و51 مساعدًا في اختبارات اللياقة البدنية    رابطة الأندية: لن نلغي الهبوط في الموسم الجديد    الخارجية الأمريكية: قمنا بتقييم عواقب العقوبات الجديدة ضد روسيا علينا    ليلى علوي تعيد ذكريات «حب البنات» بصور نادرة من الكواليس    الدفاع الروسية: السيطرة على بلدتين في دونيتسك وزابوريجيا    قبول دفعة جديدة من الأطباء البشريين الحاصلين على الماجستير والدكتوراه للعمل كضباط مكلفين بالقوات المسلحة    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    حظك اليوم الأربعاء 30 يوليو وتوقعات الأبراج    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    عاجل- ترمب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات    سعر الفول والسكر والسلع الأساسية بالأسواق اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



برقيات " أصلان" ورسائل " شلبي".. القصيدة خارج البرواز
نشر في صوت البلد يوم 04 - 02 - 2016

ينقضي "يناير" كل عام، تاركًا ظلالاً بيضاء، فالشِّعر دائمًا ظله على الأرض ناصع، أما أشعته فأجمل ما تتلقاه السماء من هدايا.
في آخر أيام يناير/كانون الثاني وُلِدَ خيري شلبي (31 يناير 1938-9 سبتمبر 2011)، وفي سابع أيامه رحل إبراهيم أصلان (3 مارس 1935-7 يناير 2012)، وكأن قصيدة يناير، المتحررة من أطرها المألوفة، أبت إلا أن يشترك في كتابتها الصديقان.
الشعر، بمفومه الأخصب، ليس حكرًا على ما يكتبه الشعراء. أجمل ما في القصيدة الجديدة أن عاشقها يجدها في أحوال كثيرة خارج البرواز. ربما يندرج النسق الكلي للعمل تحت عنوان "رواية" أو "قصة"، وربما يبدو العمل "عبر نوعي"، بتعبير إدوار الخراط، وربما يكون العمل خارج دائرة الكتابة الحروفية أصلاً، وفي الأحوال جميعًا فالقصيدة لها حق الوجود، والاكتمال، بين ثنيات التفاصيل.
هواء "ديسمبر" كذلك، يحمل أنسامًا لا يمكن تسميتها بغير الشعر، فالعم الأكبر نجيب محفوظ (11 ديسبمر 1911 - 30 أغسطس 2006) "شاعر" وهو يقول على لسان أحد أبطال رواياته: "الحق، أن ما يكتنفه من طنين يمنعه من حسن الاستماع إلى الصمت". هذه قصيدة مكتملة بامتياز، من بين مئات تتفاوت بين القصر والطول، تتوزع في سطور جميع قصصه ورواياته، وتتجلى، ربما، بوضوح أكبر في "الشحاذ" و"الثلاثية" و"الحرافيش" و"أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة".
ومن أنسام "ديسمبر" أيضًا رائحة لا تخطئها القلوب المفتشة عن القصيدة، إذ يطل على المشهد إدوار الخراط (16 مارس 1926-1 ديسمبر 2015)، بقصائد أراد لها أن تكون قصائد، بدأها في الأربعينيات كمراهق في مدرسة "أبولو"، وواصلها في التسعينيات، ونشر بعضها في دواوين قليلة.
كما يطل بقصائد أخرى لم يقصد أن تكون قصائد، احتوتها سردياته الطويلة والقصيرة بين سطورها، إضافة إلى سطوره الشعرية التي جاءت كتعليقات على معارض تشكيلية (لعدلي رزق الله، ولأحمد مرسي مثلاً)، وصدر بعضها في كتب تذكارية.
من بين ما كتبه إدوار الخراط، في مرحلة الأربعينيات، ما أهداه إلى خطيبته (زوجته لاحقًا)، ولعله يعد من بواكير "الشعر المنثور"، حيث لم يلتزم بالتفاعيل الخليلية، ومنه (وفق ما باح به الأديب الراحل لكاتب هذه السطور ذات لقاء):
"إني أبتعد.. أبتعد
ظل لراحل على صفحة الصحراء
يمشي في خطى ثقال
إلى صومعة فيها أصيل السلام
بعيدًا عن الأنوار اللامعة
على ناصية الشوارع
وخلف أستار النوافذ"
أما قصائد الخراط الأخيرة، التي أعاد بها قراءة ذاته مع منتصف التسعينيات، والسنوات التالية، فمن نماذجها ذلك "التأويل الأول" المهدى إلى التشكيلي عدلي رزق الله:
"انطلقت أنقب عن بوارقك
والإسكندرية في عنقي
حدقتْ إليّ وأحدقت بي العيون الرحمية
وخفقت أجنحة الطيور الصخرية
تدق جدرانُ قلبي التي ضُربت نطاقًا حول سماء بيضاء لا أفق لها
شفافيتها عميقة البياض، محاربة
جفت عنها آبادٌ من البحار العتيقة".
ومن أنسام ديسمبر، إلى ظلال يناير الناصعة، حيث برقيات صاحب "مالك الحزين" و"وردية ليل" و"بحيرة المساء" و"عصافير النيل". والبرقيات، مثلما أنها من البرق، فهي من الشعر المضيء أيضًا.
الشعر، في سرديات إبراهيم أصلان، حالة من الرهافة والتلقائية والرشاقة، التقاء روحي بالتفاصيل الإنسانية والحياتية من غير صخب لغوي ولا التواء مجازي. الشعر هنا مقدرة على وزن الأمور، ليس فقط الكلمات، بميزان الذهب، حيث يقول المكتوبُ، ويقول أيضًا المسكوتُ عنه.
الشعر، في سرديات أصلان، هو وجه التجربة اليومية الشاحب، من غير رتوش. هو السمكة الفضية في لحظاتها الأخيرة، تتلوى في الشمس معلقة في صنارة صياد بائس. هو ما يقوله إنسان حزين عن النهر الذي لم يعد نهرًا: "تعاف الآن أن تروي القلب وتبل منه الريق. يرضيك ما في فمك من ملح الدموع، وطعم الخمر، والعطش".
قصيدة أصلان، ببساطة، هي تلك الضحكة البارقة، القادرة على شق سواد الليل وسواد القلوب في آن. قصيدته، هي تلك التي حكى عنها، دون أن يدري أنه يصف قصيدته:
"كيف كانت تعرف، لترسل ضحكتها الفاجرة تهدر هكذا في عز الصمت؟ تختار أوقاتًا يكون فيها الكرب قد سكن واحدة من حجرات البيت أو أكثر وتطلقها قارحة لتزري بالمصائب، وتشحن الخلق بالهيجان والبهجة. كيف كانت تعرف؟ هي الوحيدة داخل حجرتها البعيدة العالية، حيث السطوح الخالية ونجوم الليل والنيل".
وإلى طيف "شيخ الحكائين"، خيري شلبي، حيث نكون دائمًا في ملكوت قصيدة، وليس في رحاب قصة أو سيرة كالمتوقع. فالرجل شاعر، مثلما يرى الشعرُ ذاته، على الرغم من أنه لم يصدر أي ديوان. بدأ قصيدته بقلمه كشاعر حالم، وأتمها بقلبه الذي وسع العالم، واهبًا الوجود للشعراء، والشعراء للوجود.
كتب خيري شلبي الشعر في مرحلة مبكرة، وأطلقه ساخنًا في قصصه ورواياته مع أنين العاديين والمهمّشين، ومارسه إنسانًا في حياته كلها، وتلك ملحمته الأنقى والأبقى. قصائده التي اختطها بحبره قليلة، ختمها باعتزال شفيف، في حين جاءت خطوات عديدة له فوق هذه الأرض فيوضات شعرية، فهو الشاعر فعلاً لا قولاً، يكون الشعر حيث يكون.
وبتوليه الإشراف على تحرير مجلة "الشعر"، سقطت الكلفة تمامًا بينها وبين القارئ، فكأنما الشعر يدير ذاته بذاته على مدار أكثر من خمسة عشر عامًا (1990-2005).
وقد آمن خيري شلبي بأن الشعر "جوهر" قبل أن يكون "نظرية"، وبأن الذائقة النقية لدى المتخصص والقارئ على السواء قادرة على التفرقة بين الأصالة والزيف، فلا يمكن خداع متلقي الشعر بسهولة، فهو يحمل في ضميره حصاد مئات السنوات التي تألق خلالها "فن العربية الأول"، كما أحَب دائمًا أن يسميه.
الشعر اتقاد ودهشة، وحياة تورق حينما تورق الحياة، وحينما يورق ضِدُّها. يقول في قصيدته "عندما يورق الموت" (التي استعان بها في مجموعته القصصية "السنيورة" بعد سنوات من كتابتها):
"انفضَّ الليل
انسحبتْ ظلمته من بطن الكون
وحطت في صحن الدار
والنسوة أشباح
بقعٌ من طين أسود
محفوف بالزرقة
كلمات تتساقط في لوعة
تتناثر
تتكاثر
تتلوى في ذعر
وتصوّت في سمع الصبح".
اعتزل خيري شلبي الشعر ليتفرغ للقصة والرواية وفنون أخرى، لكنه لم يتخل عن شعريته. لقد ظلت الشعرية حساسيته التي يُفعّل بها عمله وَيُصرّف أمور يومه، ويفصل بها بين الأصيل والزائف من المعادن، والأشياء، والبشر، والكائنات جميعًا.
بميزان الشعرية، وحدها الشعرية، كانت صفحات مجلة الشعر تتسع للموهوبين بقدر ثقلهم ونقاء جوهرهم، وإن كانوا مغمورين أو لم ينشروا من قبل. أيضًا "البورتريه"، الذي كان يرسمه أسبوعيًّا في مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، كان تجليًّا لتلك الحساسية الشعرية، فالرجل لم يكن يقف عند ملامح عينية، بقدر ما كان يغوص ويستبطن ويستشفّ ويقرأ جوانيات الشخصية، بأبجدية تتخطى معطياتها التوصيلية، وتحلق في فضاء لا يبلغه إلا الشعراء النابهون.
لقد ظلت الشعرية تراود خيري شلبي في كتاباته، وتراوغه، لكن إطلالتها الأوضح كانت فيما يفعل، لا ما يكتب، فما يفعله الرجل فوق صفحة الحياة هو الشعر، وإن كان ما يكتبه في أوراقه قصة أو رواية أو مقالة.
وبتنامي موسوعيته الثقافية وانغماسه المذهل في القراءة المجدولة والتعمق المعرفي، بقيت الشعرية ألصق بروحه الطلقة الهاوية، المتحررة من الشروط والإطارات، فهو شاعر خارج المراسم والكارنفالات، مثلما أنه يميز الشعر الحقيقي والبشر الحقيقيين ويسمّي الوجوه بأسمائها بفطنة القلب البريء والروح الخضراء. "الشِّعر المعامَلة"، درس من كلمتين، شرحه خيري شلبي بعدد الحصص اليومية التي اتسعت لها حياته الخصبة، فأيّ شعر يكتبه الشاعر بعد ما فعله الرجل؟
في رسائل خيري شلبي، كما في برقيات صديقه إبراهيم أصلان، قليل هو الكلام، كثير هو الشعر.
ينقضي "يناير" كل عام، تاركًا ظلالاً بيضاء، فالشِّعر دائمًا ظله على الأرض ناصع، أما أشعته فأجمل ما تتلقاه السماء من هدايا.
في آخر أيام يناير/كانون الثاني وُلِدَ خيري شلبي (31 يناير 1938-9 سبتمبر 2011)، وفي سابع أيامه رحل إبراهيم أصلان (3 مارس 1935-7 يناير 2012)، وكأن قصيدة يناير، المتحررة من أطرها المألوفة، أبت إلا أن يشترك في كتابتها الصديقان.
الشعر، بمفومه الأخصب، ليس حكرًا على ما يكتبه الشعراء. أجمل ما في القصيدة الجديدة أن عاشقها يجدها في أحوال كثيرة خارج البرواز. ربما يندرج النسق الكلي للعمل تحت عنوان "رواية" أو "قصة"، وربما يبدو العمل "عبر نوعي"، بتعبير إدوار الخراط، وربما يكون العمل خارج دائرة الكتابة الحروفية أصلاً، وفي الأحوال جميعًا فالقصيدة لها حق الوجود، والاكتمال، بين ثنيات التفاصيل.
هواء "ديسمبر" كذلك، يحمل أنسامًا لا يمكن تسميتها بغير الشعر، فالعم الأكبر نجيب محفوظ (11 ديسبمر 1911 - 30 أغسطس 2006) "شاعر" وهو يقول على لسان أحد أبطال رواياته: "الحق، أن ما يكتنفه من طنين يمنعه من حسن الاستماع إلى الصمت". هذه قصيدة مكتملة بامتياز، من بين مئات تتفاوت بين القصر والطول، تتوزع في سطور جميع قصصه ورواياته، وتتجلى، ربما، بوضوح أكبر في "الشحاذ" و"الثلاثية" و"الحرافيش" و"أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة".
ومن أنسام "ديسمبر" أيضًا رائحة لا تخطئها القلوب المفتشة عن القصيدة، إذ يطل على المشهد إدوار الخراط (16 مارس 1926-1 ديسمبر 2015)، بقصائد أراد لها أن تكون قصائد، بدأها في الأربعينيات كمراهق في مدرسة "أبولو"، وواصلها في التسعينيات، ونشر بعضها في دواوين قليلة.
كما يطل بقصائد أخرى لم يقصد أن تكون قصائد، احتوتها سردياته الطويلة والقصيرة بين سطورها، إضافة إلى سطوره الشعرية التي جاءت كتعليقات على معارض تشكيلية (لعدلي رزق الله، ولأحمد مرسي مثلاً)، وصدر بعضها في كتب تذكارية.
من بين ما كتبه إدوار الخراط، في مرحلة الأربعينيات، ما أهداه إلى خطيبته (زوجته لاحقًا)، ولعله يعد من بواكير "الشعر المنثور"، حيث لم يلتزم بالتفاعيل الخليلية، ومنه (وفق ما باح به الأديب الراحل لكاتب هذه السطور ذات لقاء):
"إني أبتعد.. أبتعد
ظل لراحل على صفحة الصحراء
يمشي في خطى ثقال
إلى صومعة فيها أصيل السلام
بعيدًا عن الأنوار اللامعة
على ناصية الشوارع
وخلف أستار النوافذ"
أما قصائد الخراط الأخيرة، التي أعاد بها قراءة ذاته مع منتصف التسعينيات، والسنوات التالية، فمن نماذجها ذلك "التأويل الأول" المهدى إلى التشكيلي عدلي رزق الله:
"انطلقت أنقب عن بوارقك
والإسكندرية في عنقي
حدقتْ إليّ وأحدقت بي العيون الرحمية
وخفقت أجنحة الطيور الصخرية
تدق جدرانُ قلبي التي ضُربت نطاقًا حول سماء بيضاء لا أفق لها
شفافيتها عميقة البياض، محاربة
جفت عنها آبادٌ من البحار العتيقة".
ومن أنسام ديسمبر، إلى ظلال يناير الناصعة، حيث برقيات صاحب "مالك الحزين" و"وردية ليل" و"بحيرة المساء" و"عصافير النيل". والبرقيات، مثلما أنها من البرق، فهي من الشعر المضيء أيضًا.
الشعر، في سرديات إبراهيم أصلان، حالة من الرهافة والتلقائية والرشاقة، التقاء روحي بالتفاصيل الإنسانية والحياتية من غير صخب لغوي ولا التواء مجازي. الشعر هنا مقدرة على وزن الأمور، ليس فقط الكلمات، بميزان الذهب، حيث يقول المكتوبُ، ويقول أيضًا المسكوتُ عنه.
الشعر، في سرديات أصلان، هو وجه التجربة اليومية الشاحب، من غير رتوش. هو السمكة الفضية في لحظاتها الأخيرة، تتلوى في الشمس معلقة في صنارة صياد بائس. هو ما يقوله إنسان حزين عن النهر الذي لم يعد نهرًا: "تعاف الآن أن تروي القلب وتبل منه الريق. يرضيك ما في فمك من ملح الدموع، وطعم الخمر، والعطش".
قصيدة أصلان، ببساطة، هي تلك الضحكة البارقة، القادرة على شق سواد الليل وسواد القلوب في آن. قصيدته، هي تلك التي حكى عنها، دون أن يدري أنه يصف قصيدته:
"كيف كانت تعرف، لترسل ضحكتها الفاجرة تهدر هكذا في عز الصمت؟ تختار أوقاتًا يكون فيها الكرب قد سكن واحدة من حجرات البيت أو أكثر وتطلقها قارحة لتزري بالمصائب، وتشحن الخلق بالهيجان والبهجة. كيف كانت تعرف؟ هي الوحيدة داخل حجرتها البعيدة العالية، حيث السطوح الخالية ونجوم الليل والنيل".
وإلى طيف "شيخ الحكائين"، خيري شلبي، حيث نكون دائمًا في ملكوت قصيدة، وليس في رحاب قصة أو سيرة كالمتوقع. فالرجل شاعر، مثلما يرى الشعرُ ذاته، على الرغم من أنه لم يصدر أي ديوان. بدأ قصيدته بقلمه كشاعر حالم، وأتمها بقلبه الذي وسع العالم، واهبًا الوجود للشعراء، والشعراء للوجود.
كتب خيري شلبي الشعر في مرحلة مبكرة، وأطلقه ساخنًا في قصصه ورواياته مع أنين العاديين والمهمّشين، ومارسه إنسانًا في حياته كلها، وتلك ملحمته الأنقى والأبقى. قصائده التي اختطها بحبره قليلة، ختمها باعتزال شفيف، في حين جاءت خطوات عديدة له فوق هذه الأرض فيوضات شعرية، فهو الشاعر فعلاً لا قولاً، يكون الشعر حيث يكون.
وبتوليه الإشراف على تحرير مجلة "الشعر"، سقطت الكلفة تمامًا بينها وبين القارئ، فكأنما الشعر يدير ذاته بذاته على مدار أكثر من خمسة عشر عامًا (1990-2005).
وقد آمن خيري شلبي بأن الشعر "جوهر" قبل أن يكون "نظرية"، وبأن الذائقة النقية لدى المتخصص والقارئ على السواء قادرة على التفرقة بين الأصالة والزيف، فلا يمكن خداع متلقي الشعر بسهولة، فهو يحمل في ضميره حصاد مئات السنوات التي تألق خلالها "فن العربية الأول"، كما أحَب دائمًا أن يسميه.
الشعر اتقاد ودهشة، وحياة تورق حينما تورق الحياة، وحينما يورق ضِدُّها. يقول في قصيدته "عندما يورق الموت" (التي استعان بها في مجموعته القصصية "السنيورة" بعد سنوات من كتابتها):
"انفضَّ الليل
انسحبتْ ظلمته من بطن الكون
وحطت في صحن الدار
والنسوة أشباح
بقعٌ من طين أسود
محفوف بالزرقة
كلمات تتساقط في لوعة
تتناثر
تتكاثر
تتلوى في ذعر
وتصوّت في سمع الصبح".
اعتزل خيري شلبي الشعر ليتفرغ للقصة والرواية وفنون أخرى، لكنه لم يتخل عن شعريته. لقد ظلت الشعرية حساسيته التي يُفعّل بها عمله وَيُصرّف أمور يومه، ويفصل بها بين الأصيل والزائف من المعادن، والأشياء، والبشر، والكائنات جميعًا.
بميزان الشعرية، وحدها الشعرية، كانت صفحات مجلة الشعر تتسع للموهوبين بقدر ثقلهم ونقاء جوهرهم، وإن كانوا مغمورين أو لم ينشروا من قبل. أيضًا "البورتريه"، الذي كان يرسمه أسبوعيًّا في مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، كان تجليًّا لتلك الحساسية الشعرية، فالرجل لم يكن يقف عند ملامح عينية، بقدر ما كان يغوص ويستبطن ويستشفّ ويقرأ جوانيات الشخصية، بأبجدية تتخطى معطياتها التوصيلية، وتحلق في فضاء لا يبلغه إلا الشعراء النابهون.
لقد ظلت الشعرية تراود خيري شلبي في كتاباته، وتراوغه، لكن إطلالتها الأوضح كانت فيما يفعل، لا ما يكتب، فما يفعله الرجل فوق صفحة الحياة هو الشعر، وإن كان ما يكتبه في أوراقه قصة أو رواية أو مقالة.
وبتنامي موسوعيته الثقافية وانغماسه المذهل في القراءة المجدولة والتعمق المعرفي، بقيت الشعرية ألصق بروحه الطلقة الهاوية، المتحررة من الشروط والإطارات، فهو شاعر خارج المراسم والكارنفالات، مثلما أنه يميز الشعر الحقيقي والبشر الحقيقيين ويسمّي الوجوه بأسمائها بفطنة القلب البريء والروح الخضراء. "الشِّعر المعامَلة"، درس من كلمتين، شرحه خيري شلبي بعدد الحصص اليومية التي اتسعت لها حياته الخصبة، فأيّ شعر يكتبه الشاعر بعد ما فعله الرجل؟
في رسائل خيري شلبي، كما في برقيات صديقه إبراهيم أصلان، قليل هو الكلام، كثير هو الشعر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.